«الشرق الأوسط» في مهرجان دبي السينمائي الدولي 3 ‬: رسالة أميركية إيجابية وأخرى عراقية سلبية

حين يكون الإيزيديون أفضل من سواهم

TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان دبي السينمائي الدولي 3 ‬: رسالة أميركية إيجابية وأخرى عراقية سلبية

فيلم الافتتاح الذي عُـرض يوم الأربعاء تمهيداً للدورة الجديدة من مهرجان دبي السينمائي السنوي، التي تمتد حتى ليل توزيع الجوائز في 13 من الشهر الجاري، كان اختياراً مناسباً ومهماً (على مشاكله) تتوزع في أركانه رسالة إيجابية حول التسامح والبحث الذي يستطيع قيادة الفرد إلى معرفة الآخر وقبوله والدفاع عن مصالحه.
أحد أفلام ما بعد فيلم الافتتاح أمر آخر تماماً: «73 درجة مئوية» لباز دنخا شمعون من أسوأ ما اختاره المهرجان، شكلاً ومضموناً من أعمال في سنواته. في محاذاته تم عرض أعمال جيدة عدة. بعضها جيد لتميّـزه وبعضها الآخر جيد بمجرد المقارنة.
لكن لنبق أولاً مع فيلم الافتتاح وهو «عداوات» للمخرج سكوت كوبر وبطولة كرستيان بيل ورزاموند مع وس ستودي (من قبيلة شيروكي) الذي يمثل محور الأحداث في هذا الوسترن المحمّـل بأعباء سياسية ترمي ظلالها على الأوضاع الأميركية والعالمية كون نتاجاتها واحدة في كل ظرف وزمان ومكان.
توزيع عادل
إذ يبدأ «عداوات» بمشهد هجوم لرجال من الهنود الحمر من قبيلة كومانشي على منزل لعائلة بيضاء يُقتل فيها الزوج والأولاد أمام عيني الأم الثكلى، يؤسس لما سيلي، فتلك الأم روزالي (روزامند بايك) ستشترك في رحلة يقودها الكابتن بلوكر (كرستيان بيل) لاصطحاب زعيم هندي من قبيلة أخرى (وس سترودي) من ولاية أريزونا، حيث تبدأ الأحداث إلى ولاية مونتانا حيث تنتهي.
كابتن بلوكر غير راض عن اختياره لهذه المهمة فهو أولاً عنصري يكره الأميركيين الأصليين وثانياً يكن للزعيم يلو هوك عداوة كبيرة من أيام القبض عليه وسجنه.
إذ تنطلق الرحلة ببضعة رجال وبالزعيم وعائلته تتعرض لهجوم تلك المجموعة الأولى من الهنود الحمر، حيث يشارك باعتراضها الزعيم وابنه. وبعد رحلة طويلة تتجاوز كذلك هجوماً من ثلة من البيض الذين يأسرون روزالي لفترة قصيرة، يصل من تبقى من تلك القافلة البشرية إلى مونتانا، حيث يودع يلو هوك الحياة. عند دفنه تنبثق متاعب أخرى، ذلك أنّ رجلاً أبيض (المخضرم سكوت ولسون وعرفته من صوته فقط لأنّ الكاميرا اختارت أن تبقى بعيداً عن وجهه)، وأولاده يرفضون دفن الهندي فيما يعتبرها أرضه هو. المعركة تنتهي بمقتل من تبقى باستثناء روزالي وبلوكر وفتاة هندية من الواضح أنّها تمثل المستقبل.
غايات الفيلم الإنسانية واضحة. طريقة طرحها هو ما تشوبه مشاكل معينة. ليس من بين هذه المشاكل العنف المجسد على الشاشة لأنّ الفيلم يبقى واقعياً حيالها (هذا ما كان يجري وزيادة) بل لأن يختار طريق الإيحاء والتوغل في النفس البشرية من دون إتقان المفردات اللغوية التي تستطيع إبرازها.
ما يصل من مضمون إيجابي حول ضرورة التلاقي ودخول كل نفس النفس الأخرى ليحلّ السلام بين الأبيض والأحمر، ومنه في عالمنا اليوم بين كل فريق وآخر، واضح. لكن توزيع اللقطات العامّـة على الوجوه وعن بعد غالباً لا ينقل الكثير من سعي الممثلين للمشاركة في هذا الطرح.
يترك سكوت كوبر للحكاية المتمهلة طرح ما يريد طرحه عن السلام بين الشعوب، لكنّه لا يدرك أنّ تأكيد ذلك يجب أن يتأتى من خلال تجسيد الممثلين لتلك المعاني المطلوبة وهذا بدوره يتطلب توزيعاً عادلاً بين الشخصيات المشاركة. الفيلم يخلو، على سبيل المثال، من مشهد واحد ليلو هوك وعائلته تحاول فيه الكاميرا سبر غور ثقافتهم. نعم هناك تلك المشاهد التي تتقدم فيها المرأة الهندية من المرأة البيضاء بثياب ترتديها (عوضا عن ثيابها التي تقطّـعت)، وهناك مشاركة يلو هوك وابنه في رد اعتداء الفرقاء الآخرين، إلّا أنّ وجهة الفيلم كانت تتطلب حضوراً متوازياً أو قريباً من التوازي. هذا لأنّ الدراما تتمحور حول يلو هوك ومصيره في الوقت الذي تتمحور أيضاً حول النقلة الإنسانية الكبيرة لبلوكر من عدائي عنيد لغير البيض إلى شخص آخر في نهاية الرحلة.
على الرغم من ذلك، وبإبقاء بلوكر محوراً وحيداً، فإن المخرج كوبر ينجز ما هو مهم: البيض هم العنصريون حين يأتي الأمر إلى المقاربة بينهم وبين السود أو الهنود. هم، في المفهوم العام في المجتمع الأميركي، من يقومون بأفعال العداوة العنصرية لذلك لا يفلح كثيراً النهوض بمقابل من أصحاب بشرة أخرى وإلّا لتاه الفيلم وتحوّل إلى إرضاء خواطر، وهو فعلٌ أقدمت عليه أفلام كثيرة من قبل.
فقط لو أنّ المخرج منح الهندي قدراً أعلى من الحضور لحوّل ذلك الحضور من ثانوي إلى مساند.
أول فيلم من أفلام المسابقة تعرّض لنا هو «73 درجة مئوية» لباز دنخا شمعون: أقل من ساعتين بقليل من مشاهد مرمية كما هي بلا تنظيم أو سلاسة يبدو فيها المخرج العراقي كما لو أنّه أصر على استخدام كل لقطة صوّرها ولو أكثر من مرة وذلك من دون خريطة طريق تساعد الفيلم على الانتقال قدماً وعلى نحو مونتاجي يبلور عوض أن يبقى في خانة العرض المتكرر.
المماثل في سوئه أنّ من كان لديه قدر سابق من التعاطف مع ما حل بالإيزيديين من مأساة، سيفقد مع نهاية الفيلم ذلك التعاطف ليس لأنّ الفيلم ضدهم بأي حال، بل لأنّه يسيء إليهم بمجرد التكثيف من آرائهم وشعائرهم اليومية. أكثر من ذلك، يستخدمهم للنيل من السنة دون الآخرين.
يتولى «73 درجة مئوية» تقديم ثلاثة أطفال (إيزيديان ومسلم) شوهتهم الحرب التي دارت في السنوات القليلة الماضية. آسيا تحتاج لعناية نفسية وطبية، ورايان فقد ناظريه وعلي فقد ساقه. بعد ذلك يعاود تقديمهم على هذا الحال مرّة بعد مرّة بعد مرّة ومن دون تقدم يذكر. يصوّرهم الفيلم وهم يعانون ويصّورهم وهم يعانون أكثر. أحياناً يعكسون أحلامهم المبتورة، لكن في الغالب هم في هذا الفيلم لنقل المعاناة الفردية وليس لغاية أخرى مثل نبذ الحرب ذاتها أو الحديث عن وضع كل من فيه تعرّض للمأساة ذاتها بصور مختلفة. تغييب ما حدث للسُّنة ليس سوى تغييب لرسالة كانت، على الرغم من متاعب الفيلم السينمائية، سترتقي بالموضوع ليحتل، واقعياً، التجسيد الصحيح لمأساة الحرب.
يكشف الفيلم عن أن والد المخرج اعتنق المسيحية بعدما كان إيزيدياً ويتطوّع أحد الإيزيديين الرجال الأكثر حضوراً هنا للقول ضاحكاً: «أسوؤنا يعتنق المسيحية والإسلام». لا تتوقع موقفاً مناهضاً للمخرج على هذه اللفتة السخيفة، فهو غارق في تصوير عادات الإيزيديين وعباداتهم. لا بأس، في فيلم تسجيلي كهذا، أن نشاهدهم وهم يقبلون صنماً أو جداراً أو عتبة بيت. هذا يوضح شيئا، لكن المشكلة أنّ هناك مشاهد طويلة يتوقف فيها الماثلون أمامنا عند كل صنم وجدار وعتبة بيت ليقبلوها أو يسجدوا لها، في تتابع لا معنى له ولا يمكن له أن يضيف إلّا رد فعل سلبياً حيال ما يمارسونه. سينمائياً، وكل ما أورده هنا سينمائي، هذا اسمه تكرار فائض وعدم ثقة بوصول المفاد من مرة أو مرّتين. هذا تماماً كحال إعادة تصوير الأطفال المشوّهين على أساس أنّ في الإعادة (من دون إضافة جديد) إفادة. في أحد المشاهد ينتقل المخرج ما بين مشاهد معينة تتقاطع مع مشهد الأعمى وهو على الأرجوحة. مرّة بعد مرّة تريد أن تصرخ: «كفى... وصلت الرسالة».
مع المرأة وضدها
في قسم «ليال عربية» عُرض «على كف عفريت» لكوثر بن هنية: تلك الدراما المقتبسة عن واقعة حقيقية تعرضت لها فتاة في الحادية والعشرين من عمرها بينما كانت تسير ليلاً مع صديق لها على شاطئ البحر عندما استوقفهما ثلاثة رجال شرطة. اثنان منهم تناوبا على اغتصابها في سيارة البوليس، والثالث منع صديقها من الحركة. يتابع الفيلم بعد ذلك إصرار الفتاة على تقديم مغتصبيها إلى العدالة وإصرار بعض رجال البوليس، ومن بينهم المتهمون، بالدفاع عن «السمعة» وكل ذلك في غضون ليلة واحدة قسمتها المخرجة إلى تسعة فصول ليست ضرورية.
تغييب مشهد الاغتصاب كان فعلاً جيداً لأنّه جعل الحقيقة تتكشف ببطء، لكن تقسيم الفيلم إلى فصول يغطي على غياب التسلسل الدرامي الطبيعي واستبدال القفز من فصل لآخر به من دون رابط حدثي سليم. إحدى حسنات الفيلم قناعة الممثلين بما يقومون به ونقل هذه القناعة إلى أداء قابل للتصديق على طول الخط. وهذا ينطبق على أداء مريم الفرجاني، كما على أداء الممثلين المساندين.
بين عروض اليوم الأول أيضاً «بلا حب» للمخرج الروسي أندريه زفيغنتسيف.
يبدأ الفيلم، بالصبي أليكسي (ماتفي نوفيكوف) الذي يخرج مع أترابه من المدرسة وقت الانصراف، وينطلق مشياً للعودة إلى البيت. طريقه تمر بغابة وبحيرة قبل أن تنتهي عند المبنى حيث يعيش ووالداه. لكنّ الصبي يختفي. المشكلات تنضح بما حوت عندما ندرك أنّ والديه كانا قد انفصلا، وبالتالي أزاحا تلك المظلة العاطفية المشتركة التي كانت تضمه.
زفيغنتسف لا يخفي، عادة، نظرته المدينة للمرأة. هي هناك في فيلمه الأول «العودة» (2003)، وفي أفلامه بعد ذلك: «المنفى» (2007) و«إلينا» (2011 ولو على نطاق محدود) و«ليفياثان» (2013). هنا يصوّر المخرج الزوجة لاهية ويوصم تصرفاتها بالأنانية ويطلق، حتى من خلال كلماتها، ما يجعلنا ندرك أنّها ليست على صواب في معظم ما تذهب إليه.
يستطيع المرء منّا أن يلحظ أنّ المخرج في نهاية المطاف إنّما يتحدث، مرّة أخرى، عن زواج متصدّع ينهار أمامنا. هناك بفعل خيانة، في فيلم ثان بفعل ضعف قرار وهنا في صورة امرأة أنانية لا تقبل أن تستمع إلى المنطق. وبعد إدانة الوضع القائم في زيجات أفلامه يومئ إلى إشراك القانون في التقاعس منتقداً عدم رغبته توفير الوقت والدعم الكامل للبحث عن الطفل الذي ربما يكون سقط في الماء أو خُطف. أسلوب زفيغنتسف قائم على رقة في النواحي البصرية ترفع من جماليات الفيلم بمقدار كبير.


مقالات ذات صلة

«الهنا اللي أنا فيه»... فيلم كوميدي يُراهن على صراع الزوجات

يوميات الشرق صناع الفيلم خلال العرض الخاص بالقاهرة (حساب ياسمين رئيس على «فيسبوك»)

«الهنا اللي أنا فيه»... فيلم كوميدي يُراهن على صراع الزوجات

بخلطة تجمع بين الكوميديا والمشكلات الزوجية يراهن فيلم «الهنا اللي أنا فيه» على شباك التذاكر في الصالات السينمائية مع طرحه اعتباراً من الأربعاء 18 ديسمبر.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق لعبت بطولة فيلم «ذنوب مخفية» للمخرج سيرج الهليّل (تمارا حاوي)

تمارا حاوي تشارك في «ذنوب مخفية» ضمن «مهرجان بيروت للأفلام القصيرة»

تجد تمارا الأفلام القصيرة ترجمة لصُنّاع السينما الجريئة. وتؤكد أن عرض فيلم «ذنوب مخفية» في بيروت، شكّل محطة مهمة، بعد تنقُّله في مهرجانات عالمية.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)