«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (3 من 5): رحلة تفكيك مفخخات بنغازي

80 % ممن يعملون عليها فقدوا أرواحهم

آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
TT

«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (3 من 5): رحلة تفكيك مفخخات بنغازي

آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)

هذه واحدة من أخطر العمليات التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي، رغم ضعف إمكاناته، وهي تفكيك ألوف المفخخات التي تركتها التنظيمات المتطرفة في المواقع التي مرت عليها في ضواحي مدينة بنغازي... مفخخات في العمارات... وفي الشوارع... وفي الحدائق العامة... في نوادي الأطفال... في ملاعب الكرة... وفي دورات المياه الخاصة والعامة. مفخخات تنفجر بمجرد إدارة مقبض الباب أو الضغط على مفتاح إنارة الغرفة... ومفخخات مرتبطة بما يعرف بـ«مساطر التفجير». مساطر تأخذ لون المكان الذي تزرع فيه؛ أخضر وسط العشب، وأسود في الشارع، وترابي في التراب. وكل مسطرة مرتبطة بدانة. وبعض الدانات كبيرة الحجم وتخلِّف دماراً واسعاً، مثل الدانة الخاصة بالقنبلة من زنة 500 ملليمتر وهي التي لا تحملها إلا الطائرات الحربية الضخمة.
وتواصل «الشرق الأوسط» في هذه الحلقة الثالثة سرد أكبر عملية لطرد المتطرفين من الأوكار التي كانوا يديرون منها عملياتهم في ليبيا.
مثلما كان يفعل رجال جرد مخازن السلع قديماً، جلس ضابط من رجال الهندسة العسكرية وسط جنوده، لكن لكي يحصي عدد القنابل التي جرى استخراجها من شوارع ومباني ضاحية الصابري في هذا النهار... ورفع يده محذراً: «لا... لا أحد يقترب. لا تتسببوا لنا في كارثة»، كانت بعض الدانات ما زالت مزودة بفتيل التفجير، في انتظار إبطال مفعولها.
ولعبتْ مفخخات زرعها المتطرفون، وهم يتراجعون إلى الخلف، دوراً كبيراً في عرقلة تقدم الجيش... وفي تأخير استعادة ميناء بنغازي البحري والحظيرة الجمركية وكثير من المباني والمؤسسات العامة. وتكشف آثار «الدواعش» الذين مروا من هنا أن أشهر نوع من التفجيرات التي قاموا بدراستها واستخدامها على نطاق واسع، هو ما يعرف باسم «المسطرة»... وهي تشبه مسطرة بالفعل... تُزرع بشكل خفي في مكان يتوقع أن يستخدمه أي فرد في المنزل أو في الشارع أو في أي موقع عام.
وإذا ضغطت على هذه المسطرة بقدمك أو اتكأت عليها أو عبثت بالموقع المزروعة فيه، تقوم بتوصيل دائرة كهربائية إلى الدانة التي تكون مطمورة في مكان يبعد ما بين 3 و5 أمتار.
وأخذ الضابط يشرح حصيلة ما تم استخراجه اليوم من مساطر مربوطة بدانات من أوزان مختلفة، بعضها لديه القدرة على نسف عمارة مرة واحدة. وقال إن «المسطرة هي وصلة الربط لتفجير الدانة أو القنبلة. توجد ألوان وتصميمات مختلفة للمساطر، مثل اللون الأخضر حين تزرع في النجيلة، أو اللون البني للجدار البني، أو بلون التراب حين تزرع في التراب، أو باللون الأسود حين تزرع في الشارع».
وأضاف: «زرع المتطرفون مفخخات حتى في دورات المياه. يتطلب الأمر لحل هذه المشكلة الوصول إلى المسطرة، وليس إلى القنبلة أو الدانة أو العبوة أياً كانت... بعد التأكد من وجود قنبلة في المكان، تبدأ مهمة معقدة للبحث عن المسطرة، أو العكس». ويتابع وهو يشرح أسرع وسيلة للموت والدمار، أن «المتطرفين استخدموا طرقاً مختلفة للتفجير، منها أيضاً ربط القنبلة اليدوية بأي شيء يمكن شده، مثل مقبض الباب... بمجرد إدارة المقبض تنفجر القنبلة».
وفي داخل 3 أوكار، على الأقل، كانت مراكز لـ«الدواعش» في شارع البحر، توجد بقايا لأوراق ورسومات عن طرق تركيب القنابل بعضها مأخوذ من مواقع على الإنترنت والبعض الآخر مرسوم باليد. أما مخازن الأسلاك ودانات التفجير التي كان يعدها «الدواعش» للتفخيخ، فموجودة في كل وكر تقريباً من تلك التي تمكن الجيش من دخولها. أسلاك حمراء وأخرى سوداء وخضراء. ونوابض وهواتف جوالة ومساطر، وغيرها.
وبعد شرب الشاي وتبادل أطراف الحديث والذكريات القريبة عن الضباط والجنود الذين قُتلوا وهم يحاولون تفكيك المفخخات في الأشهر الأخيرة، بدأ استئناف العمل من جديد، في منطقة «مشروع الصفصفة»، بحثاً عن قنابل ومتفجرات أخرى على جانبي الطريق وفي مداخل البيوت.
كان الشارع طويلاً ومهجوراً وتصطف على جانبيه مئات العمارات المثقوبة بالقذائف. وصاح أحد الجنود من أمام مدخل مبنى محترق. وهذا يعني أنه عثر على شيء ما. إنها مسطرة مزروعة في عتبة الدخول. ذات لون طوبي يشبه ركام الحجارة التي كانت فوقها.
وفي الحال تقدم الضابط، مهندس تفكيك المفخخات. وشرع يتتبع بأصابعه الأسلاك التي تربط المسطرة بالقنبلة. ومن ورائه يقف 3 من مساعديه. واحتمال أن تقع كارثة وتنفجر العمارة على الجميع احتمال قائم. لكن لا بد من الاستمرار في العمل. وأخذ المهندس يحفر حول المسطرة بيديه العاريتين... ثم بدأ يحفر مع الأسلاك التي ستصل به إلى موضع الدانة.
ويعمل مثل هؤلاء المهندسين بشكل بدائي للعثور على المتفجرات بسبب نقص المعدات اللازمة لذلك، حيث تعد وسائل الكشف عن الألغام والمتفجرات من المحرمات المفروضة من المجتمع الدولي ضمن الحظر على تسليح الجيش الليبي المقرر من الأمم المتحدة منذ عام 2011.
وكان يوجد في منطقة «الصابري» وفي «مشروع الصفصفة» ألوف القنابل المزروعة في كل مكان. وفي آخر الطريق وقفت سيارة صغيرة ونزلت منها أسرة مكونة من رجل يدعى ناجي، وزوجته و3 من بناته لأخذ الإذن بالدخول لتفقد منزلهم. لكن الجيش لم يسمح لهم بذلك.
ما زال الخطر قائماً. ومع ذلك أسند ناجي ذراعه على سقف سيارته، وأخذ يراقب المشهد. بينما ترجلت زوجته وبناته حول السيارة كأنهن يستعدن ذكريات الماضي الذي كان ينبض بالحياة هنا. ويقول الرجل الذي كان يدير متجر ملابس تحت بيته في هذا الشارع، قبل أن يجتاح المتطرفون المنطقة، إنه يعيش وأسرته، منذ عام 2014، لدى أقارب لهم في نجع جنوب مطار بنغازي المعروف باسم مطار بنينا، وإنه جاء قبل أسبوع على أمل أن يرمم بيته ومتجره، إلا أن ضباط الهندسة العسكرية لم يسمحوا له. وفقد الرجل ولديه أثناء الحرب ضد «تنظيم أنصار الشريعة» الذي يوصف أحياناً بأنه أحد أذرع «داعش» في بنغازي.
وبينما يشاهد من بعيد محاولة الضابط الوصول إلى مكان القنبلة، دوّى انفجار ضخم، وغطى التراب كل شيء، بينما سقطت الكتل الخرسانية في الشارع في ضجيج أصم. وعادت أسرة ناجي من حيث أتت أمام هذه الواقعة التي لا تبشر بالخير.
وفي الطريق الخلفية من «مشروع الصفصفة» كذلك، كان هناك ضباط وجنود يعملون أيضاً على تتبع أماكن الألغام. وسمع انفجار دانة أخرى في مبنى مجاور كان تحت الإنشاء... كان أصحاب البيت يطمحون في معاينته لاستكمال بنائه المتوقف منذ عامين، رغم تحذيرات الجيش. وتسبب الانفجار في قتل 4 أطفال ووالدتهم. وأصبحت جثثهم مجرد قطع صغيرة يمكن أن تحمل كل قطعة منها بكف اليد.
ومن خلال زوايا الشوارع، ظهر أن هناك 5 أسر أخرى على الأقل كانت تحاول العودة، إلا أنها قادت سياراتها مبتعدة. ويقول مسؤول في الجيش كان يرافق «الشرق الأوسط»: معظم المهندسين العسكريين قُتلوا وهم يحاولون إبطال هذه المفخخات في مناطق مختلفة في بنغازي... لا توجد لدى الجيش أجهزة لكشف الألغام والمفخخات... سلك ومسطرة وطريقة بدائية وخطيرة جداً. تحتاج إلى تدريب ومعدات خاصة... هؤلاء يعملون بأيدٍ عارية وفقدنا نحو 80 في المائة من الأفراد الذين يعملون في تفكيك الألغام. لكننا دربنا مجموعات جديدة وخرّجنا ضباطاً جدداً لاستكمال المهمة».
- غابة المفخخات
ودخل ناشطون ليبيون على الخط من أجل إنقاذ الأسر من السقوط في غابة المفخخات، مستغلين في ذلك تطبيقات الهواتف الجوالة، ومن بين هذه الطرق أن يقوم المواطن الذي يشتبه في وجود قنبلة في محيط منزله أو في أي مكان، بتصوير الموقع، وإرساله على التطبيق، متبوعاً بتحديد المكان بنظام خرائط «غوغل» أو «جي بي إس».
كما خصص ناشطون آخرون صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن المفخخات. وكل هذا السيل من المعلومات يتم إرساله على الفور إلى الجيش الذي يقوم باتخاذ ما يجب... يضع أولاً شريطاً حول المنطقة ثم يبدأ في توجيه ضباط الهندسة العسكرية لمعالجة المشكلة.
في ضاحية «الصابري» عاد رجال الهندسة العسكرية على عجل بعد عدة بلاغات. وفي هذه الضاحية فقد ضباط آخرون أرواحهم. وفي كل جلسة استراحة تسمع وأنت تشرب الشاي أسماء جديدة لمن قُتلوا... كان من بينهم العسكري المتقاعد محمد الفاخري.
وضحى الفاخري بحياته حين كان يقوم بنزع الحجارة من فوق مسطرة مربوطة بدانة مدفع من عيار 155 ملليمتراً. كانت الدانة مزروعة على بعد مترين تقريباً من موقع المسطرة. وانفجرت مرة واحدة. ومن قوتها أطاحت بواجهة العمارة وتركت حفرة كبيرة في المدخل.
وكان للفاخري ابن قُتل أثناء مشاركته في الحرب ضد المتطرفين في الشهور الماضية. ويقول أحد زملائه: «كان ضابطاً مقداماً. ولم يمنعه التقاعد من الجيش قبل سنوات، من العودة لمد يد العون لجهود أبناء بنغازي في تحرير مدينتهم من الإرهابيين ومن المفخخات التي تركوها، خصوصاً بعد أن استشهد ابنه في هذه الحرب. مثل هؤلاء الضباط والجنود قدموا أرواحهم للوطن، لأنهم إذا لم يقوموا بذلك سينفجر اللغم أو الدانة في عائلة أو في أسرة».
وفي مبنى آخر، عثر أحد الضباط على مسطرة مخفية تحت كومة من التراب في جانب الرصيف. وهذا يعني مخاطرة جديدة لنزع فتيل القنبلة. وكانت المسطرة مربوطة بدانة مدفع من عيار 122 ملليمتراً. وبدأ وجه الضابط يتصبب بالعرق وهو يمسك بسكين ويحاول فصل المسطرة، أي أداة التفجير، عن القنبلة.
وحبس زملاؤه السبعة أنفاسهم، وهم يقفون بعيداً، خوفاً من وقوع كارثة. وبعد قليل رفع الضابط يديه عالياً والسكين في يده. وصاح: «الله أكبر ولله الحمد». وهرع الباقون إليه وهم يكبرون ويهللون. لقد تمت إزالة الخطر.
ويقول مرافق «الشرق الأوسط» وهو من الجيش: «حين يفكك الضابط الدانة، يحيلها إلى سلاح المدفعية، لاستخدامها مرة أخرى في الحرب ضد الدواعش. ما يزرع في الشارع يصيب أياً من الناس... عرباً أو أجانب أو سيارة أو حيوانات... أي شيء. هناك دانات مربوطة بجهاز لاسلكي للتفجير عن بعد وبالهواتف الجوالة أيضاً. ومنذ قليل عثرنا على واحدة خاصة براجمة من عيار 107 ملليمترات، مربوطة بلاسلكي أمام مسجد ضاحية القوارشة».
ومرة أخرى... وقت قصير للاستراحة. وأكثر شيء يقدم في مثل هذه الأوقات هو الخبز والشاي. فرغم أن الدولة غنية بالنفط، فإنها أصبحت تعاني من الفقر والشُّح. في كل مرة خبز وشاي. ويبدو أنه الغذاء الرئيسي لآلاف الضباط والجنود طوال النهار.
ومع الإرهاق والجوع وانتظار الموت، يكون لهذا الطعام البسيط رائحة ومذاق وجائزة لا تقدر بثمن. أما إذا تطوعت إحدى العائلات التي جاءت حديثاً للمنطقة التي جرى تطهيرها، وأرسلت للمجموعة العسكرية قصعة أرز مطبوخ بالطماطم، فهذه جائزة مضاعفة تشجع على مزيد من العمل.
ويقول ضابط مخضرم يدعى عوض، فوق الستين من العمر، كان قد تقاعد من الخدمة في الجيش في أيام العقيد الراحل معمر القذافي، إن خبرات المتطرفين في زرع الألغام والمفخخات جلبوها معهم إلى ليبيا من مناطق الاقتتال التي كانوا يشاركون فيها، في العراق وأفغانستان والشيشان وسوريا وغيرها.
ويضيف: «حتى أسطوانات غاز الطهي يستخدمونها مفخخات. كلها خبرات مختلفة جمعوها في بنغازي». ويشارك عوض في عمليات تفكيك المفخخات، وكل طموحه أن يجد ملابس عسكرية يرتديها بدل ملابسه المدنية. ويفتقر الجيش الليبي عموماً للإمكانات بما فيها «النقص في القيافات (أي ملابس الجيش)»، كما يقول عوض.
ودارت قطع الخبز وفناجين الشاي المغلي دورة أخرى. ويقول الضابط عوض إنه قرر العودة إلى بنغازي والانخراط في الجيش متطوعاً بعد أن انتشرت عمليات تفخيخ سيارات العسكريين وبيوتهم في المدينة على يد المتطرفين.
ويتذكر تلك الأيام القريبة حيث «كانت جثث الضباط والقيادات العسكرية تلقى في الشوارع يوماً بعد يوم... حتى العميد أحمد البرغثي، مدير إدارة الشرطة العسكرية في طرابلس، لم يسلم من يد الإرهاب. كان رفيقنا. وحين جاء إلى بنغازي في زيارة قتلوه. ورأيت آثار التعذيب على جثته. ثم استهدفوا زملاءه، هنا، بالمفخخات».
وفي نطاق العمليات العسكرية شمال ضاحية الصابري، يقف الملازم مرعي الحوتي بعد أن فقد جميع زملائه من العسكريين أثناء الحرب على الإرهاب حين كانت في بدايتها... واليوم يبدو أنه لا يريد أن يتراجع. ويسعى وراء فلول المتطرفين بلا هوادة كأنه يريد أن يلحق برفاقه الذين جرى تفجيرهم وقتلهم أمام عينيه. ومن بين هؤلاء الرائد الراحل فضل الحاسي.
كان الحاسي آمر التحريات بالقوات الخاصة. وكان الحوتي معاوناً له. كانوا 7 رفاق خاضوا الحرب في ظروف عصيبة ولم يتبقَ منهم سوى هو. والآن يقود الحوتي مجموعة من العسكريين في سيدي خريبيش، بعد أن تمكن من طرد المتطرفين من «الصابري» و«سوق الحوت».
وبينما تميل الشمس ناحية الغروب، تبدو السفن مجللة بغلالة حمراء، وهي رابضة في ميناء بنغازي الذي ظل لأكثر من 3 أعوام تحت سيطرة المتطرفين. ونصبت القوات البحرية بوابة لمنع المواطنين من العبور إلى الضواحي الداخلية المطلة على البحر، إلا بعد تطهيرها من مفخخات الألغام. وكانت الأولوية في تنظيف المنطقة من الدانات والمتفجرات لصالح الميناء بطبيعة الحال.
وأمر أحد الضباط بإعداد الشاي مجدداً. وجاء جندي بأرغفة الخبز لكي يسخنها على النار. وبدأ كلٌ يذكر أصدقاءه الذين رحلوا وهم يحاولون فتح آفاق جديدة للمستقبل. وكانت العمارات والأبراج في الخلفية مدمرة، وجوانب الطرقات يغطيها ركام المباني المنهارة وبقايا الحاويات التي كان المتطرفون قد جلبوها من الميناء لسد الشوارع. وسيكون هناك عمل آخر لمواصلة فحص كل هذه الفوضى ونزع مساطر التفجير منها.
ومع حلول المساء تحوّل الحديث إلى لغة حزينة مشبعة بالعتاب على الضباط والجنود الذين ما زالوا يرفضون الانخراط في الجيش لمساعدة بنغازي وليبيا على العودة دولة مرة أخرى. ويقول ضابط وهو يقضم قطعة من الخبز الساخن: «يا إخوة... كيف تتصورون الضباط الذين ينامون لدى أسرهم دون أن يشاركوا في الحرب أو يلتحقوا بالجيش؟... ماذا سيقول هؤلاء لأبنائهم وأحفادهم عن معارك تحرير بنغازي من المتطرفين، وعن جهود تطهير المدينة من الألغام؟».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.