«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط

تداعيات عالمية لاعتراف أميركا بالقدس عاصمة لإسرائيل

«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط
TT

«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط

«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط

الذي يعرفه الفلسطينيون جيداً، أنه لا يمكن توقيع اتفاق سلام وإنهاء الصراع مع إسرائيل، من دون أن تكون القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية، وذلك لأنها باختصار «القدس»... المدينة التي تضم أقدس المقدسات الإسلامية والمسيحية، و«درة تاج المدن الفلسطينية»، والوحيدة المرتبطة بشكل عميق بالرواية والتاريخ والدين.
ولا يفهم الفلسطينيون وحدهم هذه الحقيقة. بل يفهمها العالم كله، ولذا امتنع عن تأييد ضم إسرائيل للمدينة بشقيها الشرقي والغربي، حتى جاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأعلن الأربعاء الماضي، اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل... في «إعلان» وضع الجميع، العالم والفلسطينيين والعرب، في اختبار صعب ومعقد، وفتح الأبواب على احتمالات لا حصر لها.
في مرحلة ما، صعبة ومتقدمة في مفاوضات كامب ديفيد في الولايات المتحدة قبل 17 سنة، التي حضرها كل من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، ضغط الأميركيون والإسرائيليون على عرفات من أجل «حل وسط» في القدس. ذلك «الحل» يشمل سيادة فلسطينية مع ترتيبات سيادية لإسرائيل في أمتار محددة في المسجد الأقصى، إلا أن عرفات أمام ذهول كلينتون وطاقمه، رفض ذلك بشدة، قبل أن يحتدّ النقاش ويتهمه كلينتون بأنه جاء هنا ليقول «لا» فقط. ثم ضغط عليه أكثر واستعان بطاقمه من أجل قبول أو تأجيل الاتفاق على القدس، فناداه عرفات لحضور جنازته إذا وافق على التنازل عن أمتار من القدس أو تركها بلا حل.
كان عرفات الزعيم الفلسطيني الأقدر على إنجاز اتفاق بهذا الشكل، لأنه كان يملك آنذاك كل شيء؛ كاريزما كبيرة، وشعبية جارفة، وتاريخاً طويلاً يحترمه الفلسطينيون كثيراً، و«قبضة حديدية» على السلطة، ودعماً عربياً وغربياً شبه مطلق، لكنه لم يفعل. وفق هذا الفهم «العرفاتي» يعمل القادة الفلسطينيون الآخرون، إذ في فلسطين ثمة مقولة معروفة «لا أحد يمكن له أن يقدم تنازلاً لم يقدمه عرفات». واليوم بعد نحو 3 عقود من المفاوضات، التي لم تحسم ملفاً واحداً، حتى الملفات الأسهل من القدس، يعترف الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب بالقدس «عاصمة كاملة لإسرائيل»، منحازاً إلى الرواية الإسرائيلية، ومتجاهلاً الروايتين الفلسطينية والعربية التاريخية والدينية... وهذا بجانب تدميره، كما يقول منتقدو الرئيس الأميركي، عملية السلام المترنحة، ووضعه الشرق الأوسط كله على مرجل يغلي، ودفعه الفلسطينيين إلى الحائط... مجبراً إياهم على مواقف وقرارات ما كانوا يرغبون بها في يوم من الأيام.

هدوء ما قبل العاصفة
في الحقيقة، لم يتوقع المسؤولون الفلسطينيون إقدام ترمب على هذه الخطة، ربما لأنهم اعتقدوا، على الأقل، أن الصفقة التي يحضّر لها الرجل ستمنعه من خطوات تدميرية، ولأنه أيضاً يحظى بعلاقات جيدة مع دول عربية ترفض المسّ بالمدينة، لكن ترمب اعتبر أن خطوته هذه تمثل «نهجاً جديداً» تجاه النزاع العربي الإسرائيلي. وهو مبرر لم يفهمه الفلسطينيون الذين وضعهم الرئيس الأميركي في «الزاوية» ودفعهم من أجل مواجهةٍ ربما لا قِبلَ لهم بها.
الآن يدرس الفلسطينيون خياراتهم الصعبة. وبصراحة قال مصدر فلسطيني كبير لـ«الشرق الأوسط» إن «الخيارات صعبة لكن لا يمكن أن يمر القرار مرور الكرام». وأضاف «ندرك الحاجة إلى الأميركيين. لسنا دولة يمكن أن تحارب الولايات المتحدة، لكن سنقول لهم (لا) كبيرة مهما كلف الأمر». وأردف المصدر أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي بدأ مشاورات مكثفة مع زعماء دول غربية وعربية، سيعقد سلسلة اجتماعات للهيئات القيادية؛ مركزية فتح، وتنفيذية منظمة التحرير، واجتماع استثنائي للمجلس المركزي لمنظمة التحرير. وتابع: «سيتم التشاور والنظر في عدة اقتراحات. سنبحث سبل الرد».
على الطاولة اقتراحات مختلفة، بعضها ستقدمه فصائل مثل حركة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ستحضران اجتماع المجلس المركزي. ومنها قطع العلاقات مع واشنطن، ورفض أي دور لها في العملية السلمية، وتقديم شكوى في مجلس الأمن. وهذا مع إمكانية الدعوة إلى الانسحاب من العملية السلمية وسحب الاعتراف بإسرائيل، واستئناف الانضمام إلى المؤسسات الدولية، وتصعيد مبرمج على الأرض يشمل احتجاجات في القدس نفسها، وتقارباً أكبر مع «حماس» يتضمن تشكيل «حكومة وحدة» وطنية تشارك فيها الحركة الإسلامية، إضافةً إلى تحديد العلاقة مع إسرائيل.
ومن ثمّ، سيكون على المجلس المركزي -وهو أعلى هيئة فلسطينية تشريعية- في حالة انعقاده، البت في هذه القرارات التي يبدو بعضها صعب التطبيق بالنسبة إلى الفلسطينيين المحكومين باتفاقيات دولية ومحلية، ويتلقون مساعدات من الأميركيين كذلك.
محمد اشتية، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، قال إن القيادة الفلسطينية «ستقوم بمراجعة تامة لاتفاق أوسلو»، معلناً أن المفاوضات بشكلها السابق «ذهبت إلى غير رجعة». وتحدث اشتية عن تجسيد الدولة الفلسطينية كأحد الخيارات، وطالب كذلك الأمم المتحدة بإرسال فريق متخصص لترسيم حدود دولة فلسطين، على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967.
وتابع اشتية موضحاً: «لقد تم تخطي كل الخطوط الحمراء، وإذا كان يريد (الرئيس الأميركي) الضغط علينا ويعتقد أن ذلك جزء من تحضير لمسار سياسي فإنه مسار فاشل سلفاً. الولايات المتحدة لم تعد ذات صلة». ثم أعلن عن «نهاية حقبة تاريخية بدأت في 1993»، قائلاً: «سنراجع (أوسلو)، وأعتقد أن المفاوضات بشكلها السابق ذهبت بلا رجعة... سنسرع المصالحة ولا رجعة في ذلك... سنرتب البيت الداخلي من أجل إعادة وظيفة السلطة». كما أوضح أن القيادة تدرس إبطال مشروع القرار الخاص بالقدس في المحاكم والمحافل الدولية. وبهذا يكون الفلسطينيون حدّدوا، كخيارات أولية، إخراج واشنطن من عملية السلام، والتوجه إلى مؤسسات دولية، وتقديم شكوى في مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة، وإعادة تعريف وظيفة السلطة، ووضع «أوسلو» على طاولة التشريح.

الشكوى للأمم المتحدة
من جهة أخرى، كان المراقب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة السفير رياض منصور، قد أعلن أن دولة فلسطين قدمت شكوى حول القدس ضد الولايات المتحدة، حيث بعثت القائمة بالأعمال بالإنابة السفيرة فداء عبد الهادي ناصر، برسائل متطابقة إلى مندوب اليابان (رئيس مجلس الأمن هذا الشهر)، وإلى الأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس الجمعية العامة.
ودعت السلطة في الرسالة، وفي ضوء «القرار المؤسف للغاية» الذي أعلنه الرئيس الأميركي، «في مخالفة لقرارات مجلس الأمن والإجماع الدولي الطويل الأمد، مجلس الأمن إلى معالجة هذه المسألة الحرجة دون تأخير، والعمل بسرعة على الوفاء بمسؤولياته». وطالبت المجتمع الدولي «بضرورة إعادة تأكيد موقفه الواضح والقانوني بشأن القدس، ورفضه جميع الانتهاكات التي تمس بهذا المركز القانوني من أي كان ومتى كان، وحثته على المطالبة بإلغاء القرار الأميركي».
وإضافة إلى ذلك، يفكر الفلسطينيون في التوجه إلى محاكم دولية. وهم يأملون في النهاية أن يسفر كل هذا الضغط عن تراجع الولايات المتحدة عن القرار. وفي هذا السياق قال مسؤول فلسطيني (طلب التكتم على اسمه) لـ«الشرق الأوسط»: «التراجع ممكن، ولمَ لا. لكننا نعرف أن التراجع السريع صعب». وأضاف: «الموقف الفلسطيني والعربي والدولي بشكل ما قد يهدد مصالح وعلاقات الولايات المتحدة، والضغط الشعبي قد يغيّر المعادلة».
ولكن، بينما تفضل القيادة الفلسطينية التروّي، لم ينتظر الشارع الفلسطيني كثيراً. فلقد خرج الفلسطينيون في مظاهرات غضب شعبية واشتبكوا مع الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية -بما فيها القدس وقطاع غزة- وهتفوا ضد الخطوة الأميركية في خصوص القدس. وتظاهر الفلسطينيون خصوصاً عند نقاط التماسّ في الضفة وعند الحدود في قطاع غزة، وأحرقوا صوراً وأعلاماً أميركية، ورشقوا قوات إسرائيلية بالحجارة والزجاجات الفارغة، ورد الجنود بالرصاص الحي والمطاط وقنابل الغاز والصوت. وتفجّرت هذه المواجهات في ظل دعوات الفصائل الفلسطينية للتعبير عن الغضب الشعبي. في المقابل، ثمة مَن يدفع إلى أكثر من ذلك، إذ تريد حركة «حماس»، ومعها «الجهاد الإسلامي»، تفجير «انتفاضة» جديدة. وكان إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، واضحاً حين دعا إلى إطلاق «انتفاضة جديدة». وهذه الدعوات لم تكن مفاجئة في إسرائيل التي تحضّرت تماماً لردود فعل مع قلق متنامٍ.

قلق إسرائيلي يوازي الابتهاج
أما داخل إسرائيل، صحيح أن ثمة قلقاً من تصعيد محتمل، لكن لا بد من القول إن إسرائيل لم تتلقَّ عبر عقود طويلة هدية مثل هذه. حتى إن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قارن بين اعتراف ترمب بالقدس عاصمةً لإسرائيل وبين «إعلان بلفور»، واصفاً اعتراف ترمب بأنه «لحظة كبيرة في تاريخ القدس والصهيونية». أما بالنسبة إلى عامل القلق، فإنه موجود ويكاد يوازي الابتهاج.
ولقد أوصت قيادة الجيش الإسرائيلي مختلف الوحدات العسكرية المنخرطة في تدريبات، بأن تكون متأهبة لنقلها في أي لحظة إلى الأراضي الفلسطينية، وذلك تحسباً من توسّع المواجهات مع الفلسطينيين. واتُّخذت التوصية في ختام مناقشات أجرتها هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي جرى خلالها بحث فرص تدهور الأوضاع الأمنية خلال الأيام المقبلة على ضوء قرار ترمب. وأكدت قيادة الأركان الإسرائيلية «جاهزية الجيش للتصدي لأي مواجهات قد تندلع ميدانياً»، استجابةً للتصريحات والدعوات الصادرة عن الفصائل الفلسطينية والداعية إلى تصعيد الحراك من خلال فعاليات الغضب والمظاهرات. وشملت إجراءات الحيطة في المنطقة، الأميركيين أنفسهم. إذ طلبت وزارة الخارجية الأميركية من دبلوماسييها الامتناع عن السفر إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية حتى يوم 20 من ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وأصدرت كذلك بياناً موجهاً إلى المواطنين الأميركيين يحذّر من زيارة «البلدة القديمة» في القدس والضفة الغربية.

ردود فعل عربية ودولية
وكما هو معروف ومتوقع، رفْض القرار الأميركي لم يقتصر على الفلسطينيين، بل رفضته غالبية الدول في العالم والعربية والإسلامية، إذ عدت جامعة الدول العربية القرار بأنه سابقة تتناقض مع سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1995، وتنتهك أيضاً الاتفاقيات التعاقدية بما فيها اتفاقية أوسلو.
وعلى الصعيد الدولي، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إن القرار «سيهدد السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإن القدس مرتبطة بالحل النهائي بينهما، ولا بديل عن حل الدولتين واعتبار القدس عاصمة لكل من إسرائيل وفلسطين». وأعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه البالغ بشأن القرار وتداعياته المحتملة على آفاق السلام. وقالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إنها ضد القرار قبل التوصل لاتفاق بشأن الوضع النهائي. واتخذت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موقفاً مشابهاً، وقالت إنها لا تدعم قرار ترمب حول القدس «لكونه يخالف القانون الدولي». وكان هذا ما ركز عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شدد على أن «وضع القدس يحدده الإسرائيليون والفلسطينيون من خلال المفاوضات». وبينما قال وزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو، إن بلاده «تشعر بالفزع» من تداعيات القرار، وصف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان القرار بأنه «يبعث قلقاً بالغاً حيال السلام والاستقرار... وهو غير مسؤول وغير قانوني»، قال متحدث باسم الكرملين الروسي إن «القرار الأميركي لا يساعد على التسوية بالشرق الأوسط».

أميركا: ترحيب وانتقادات
وفي الولايات المتحدة، على الرغم من أن كثيراً من المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين رحبوا بقرار ترمب حول القدس، انتقد آخرون هذه الخطوة. إذ قال توماس فريدمان، الكاتب الأميركي بصحيفة «نيويورك تايمز»، إن الرئيس الأميركي «قدّم جوهرة تاج السياسة الخارجية للولايات المتحدة دون مقابل بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل». وأضاف فريدمان في مقابلة مع شبكة «سي إن إن»، أن «مسألة موقع السفارة الأميركية ونقلها من تل أبيب إلى القدس، كانت أكثر القضايا حساسية في السياسة الخارجية الأميركية على مدى 70 سنة، والآن تقديمنا لها هكذا، ونقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بشكل شخصي، فأنا لست ضد ذلك لو كان جاء في الإطار الصحيح، ولست ضد ذلك الآن إن كان هناك مقابل لذلك».
ثم تابع قائلاً: «تخيل ما كان يمكننا الحصول عليه في المقابل؟ نتنياهو أراد ذلك بشدة وهو يمر بأزمة سياسية. كان بإمكان ترمب أن يقول له أنت تريد هذا الاعتراف بشدة، ولكن في المقابل أريد أن تصدر حظراً على بناء أي مستوطنات في الضفة الغربية، لسببين: الأول، للحفاظ على احتمال التوصل لحل الدولتين. والثاني، للحفاظ على الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن عوضاً عن ذلك قدم ترمب (لنتنياهو) مجاناً واحدة من جواهر تاج السياسة الخارجية الأميركية».
كذلك حذر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من «هشاشة الديمقراطية... ومخاطر صعود النازية»، مستشهداً بتجربة ألمانيا في عهد أدولف هتلر. وقال أوباما خلال مشاركته في اجتماع لنادي شيكاغو الاقتصادي، أول من أمس (الخميس): «الخطر ينمو... ويجب أن نعتني بحديقة الديمقراطية هذه، وإلا فقد تنهار الأوضاع بسرعة». ومع أن أوباما لم يذكر أحداً بالاسم، أو سبب تصريحاته، لكن تصريحاته تشير بشكل ضمني إلى الرئيس الحالي وقراراته.

الخطوة مؤجلة والموقع ينتظر
على صعيد آخر، قال وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إنه من غير المرجح نقل السفارة الأميركية إلى القدس هذا العام أو حتى الذي يليه. لكن نظرياً، ثمة قطعة أرض في القدس مخصصة لبناء السفارة الأميركية الجديدة منذ عام 1989. ففي عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، وتحديداً في آخر يوم من فترته الرئاسية عام 1989. وقّع السفير الأميركي لدى إسرائيل وقتها ويليام براون، عقد استئجار قطعة أرض في القدس الغربية، قيمته دولار واحد في العام، لمدة 99 سنة. واليوم فإن قطعة الأرض تلك الواقعة في منطقة مرغوب بها جداً من القدس، على أطراف حي «تل بيوت»، ما زالت مهملة غير مسكونة، لكن ليس أكيداً أن تُعتمد.
ويقول مسؤولون أميركيون إنه بعد تفجير تنظيم القاعدة السفارتين الأميركيتين في كل من تنزانيا وكينيا عام 1998، فإن معايير أمنية جديدة فُرضت على جميع السفارات الأميركية، أهمها أن تفصل بين مبانيها والشوارع المحاذية مسافة 100 قدم (30 متراً)؛ تحسباً لأي انفجار سيارة ملغمة أو اعتداء آخر، وفي ضوء القوانين الجديدة، فإن تلك الأرض ليست كبيرة بما فيه الكفاية.
ثمة خيار محتمل آخر، هو أن تستخدم الولايات المتحدة مبنى آخر من مبانيها في القدس، فالخارجية الأميركية تدير عدة مبانٍ قنصلية لها في القدس، تقدم خدمات للمدينة إضافة إلى الأراضي الفلسطينية، ونظرياً يمكن لأي منها أن يُحوَّل إلى سفارة؛ أقدم تلك المباني هو مبنى القنصلية الأميركية العامة الذي أنشئ عام 1912 والكائن في 18 شارع أغرون على مقربة من القدس القديمة.
ثمة مبنى قنصلي أميركي آخر أحدث في حي «أرنونا» بالقدس، لا يبعد كثيراً عن الأرض المستأجرة في «تل بيوت»، لكن عكس مبنى شارع أغرون وعكس قطعة أرض «تل بيوت» الواقعَين ضمن «الخط الأخضر» الذي يحدد أجزاء القدس التي كانت تحت سيطرة إسرائيل قبل حرب 1967، فإن مبنى «أرنونا» القنصلي يقع على حدود عام 1967 بين مناطق السيطرة الإسرائيلية ومنطقة كانت آنذاك منزوعة السلاح بعد اتفاق هدنة 1949. وكانت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية قد ذكرت العام الماضي، أن مسؤولين في القدس قالوا إن المبنى مصمم خصيصاً لكي يغدو سفارة ذات يوم. وعلى الرغم من أن متحدثة باسم الخارجية الأميركية رفضت ذكر عدد الموظفين في مجمع «أرنونا»، فإن تقارير من مكتب المفتش العام بالخارجية الأميركية قالت إن 582 موظفاً قنصلياً أميركياً يعملون متوزعين في أنحاء القدس، مقارنةً بـ960 موظفاً بالسفارة الأميركية في تل أبيب.
في نهاية المطاف ثمة قدس واحدة يعرفها الفلسطينيون والعرب والمسلمون والمسيحيون. قدس تضم أقدس المقدسات وتاريخاً طويلاً وبيوتاً عتيقة وشوارع سار عليها الأنبياء، جذورها ضاربة في التاريخ، وكل طبقة أرض فيها تشهد على معركة دامية سابقة. إنها كما وصفها الشاعر الراحل محمود درويش «امرأة من حليب البلابل».



الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
TT

الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)

كثّفت الجماعة الحوثية استهدافها مدرسي الجامعات والأكاديميين المقيمين في مناطق سيطرتها بحملات جديدة، وألزمتهم بحضور دورات تعبوية وزيارات أضرحة القتلى من قادتها، والمشاركة في وقفات تنظمها ضد الغرب وإسرائيل، بالتزامن مع الكشف عن انتهاكات خطيرة طالتهم خلال فترة الانقلاب والحرب، ومساعٍ حثيثة لكثير منهم إلى الهجرة.

وذكرت مصادر أكاديمية في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء لـ«الشرق الأوسط» أن مدرسي الجامعات العامة والخاصة والموظفين في تلك الجامعات يخضعون خلال الأسابيع الماضية لممارسات متنوعة؛ يُجبرون خلالها على المشاركة في أنشطة خاصة بالجماعة على حساب مهامهم الأكاديمية والتدريس، وتحت مبرر مواجهة ما تسميه «العدوان الغربي والإسرائيلي»، ومناصرة فلسطينيي غزة.

وتُلوّح الجماعة بمعاقبة مَن يتهرّب أو يتخلّف من الأكاديميين في الجامعات العمومية، عن المشاركة في تلك الفعاليات بالفصل من وظائفهم، وإيقاف مستحقاتهم المالية، في حين يتم تهديد الجامعات الخاصة بإجراءات عقابية مختلفة، منها الغرامات والإغلاق، في حال عدم مشاركة مدرسيها وموظفيها في تلك الفعاليات.

أكاديميون في جامعة صنعاء يشاركون في تدريبات عسكرية أخضعهم لها الحوثيون (إعلام حوثي)

وتأتي هذه الإجراءات متزامنة مع إجراءات شبيهة يتعرّض لها الطلاب الذين يجبرون على حضور دورات تدريبية قتالية، والمشاركة في عروض عسكرية ضمن مساعي الجماعة لاستغلال الحرب الإسرائيلية على غزة لتجنيد مقاتلين تابعين لها.

انتهاكات مروّعة

وكان تقرير حقوقي قد كشف عن «انتهاكات خطيرة» طالت عشرات الأكاديميين والمعلمين اليمنيين خلال الأعوام العشرة الماضية.

وأوضح التقرير الذي أصدرته «بوابة التقاضي الاستراتيجي»، التابعة للمجلس العربي، بالتعاون مع الهيئة الوطنية للأسرى والمختطفين، قبل أسبوع تقريباً، وغطّي الفترة من مايو (أيار) 2015، وحتى أغسطس (آب) الماضي، أن 1304 وقائع انتهاك طالت الأكاديميين والمعلمين في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية التي اتهمها باختطافهم وتعقبهم، ضمن ما سمّاها بـ«سياسة تستهدف القضاء على الفئات المؤثرة في المجتمع اليمني وتعطيل العملية التعليمية».

أنشطة الجماعة الحوثية في الجامعات طغت على الأنشطة الأكاديمية والعلمية (إكس)

ووثّق التقرير حالتي وفاة تحت التعذيب في سجون الجماعة، وأكثر من 20 حالة إخفاء قسري، منوهاً بأن من بين المستهدفين وزراء ومستشارين حكوميين ونقابيين ورؤساء جامعات، ومرجعيات علمية وثقافية ذات تأثير كبير في المجتمع اليمني.

وتضمن التقرير تحليلاً قانونياً لمجموعة من الوثائق، بما في ذلك تفاصيل جلسات التحقيق ووقائع التعذيب.

ووفق تصنيف التقرير للانتهاكات، فإن الجماعة الحوثية نفّذت 1046 حالة اختطاف بحق مؤثرين، وعرضت 124 منهم للتعذيب، وأخضعت اثنين من الأكاديميين و26 من المعلمين لمحاكمات سياسية.

وتشمل الانتهاكات التي رصدها التقرير، الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب الجسدي والنفسي والمحاكمات الصورية وأحكام الإعدام.

عشرات الأكاديميين لجأوا إلى طلب الهجرة بسبب سياسات الإقصاء الحوثية وقطع الرواتب (إكس)

وسبق أن كشف تقرير تحليلي لأوضاع الأكاديميين اليمنيين عن زيادة في طلبات العلماء والباحثين الجامعيين للهجرة خارج البلاد، بعد تدهور الظروف المعيشية، واستمرار توقف رواتبهم، والانتهاكات التي تطال الحرية الأكاديمية.

وطبقاً للتقرير الصادر عن معهد التعليم الدولي، ارتفعت أعداد الطلبات المقدمة من باحثين وأكاديميين يمنيين لصندوق إنقاذ العلماء، في حين تجري محاولات لاستكشاف الطرق التي يمكن لقطاع التعليم الدولي من خلالها مساعدة وتغيير حياة من تبقى منهم في البلاد إلى الأفضل.

إقبال على الهجرة

يؤكد المعهد الدولي أن اليمن كان مصدر غالبية الطلبات التي تلقّاها صندوق إنقاذ العلماء في السنوات الخمس الماضية، وتم دعم أكثر من ثلثي العلماء اليمنيين داخل المنطقة العربية وفي الدول المجاورة، بمنحة قدرها 25 ألف دولار لتسهيل وظائف مؤقتة.

قادة حوثيون يتجولون في جامعة صنعاء (إعلام حوثي)

لكن تحديات التنقل المتعلقة بالتأشيرات وتكلفة المعيشة والاختلافات اللغوية الأكاديمية والثقافية تحد من منح الفرص للأكاديميين اليمنيين في أميركا الشمالية وأوروبا، مقابل توفر هذه الفرص في مصر والأردن وشمال العراق، وهو ما يفضله كثير منهم؛ لأن ذلك يسمح لهم بالبقاء قريباً من عائلاتهم وأقاربهم.

وخلص التقرير إلى أن العمل الأكاديمي والبحثي داخل البلاد «يواجه عراقيل سياسية وتقييداً للحريات ونقصاً في الوصول إلى الإنترنت، ما يجعلهم يعيشون فيما يُشبه العزلة».

وأبدى أكاديمي في جامعة صنعاء رغبته في البحث عن منافذ أخرى قائمة ومستمرة، خصوصاً مع انقطاع الرواتب وضآلة ما يتلقاه الأستاذ الجامعي من مبالغ، منها أجور ساعات تدريس محاضرات لا تفي بالاحتياجات الأساسية، فضلاً عن ارتفاع الإيجارات.

إجبار الأكاديميين اليمنيين على المشاركة في الأنشطة الحوثية تسبب في تراجع العملية التعليمية (إكس)

وقال الأكاديمي الذي طلب من «الشرق الأوسط» التحفظ على بياناته خوفاً على سلامته، إن الهجرة ليست غاية بقدر ما هي بحث عن وظيفة أكاديمية بديلة للوضع المأساوي المعاش.

ويقدر الأكاديمي أن تأثير هذه الأوضاع أدّى إلى تدهور العملية التعليمية في الجامعات اليمنية بنسبة تتجاوز نصف الأداء في بعض الأقسام العلمية، وثلثه في أقسام أخرى، ما أتاح المجال لإحلال كوادر غير مؤهلة تأهيلاً عالياً، وتتبع الجماعة الحوثية التي لم تتوقف مساعيها الحثيثة للهيمنة على الجامعات ومصادرة قرارها، وصياغة محتوى مناهجها وفقاً لرؤية أحادية، خصوصاً في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

وفي حين فقدت جامعة صنعاء -على سبيل المثال- دورها التنويري في المجتمع، ومكانتها بصفتها مؤسسة تعليمية، تُشجع على النقد والتفكير العقلاني، تحسّر الأكاديمي اليمني لغياب مساعي المنظمات الدولية في تبني حلول لأعضاء هيئة التدريس، سواء في استيعابهم في مجالات أو مشروعات علمية، متمنياً ألا يكون تخصيص المساعدات لمواجهة المتطلبات الحياتية للأكاديميين غير مشروط أو مجاني، وبما لا يمس كرامتهم.