ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

المحرك الخفي لدوامة العنف في الداخل.. وأياد خارجية وراء التصعيد

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»
TT

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

ليبيا.. صراع «النفط» و«السلاح»

في عرس بمدينة المرج في الشرق الليبي تصور أغنية شعبية الوضع في البلاد المضطربة بأنه صراع بين الضأن والراعي، والذئب الجديد. المقصود بالذئب الجديد جماعات الإسلام السياسي المتشددة التي تهيمن على البرلمان. تقول الأغنية إن الذئب الجديد حل محل الذئب القديم، وهو «نظام القذافي».
لكن الصراع الداخلي المتفجر في البلاد أصبح يحظى بزخم دولي أيضا بسبب مصالح جوهرية تتعلق بصفقات معطلة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات في مجال السلاح والنفط، إضافة لقلق من تنامي ميليشيات التطرف وتهريب أسلحة الجيش وتنقل الجهاديين عبر حدود دول الجوار. يدرك الليبيون الأمر، فإن الاهتمام الدولي ببلادهم لا يتعلق بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان ولا أي شيء من هذه الأسماء التي يحلو للبعض ترديدها على شاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت وواجهات الصحف. فالنفط والسلاح يبدو أنهما المحرك الخفي لتلك الصراعات الداخلية والخارجية. فمن الذي يتحكم في نفط ليبيا وغازها؟ وما حجم تجارة السلاح فيها؟ وما علاقة الصراعات الداخلية بين الميليشيات بالقوى الإقليمية والدولية؟ ومن حركها؟
في بعض الجلسات الخاصة في القاهرة لعدد من كبار المسؤولين السابقين (ممن عملوا مع القذافي وممن انشقوا عنه أيضا)، يمكن أن يتحدث إليك البعض عما يجري خلف الستار. مثلا.. أرادت شركات سلاح أميركية أن تعقد صفقة قيمتها مليارا دولار من حيث المبدأ من أجل توريد أسلحة وتدريب طيارين ليبيين. لكن هذه الصفقة تعطلت بسبب قانون أميركي قديم يحظر منح التأشيرة لليبيين الذين يريدون تعلم الطيران والعلوم النووية. وعليه بدأت شركات السلاح الأميركية في البكاء بين يدي الكونغرس.
وعلى أي حال.. تزيد الرواية قائلة إن شركات السلاح ومعها وزارة الدفاع الأميركية طلبت من الرئيس باراك أوباما التدخل لإلغاء قانون التأشيرة لليبيين الذي يعود لثمانينات القرن الماضي. وتأثر أوباما بالدفوع التي قدمها صناع السلاح ووزارة الدفاع، ومن أهمها أنه إذا تأخر عقد صفقات عسكرية أميركية مع الجانب الليبي، فإن سماسرة ودولا أخرى ستقوم بالأمر وتستفيد من حاجة السوق الليبية لأسلحة جديدة وتدريب عسكريين وبناء مطارات ودشم عسكرية بعد أن قصف حلف الناتو في 2011 معسكرات الجيش.
لكن أوباما حين بدأ يدرس موضوع إلغاء قانون التأشيرة الخاص بالليبيين، اصطدم بمنظمات أهلية وشبه رسمية قدمت تقارير للكونغرس بينت فيها أن ليبيا ما زالت دولة خطرة على السلام العالمي بسبب تزايد أعداد الجهاديين فيها، ومن بينهم قيادات في المؤتمر الوطني (البرلمان) والحكومة، وبعضهم له صلات بعمليات إرهابية أو أنه يتستر على مطلوبين نفذوا عمليات إرهابية وقعت في الماضي، بما فيها عملية تفجير القنصلية الأميركية في بنغازي في 2012.
أو كما قال أحد المشرفين الأميركيين على تحقيقات تجري بشأن تفجير القنصلية، في إفادة حصلت «الشرق الأوسط» على تفاصيل منها، وهو يوجه حديثه إلى مسؤولين عسكريين وآخرين من البيت الأبيض: هل توصلتم إلى الفاعل في الهجوم على القنصلية قبل أن تتحدثوا عن فتح باب التأشيرات لليبيين الساعين لتعلم الطيران؟ هل تعلمون أن الجيش الليبي (الرسمي) فيه جهاديون؟ هل تريدون أن ندرب هؤلاء لكي يقودوا طائرات يمكن أن يفجروها في ناطحات السحاب الأميركية؟ هل تريدون تكرار ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001؟
جرى هذا اللغط في الأشهر الأولى من هذا العام. وأعقب ذلك إرسال موفدين أميركيين بشكل غير رسمي للتحقق من طبيعة ما يجري على الأرض الليبية، خاصة بشأن تغلغل الجهاديين في الجيش الرسمي الذي تديره وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، وهما جهتان تقول المصادر إن كثيرا من القيادات فيهما من الموالين للجماعات المتشددة، وإن كثيرا منهم تدخل في السابق لإرساء مبادئ خطيرة تتعلق بالسماح للكتائب والميليشيات بالعمل كأذرع للبرلمان المؤقت والحكومة، وتخصيص رواتب لقادتها وعناصرها من ميزانية الدولة، وهو أمر أسهم في عرقلة بناء الجيش والشرطة.
ليس بالضرورة أن يكون للمقدمة السابقة علاقة مباشرة بـ«عملية الكرامة» التي بدأ تنفيذها اللواء خليفة حفتر، القائد السابق في الجيش الليبي، ضد المتشددين الإسلاميين والكتائب والميليشيات المحمية من قيادات رسمية، وفقا لأحد المصادر الليبية المطلعة، الذي يشير إلى أن عملية حفتر التي انطلقت منذ الشهر الماضي ليست إلا محصلة لمطالب محلية ودولية تريد تحقيق الاستقرار في ليبيا، لكن الاستحسان الذي تلقاه هذه العملية يزيد الزخم حول إمكانية أن يتحول القائد العسكري السابق إلى محور لدولة متماسكة، رغم أن أيا من الأطراف صاحبة المصلحة لم تعلن صراحة الوقوف مع أو ضد حفتر.
يقول المحلل السياسي الليبي حسين قدورة: «هذا ليس هدف الغالبية العظمى من المواطنين الليبيين فقط، ولا شركات السلاح الكبرى فقط، ولكنه أيضا هدف أصيل لشركات النفط العالمية التي لها مصالح منذ عقود في هذا البلد الغني بالنفط، إضافة إلى أنه هدف أصيل لدول الجوار الليبي التي تعاني ضعف الرقابة على الحدود وتهريب السلاح وتنقل الجهاديين عبرها، خاصة الجزائر ومصر وتشاد».
والخلاصة أن كل التقارير التي أعدتها مجموعة من الدول الغربية بشكل منفرد، على ما يبدو، من جانب كل منها، انتهت إلى أن الوضع الليبي لا يمكن أن يستمر بالطريقة التي يريدها الأعضاء الفاعلون في المؤتمر الوطني وفي الحكومة التي تساندها جماعة الإخوان المسلمين. ووفقا لدبلوماسيين غربيين، فإن هذه التحركات الدولية جاءت تحت ضغط من شركات السلاح والنفط التي أصيبت بخسائر ضخمة بسبب عدم القدرة على تفعيل أي صفقات، بما فيها الصفقات الموقعة سلفا مع دولة تعاني الفوضى.
ويلاحظ أن عددا من الدبلوماسيين الغربيين وحتى المسؤولين قاموا خلال الشهور الماضية، ومنذ أواخر العام الماضي، بزيارات أو اتصالات أو لقاءات في الداخل والخارج، مع أطراف ليبية مهمة، في محاولة لإيصال رسالة تقول إنه إما إرساء مبادئ دولة ديمقراطية آمنة بجيش وشرطة قويين، أو أن الأمور قد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه. وتعد المحاولة الفاشلة لتهريب النفط من ميناء السدرة في الشرق الليبي، واحدة من الوقائع التي أعادت الزخم الدولي حول هذا البلد.
هناك الكثير من الصفقات التي كان ينبغي الانتهاء منها خلال الأشهر الماضية، إلا أنها تعطلت بفعل الانفلات الأمني والخوف من تنامي نشاط تنظيم القاعدة، وخلافات الفرقاء السياسيين. أو كما يقول البعض فإن أهم عنصرين حركا المياه الراكدة على الصعيد الدولي بشأن ليبيا أخيرا، هما «السلاح والنفط».. أي تعطل صفقات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.
قبل بداية عملية «الكرامة» مارست الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا ودول غربية أخرى، ضغوطا على أطراف النزاع الليبي من أجل التهدئة والسيطرة على الفوضى الأمنية والدخول في المسار الديمقراطي. وتشير المصادر إلى أن دولا إقليمية أخرى عملت منذ وقت مبكر في هذا الاتجاه، من بينها مصر وبلدان أفريقية مجاورة، لكن استقالة الدكتور علي زيدان من رئاسة الحكومة وفشل المؤتمر الوطني في لم شمل الخلافات، وتصلب مواقف الميليشيات المسلحة والكتائب التي يقودها متطرفون، أدت على ما يبدو إلى حالة من الإحباط على المستويين المحلي الليبي والإقليمي والدولي.
وبينما كان الليبيون في الداخل ينظمون خلال الشهرين الماضيين فعاليات للعصيان المدني احتجاجا على سياسات المؤتمر الوطني والميليشيات ومظاهر التسلح، زار عدد من المستشارين والمسؤولين الغربيين ليبيا، في محاولة على ما يبدو لفهم ما يجري في هذه البلاد النفطية شاسعة المساحة، وكان من بينهم نائب وزير الخارجية الأميركي ويليام بيرنز. وقال مصدر قبلي ليبي إن زيارة بيرنز سبقتها زيارات أخرى لأميركيين من بينهم مستشار يعمل لصالح وزارة الدفاع الأميركية قام بجولة في الزنتان وطرابلس ومصراتة والمنطقة الشرقية، مشيرا إلى أن الأميركيين لديهم قلق من تصاعد نفوذ المتشددين في ليبيا.
وتتلاقى أهداف عملية «الكرامة» مع أطراف أخرى داخلية وخارجية لأنها «ربما ستكون طريقا جديدا لبناء دولة متماسكة، في حال تمكن قائدها حفتر من جمع الأطراف الرئيسة والفاعلة في البلاد حول مشروع وطني يؤيده الشارع، لاستعادة سلطة الدولة المركزية»، كما يقول أحد القيادات الليبية السابقة المقيمة في العاصمة المصرية القاهرة. ويضيف أن أمام حفتر عدة تحديات من بينها إيجاد خطاب متوازن يرضي ثورة 17 فبراير (شباط) ويرضي القبائل التي جرى تهميشها وإقصاؤها تحت زعم مساندتها لحكم القذافي، بالإضافة إلى إقناع القيادات التي خرجت بفعل قانون العزل السياسي من الحياة العامة منذ صيف العام الماضي، بالتفاهم وتصويب الوضع القانوني الذي تضرر منه الألوف من الليبيين ممن عملوا في الإدارات الحكومية في العهد السابق.
ومنذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي في خريف عام 2011، كانت خيوط الدولة المركزية تفلت يوما بعد يوم من بين أصابع قيادات الحكم الجديدة. وجرى إقصاء أي إمكانية لتكوين جيش وسلطات أمنية قوية، لصالح استفحال الميليشيات والكتائب وسيطرتها على مخازن سلاح جيش القذافي وكتائبه، وإحلال نفسها محله ليتحول قادة هذه الميليشيات وأمراؤها إلى المئات مما أصبح يسميه البعض «القذافيين الصغار». ويمارس قادة الميليشيات سياسات القذافي في الإقصاء والتهميش والاحتجاز والمحاكمة خارج نطاق القانون. أو كما يقول أحد الأساتذة في جامعة بنغازي: «من السهل الإطاحة بديكتاتور، ومن الصعب بناء دولة».
وحصلت «الشرق الأوسط» على وثائق جديدة تخص التحقيق في مقتل اللواء عبد الفتاح يونس، الذي كان يسعى لتفعيل الجيش الوطني الليبي، ليكون ركيزة للدولة الجديدة في صيف 2011، وتبين هذه الوثائق إدراك قادة الميليشيات الإسلامية منذ وقت مبكر لخطورة وجود جيش أو سلطة مركزية قوية على مستقبلها. كما تشير هذه الوثائق إلى وجود تململ من جانب اللواء حفتر بسبب عدم حسم اللواء يونس لعدة أمور ظلت معلقة وربما تسببت في مقتله في نهاية المطاف، ومن بينها العلاقة المركبة والغامضة بين يونس ومراكز حلف الناتو التي كانت تدير عمليات القصف ضد قوات القذافي، وعلاقته بقادة الميليشيات، خاصة تلك التي يقودها إسلاميون ليبيون متشددون قادمون من أفغانستان وغيرها، وكانوا يدبرون المكائد ضده دون أن يتخذ الاحتياطات اللازمة.
ويقول أحد العسكريين الليبيين إن حفتر بدأ في ذلك الوقت في التراجع خطوات للخلف، لأنه لم يكن راضيا عن طريقة عمل يونس على الجبهة. وحين تعرض يونس للقتل على أيدي من يعتقد أنهم إسلاميون متشددون، ابتعد حفتر عن القيادة، وظل يعمل بقدر استطاعته للإسهام في القضاء على القذافي دون أن يكون موجودا في الصفوف الأولى التي حرص أمراء الحرب من الجماعات الإسلامية مثل «الجماعة المقاتلة» و«الإخوان» وغيرهما، على تصدر مشهدها طيلة الوقت. وحين انتهى نظام القذافي، أخذت الميليشيات والكتائب الإسلامية تعمل على سد أبواب العمل أمام حفتر رغم أهميته كرجل عسكري مخضرم.
ويعتقد البعض أن «الجيش الوطني الليبي» الذي بدأ عملية «الكرامة» أخيرا بقيادة حفتر مجرد اسم جديد لمجموعة من العسكريين. وهذا غالبا غير صحيح. وكلمة «الجيش الوطني» ارتبطت أساسا بحفتر حين انضم إلى المعارضة الليبية ضد القذافي في الخارج في ثمانينات القرن الماضي. كان حفتر من رجال الجيش في عهد النظام السابق، وحقق انتصارات في قيادته للحرب الليبية في تشاد، مما تسبب في خوف القذافي منه، فتخلى عنه، ليقع في أسر التشاديين مع مئات من الجنود الليبيين في معركة وادي الدوم الشهيرة عام 1987.
وبعد هذه الواقعة انشق حفتر عن القذافي وتدخلت عدة دول مع ظروف سياسية أخرى، لتحريره من الأسر، وانتقل مع رفاقه إلى الخارج، وبدأ في تأسيس الجيش الوطني عام 1988 ليكون الذراع العسكرية للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وهي جبهة معارضة كانت تتكون من معظم القيادات التي عادت من المنفى وأسهمت في الإطاحة بنظام القذافي في 2011، لكن المؤتمر الوطني المنحاز للميليشيات الإسلامية تخلص من غالبية قيادات المعارضة هذه، وتسببت حالة الفوضى في طرد الكثير من السياسيين الكبار إلى خارج البلاد مرة أخرى، واستخدم قادة إسلاميون عدة وسائل مثل إصدار قانون العزل السياسي، والخطف والاغتيالات ووصم قادة المعارضة التاريخية بـ«الليبراليين والعلمانيين» الذين يعارضون إقامة دولة إسلامية في ليبيا، وغيرها من وسائل الترهيب.
وقبل الوصول إلى مطلع تسعينات القرن الماضي كان الزخم حول الجيش الوطني الليبي قد بدأ في التراجع، ولم يظهر مجددا بشكل قوي إلا مع عودة حفتر من الخارج مع بدء الانتفاضة المسلحة ضد القذافي في 2011، لكن مقتل يونس أدى إلى تبخر حلم إحياء الجيش الوطني.
وبدأ الحكام الجدد في المجلس الانتقالي وعدة دول أجنبية في التعامل مع قادة الميليشيات والكتائب كجيوش مستقلة عن بعضها البعض، لا يجمعها غير الرغبة في التخلص من القذافي. انتهت المهمة، لكن هذه المجموعات المسلحة ما زالت تعمل كجيوش صغيرة داخل الدولة التي تركها القذافي وهي تعاني تناقضات معقدة.
مثلا في منطقة جنوب ليبيا، أو ما يعرف بـ«إقليم فزان»، كانت التربة صالحة لإنبات وضع مختل، وفقا لما أشار إليه تقرير للباحث الألماني ولفرام لاخر، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن تقريره اعتمد على «مقابلات أجريت مع شخصيات سياسية وعسكرية في سبها وأوباري ومرزق في شهر سبتمبر من عام 2013 ومع ممثلين عن فصائل المجتمع في الجنوب الليبي في كل من طرابلس وبنغازي ونيامي وأغادز في عامي 2012 و2013 وشهر يناير (كانون الثاني) من عام 2014».
«لقد انقسمت فزان، كما هو حال سائر مناطق ليبيا، إلى مناطق نفوذ محلية متعددة، فمنها ما يرزح تحت سيطرة مجموعة مسلحة واحدة، ومنها ما تتصارع عليه مجموعات كثيرة، كما في بعض أجزاء من سبها». هكذا يشير تقرير «ولفرام لاخر». لكنه يتحدث أيضا عن اشتباه في قدرة المجموعات المتطرفة على عبور فزان بالاعتماد على حلفائهم المحليين «فقد أرسلت مجموعة أنصار الشريعة على الأقل رتلا من المقاتلين والأسلحة إلى شمال مالي في أواخر عام 2012، ونقل أن هذا الرتل استخدم أذونات رسمية لعبور نقاط التفتيش في (منطقتي) هون وتمنهنت. وكذلك نقل أن المجموعة المسؤولة عن هجمات يناير من عام 2013 على المرافق النفطية في عين أميناس في الجزائر كانت قد اجتمعت في العوينات شمال غات في ليبيا».
ويزيد التقرير قائلا إن أكثر المناطق الجغرافية قيمة تتمثل في «الحدود والطرق ونقاط التفتيش وحقول النفط والقواعد العسكرية ومستودعات السلاح.. وقد أدت الأرباح التي تجنى من هذه الموجودات إلى إغراء المجموعات المسلحة لتوسيع نطاق سيطرتها أو مضاعفة أرباحها.. ففي يونيو (حزيران) من عام 2013. على سبيل المثال، قام الحرس المنتمون إلى قبائل التبو بإيقاف الإنتاج في حقل الفيل (النفطي) للمطالبة بفرص عمل إضافية لأفراد المجتمع المحلي في مجال حماية هذا الحقل. وعندما أراد الحرس القادمون من الزنتان والمسؤولون عن حماية الحقل فك الحصار عنه، قوبلوا بتعزيزات من التبو اضطرتهم إلى التقهقر، وانتهت الأزمة بتعزيز حرس التبو لمواقعهم في الحقل». ويقول «ولفرام لاخر» إن المصالح التي رسختها المجموعات المسلحة ستشكل عائقا كبيرا أمام محاولات إعادة تأسيس سلطة الدولة.
ويطلق البعض على ما يجري في ليبيا تعبير «الصراع بين السلاح القبلي والسلاح الإسلامي»، في إشارة إلى المجموعات القبلية التي تمكنت من الاستحواذ على الألوف من قطع السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل عقب سقوط نظام القذافي، والتحصن وراء ما تملكه من ترسانة أسلحة لحماية نفسها من الميليشيات والكتائب الإسلامية المدججة بالأسلحة بما فيها الدبابات والصواريخ.. لكن المشكلة الرئيسة، كما يراها البعض، أن الميليشيات والكتائب لها نصيب الأسد في الدولة الجديدة بسبب الاعتماد عليها من جانب المؤتمر الوطني والحكومة، على حساب القبائل، خاصة تلك التي كانت منخرطة في الأجهزة الأمنية التابعة للقذافي.
وتبرز التفاصيل الصغيرة للصراع اليومي بين السلاح القبلي والإسلامي، في كل المناطق النفطية، خاصة تلك التي جرى فيها استجلاب عمالة من خارج المدن القريبة منها، وتسبب هذا النزاع في إغلاق موانئ نفطية في عدة مناطق في هذا البلد العضو في منظمة أوبك، خاصة في منطقة الشرق، مما كبد البلاد خسائر بمليارات الدولارات، وتوقفت الغالبية العظمى من صادرات البلاد، وتأخر تنفيذ عقود تخص عشرات الشركات النفطية الأجنبية.. فبعد أن كان الإنتاج اليومي قبيل فبراير 2011 يصل إلى نحو 1.4 مليون برميل يوميا، تراجع إلى نحو 200 ألف برميل يوميا.
وتبرز تفاصيل الصراع اليومي أيضا في كل الأراضي المتنازع عليها.. والمقصود هنا تلك الأراضي الشاسعة التي أقام عليها القذافي مشروعات ومساكن بينما هي تخص قبائل، بينما من يستفيد من هذه المشروعات والمساكن قبائل أخرى. وكل هذا يحتاج لدولة مركزية قوية قادرة على صياغة قوانين وإصلاح ما أعطبه القذافي، ومعالجة إقصاء الحكام الجدد لقبائل مهمة مثل ورفلة وورشفانة وترهونة والمقارحة وغيرها.
وتصور أغان شعبية ليبية البرلمان الذي يهيمن عليها الإسلاميون وجماعة الإخوان على أنه «ذئب»، وتصور ليبيا على أنها «ضأن»، بينما الراعي هو «الشعب». وتقول كلمات الأغنية إن الراعي عليه أن يواجه الذئب الجديد لحماية أغنامه، بعد أن تخلص من الذئب السابق.
وتتجسد مأساة التعامل بناء على الانتماء للميليشيات والهوية القبلية، في حكايات أخرى لليبيين. مثلا تقول هذه القصة إن أحد المصريين انطلق في سيارة أجرة من مدينة طرابلس الليبية، متوجها إلى بلاده بصحبة ستة من أصدقائه الليبيين، وفي كل نقطة تفتيش من تلك النقاط التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة على الطرق البرية من طرابلس إلى حدود مصر، مرورا بمدينتي سرت وبنغازي، كان يجري سؤال الركاب الليبيين عن هويتهم القبلية ودرجة ولائهم للميليشيات. ويقول المصري إنه في نهاية المطاف وصل إلى حدود بلاده وحده، بعد أن قام المسؤولون عن تلك البوابات بتوقيف أصدقائه واحدا تلو الآخر لأسباب قبلية وميليشياوية إسلامية.
وتوجد الكثير من الحالات المماثلة للنزاع ليس في الجنوب الليبي فقط كما ورد في تقرير السيد «لاخر»، بل في شرق البلاد وغربها أيضا.. أي في إقليمي برقة وطرابلس، حول مواقع النفوذ، خاصة فيما يتعلق بحراسة حقول النفط التي تعمل فيها شركات تابعة للكثير من الدول، والسيطرة على المطارات الجوية، ومخازن السلاح، وغيرها. وتوجد نحو 40 شركة نفط دولية لها تعاقدت مع الدولة الليبية منذ عهد القذافي، أصيبت بأضرار بالغة منذ ثورة 2011، بسبب تراجع القدرة على التصدير أو الالتزام بالتعاقدات، من بينها شركات أميركية تعمل في المنطقة التي يسيطر عليها دعاة الحكم الفيدرالي في الشرق، وأخرى إيطالية في جنوب غربي طرابلس، إضافة لشركات فرنسية لها حصص في آبار نفطية في الجنوب.
وحول ما إذا كان يعتقد بوجود ضغوط تمارس من جانب جهات دولية من أجل تحقيق الاستقرار في ليبيا بشكل عاجل لتنفيذ صفقات معطلة منذ أشهر، خاصة بالسلاح والبترول، قال مصدر قبلي كان من ضمن وفود ليبية رسمية زارت القاهرة في أبريل (نيسان) الماضي: بطبيعة الحال الدول تسعى لمصالحها، سواء الغرب؛ أوروبا، أو أميركا.. توجد شركات تابعة لهذه الدول أصبحت متضررة بشكل كبير.. والأطراف الرئيسة، وعلى رأسها واشنطن، يمكن أن تقول إنها أصبحت تدرك أن الوضع في ليبيا يحتاج إلى جهود دولية حقيقية لمساندتها.
وتقول المصادر الليبية إن حفتر حاول بالتعاون مع عدة «أطراف وطنية» داخل البلاد وخارجها، البدء بعملية الكرامة في فبراير الماضي، لكن العملية تعرضت للإجهاض حين تعجل بعض القادة على الأرض في تنفيذ مهام دون تنسيق، خاصة في الجنوب وفي طرابلس. وتزامن ذلك مع زيادة دول ذات مصلحة في ليبيا، للضغط من أجل التوصل لحلول دون اللجوء لنزاع طويل الأمد بين الفرقاء الليبيين، ومن بين هذه الدول فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة.
وتشير المصادر إلى أن الدول الغربية ضغطت على أطراف إقليمية لها علاقات وثيقة بقادة قبائل وميليشيات وكتائب مسلحة، من أجل الانخراط في عملية بناء الدولة الليبية، وتشكيل جيش وشرطة ومؤسسات وحكومة مركزية قوية، إلا أن هذه المحاولات لم تأت بأي نتائج ذات شأن، مما فتح الباب لكل الاحتمالات، بما فيها مصير عملية الكرامة التي بدأت أخيرا بشكل أكثر تنسيقا واحترافية من المحاولة السابقة التي جرت في فبراير، وكانت «مجرد دعوة للم الشمل السياسي»، قبل أن تتحول إلى عملية عسكرية، عقب اتهام المؤتمر الوطني لحفتر ومن معه بمحاولة الانقلاب على ما يسميه الإسلاميون وقادة الإخوان الليبيين «الشرعية»، ليستمر الصراع بين الضأن والراعي والذئب الجديد.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.