تكتظ رفوف المكتبات البريطانية الكبرى بكتابات تؤرخ للتجارب الاستعمارية في القرن العشرين، ولعلك ستجد في أي منها ما لا يقل عن 100 كتاب تغطي تحديداً المرحلة البريطانية في الشرق العربي خلال النصف الأول من ذلك القرن الحاسم. لكن الغالبية العظمى لتلك الكتابات - على أهمية بعضها - وقعت ضحية المناخ الفكري الذي ساد وقت تدوينها، فجاءت ملوثة بفانتازيا الاستشراق، وأوهام الاستعلاء القومي الشوفيني على حفنة المحليين البسطاء من سكان تلك المنطقة، أو أقله إنها تنقل انتقادات دراسات ما بعد الكولونيالية دون كبير تدقيق. ولذا يصعب على غير القارئ المتخصص أن يستخلص منها دروساً لفهم سياقات الحاضر الشديدة التعقيد التي أنتجتها تلك التجربة البغيضة.
لذلك فإن كتاب المؤرخ الهولندي روبرت ليشاوت الصادر حديثاً بالإنجليزية عن دار «آي بي توريس» في لندن بعنوان «بريطانيا والشرق العربي: حصاد الحرب العالمية الأولى» يمثل تجربة نوعية مميزة ونادرة تتفوق على كل ما سبقها من محاولات تأريخية غربية حول تلك الفترة، سواء لناحية تجنبه اليقظ الوقوع في أحبال الاستشراق الغربي - الذي صّور عبر أجيال متلاحقة من النصوص الأدبية والأكاديمية الشرق في أذهان الغربيين، وكأنه أشبه بفانتازيا عابقة بالإثارة وانفعالية مليئة بالرومانسية والمغامرات تمثّل في الوقت ذاته كل نقيض للحضارة الغربية العقلانية والمنطقية والمثالية - وأيضاً لتقديمه تفاصيل هامة تصوّر واقع عملية اتخاذ القرار في أجواء الحكومة البريطانية حينها، والتي تسببت بتَرِكة تراث مسموم في قلب المنطقة لا تتعافى منه حتى راهن الوقت.
يقدّم ليشاوت في كتابه تحليلاً بارعاً غير مسبوق لمنهجية التفكير وصياغة السياسات المتعلقة بمنطقة الشرق العربي، كما تجلّت في أجواء القيادة البريطانية الدبلوماسية والعسكرية والسياسية، خصوصاً سنوات الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 وما بعدها، وهو بذلك يبرعُ في تفكيك تشابك روايات معقدة ومتداخلة الأبعاد لأحداث مفصلية ما زالت ذات تأثير لا ينكر بعد مرور أكثر من قرن من الزمان على تلك الأحداث.
شهدت تلك الفترة إقدام الدبلوماسية البريطانية على تقديم ثلاثة وعود سياسية متناقضة، أولها كان عام 1915 للشريف حسين حاكم مكة وقتها بمنحه حكم دولة عربية واحدة مستقلة تمتد من لواء الإسكندرون شمالاً وحتى شواطئ بحر العرب جنوباً إن هو تمرّد على حكم الدولة العثمانية. في الوقت ذاته كانت بريطانيا تفاوض الجانب الفرنسي لتتشاطر الهيمنة على منطقة بلاد الشام والعراق على نحو يُطلق يد باريس في معظم سوريا - الحالية - ولبنان، وهو الأمر الذي كشف عنه للعالم ثوار روسيا عام 1917 الذين نشروا ضمن ما كشفوا عنه من وثائق حصلوا عليها لدى سيطرتهم على خزائن القيصر المعزول، ومنها اتفاقية «سايكس - بيكو» التي كانت وقعت بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 وقسمت المنطقة إلى مناطق نفوذ مع إبقاء فلسطين كمنطقة خاصة. وثالثها كان وعد الحكومة البريطانية لتقديم دعم لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين فيما عرف بوعد بلفور.
هناك بالطبع جدل كثير حول هذي الوعود المتناقضة من ناحية سوء التقدير الذي أبداه موظفو الإدارة الاستعمارية وقتها في اتخاذ القرارات بشأن مستقبل المنطقة التي بدت بالفعل، إما نتاج الجهل بأحوالها، أو بدافع الانحياز الديني والثقافي الأعمى. ويتجدد هذا الجدل دورياً بالنظر إلى القضايا الحساسة التي نتجت عنها، سواء بتأسيس الكيان الإسرائيلي على حساب الشعب الفلسطيني، أو بترسيم الحدود، وإنشاء دول المشرق العربي كما هي في صيغتها الحالية. ميزة كتاب ليشاوت أنه يكشف وبناء على بحث معمّق في الأرشيفات وبأسلوب رشيق يكاد يتسم بالسخرية أحياناً عن طبيعة الصراعات البيروقراطية داخل أروقة الحكومة البريطانية التي رافقت مرحلة قطع تلك الوعود المثيرة للجدل، موازناً في طرحه بين همة المؤرخ الدقيق وخيال عالم السياسة في آن الوقت. ليشاوت هو بروفسور بارز في العلاقات الدولية، وكان لفترة طويلة مديراً لمركز للدراسات الألمانية والأوروبية في إحدى أهم الجامعات الهولندية، ويعتبر من أبرز مستشاري مؤسسات الاتحاد الأوروبي المتعددة لشؤون الإدارة السياسية، ولذا فإن مراجعته للنهج البيروقراطي بما خص الإدارة البريطانية الاستعمارية تأتي مِنْ ذهنية مَن خَبِرَ مطابخ اتخاذ القرار وديناميات صناعة السياسات المتعلقة بالمجال الدولي، وليس مجرد دارس لها في الكتب والمراجع.
يرصد ليشاوت مناوشات وخلافات وتردد على حسم المواقف بين الدوائر والشخصيات التاريخية التي أدارت تلك المرحلة، مُظهراً كمية هائلة من الفوضى والتنافسات العقيمة التي كانت تجري في الكواليس. وهو يؤكد مثلاً على أن الإدارة البريطانية غيّرت رأيها عدة مرات بشأن الوعد بدعم استقلال مملكة عربية موحدة في المشرق العربي، وأن ذلك التذبذب كان نتاج انحيازات ثقافية لبعض الأفراد تقاطع مع ضغوط سياسية وعسكرية مرحلية في تلك الفترة مع تنافس دوائر الإدارة المختلفة فيما بينها على مساحات النفوذ. ويرسم ليشاوت كل تلك التشابكات على خلفية طموحات وظيفية وشخصية للعديد من الأسماء التي كانت تريد الظهور في موقع النجومية، ولو على حساب الشعوب أو حتى المصالح الاستراتيجية للإمبراطورية.
ويخلص من قراءته لتفاصيل المراسلات والوثائق من تلك الفترة إلى أن أجواء كواليس الإدارة البريطانيّة تلك تسببت في غياب استراتيجية واضحة تحكم توجهات الإدارة الاستعمارية في المنطقة، وبالتالي تخبط بين السياسي والعسكري على الأرض، وفرض حلول على السكان المحليين لا تزال سبباً إلى اليوم في انعدام الاستقرار وتعدد المواجهات وسقوط الضحايا.
ليشاوت بالطبع لا يأتي بجديد عندما يتحدث عن تلك الأجواء داخل الإدارة البريطانية، فقد تعرض لها بخطوطها العريضة آخرون سبقوه، لا سيّما بعض من كتب سيرة شخصيات بارزة من تلك الفترة أمثال مارك سايكس ولورانس العرب وجون ماكسويل وآرثر بلفور، لكن التفاصيل الموثقة التي يقدمها في رسمه لتلك الأجواء هي دون شك ميزة كتابه الأكبر، وتجعله مرجعاً شديد الاستثنائية لكل من أراد تكوين فهم متكامل عن المرحلة التأسيسية للشرق الأوسط المعاصر.
لا بد أن ظُلماً قد لحق بالكتاب من تصدر لورنس العرب بزيّه البدوي التقليدي لصورة الغلاف. فـ«بريطانيا والشرق العربي: حصاد الحرب العالمية الأولى» لا يحتفل بأي شكل خاص بلورنس، واختياره تحديداً يتعارض وثيمة الكتاب الأساس في سرد خلفيات أحداث المنطقة العربية دون فانتازيات الاستشراق التي حكمت نظرة معظم الغربيين لها - ولا تزال بشكل أو بآخر - وجبة طازجة على موائد التواصل مع هذا الآخر.
قراءة للتجربة البريطانية في الشرق العربي... من دون أوهام الاستشراق
«حصاد الحرب العالمية الأولى» للهولندي روبرت ليشاوت
قراءة للتجربة البريطانية في الشرق العربي... من دون أوهام الاستشراق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة