«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (3 من 5): رحلة تفكيك مفخخات بنغازي

80 % ممن يعملون عليها فقدوا أرواحهم

آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
TT

«الشرق الأوسط» داخل أوكار المتطرفين في ليبيا (3 من 5): رحلة تفكيك مفخخات بنغازي

آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)

هذه واحدة من أخطر العمليات التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي، رغم ضعف إمكاناته، وهي تفكيك ألوف المفخخات التي تركتها التنظيمات المتطرفة في المواقع التي مرت عليها في ضواحي مدينة بنغازي... مفخخات في العمارات... وفي الشوارع... وفي الحدائق العامة... في نوادي الأطفال... في ملاعب الكرة... وفي دورات المياه الخاصة والعامة. مفخخات تنفجر بمجرد إدارة مقبض الباب أو الضغط على مفتاح إنارة الغرفة... ومفخخات مرتبطة بما يعرف بـ«مساطر التفجير». مساطر تأخذ لون المكان الذي تزرع فيه؛ أخضر وسط العشب، وأسود في الشارع، وترابي في التراب. وكل مسطرة مرتبطة بدانة. وبعض الدانات كبيرة الحجم وتخلِّف دماراً واسعاً، مثل الدانة الخاصة بالقنبلة من زنة 500 ملليمتر وهي التي لا تحملها إلا الطائرات الحربية الضخمة.
وتواصل «الشرق الأوسط» في هذه الحلقة الثالثة سرد أكبر عملية لطرد المتطرفين من الأوكار التي كانوا يديرون منها عملياتهم في ليبيا.
مثلما كان يفعل رجال جرد مخازن السلع قديماً، جلس ضابط من رجال الهندسة العسكرية وسط جنوده، لكن لكي يحصي عدد القنابل التي جرى استخراجها من شوارع ومباني ضاحية الصابري في هذا النهار... ورفع يده محذراً: «لا... لا أحد يقترب. لا تتسببوا لنا في كارثة»، كانت بعض الدانات ما زالت مزودة بفتيل التفجير، في انتظار إبطال مفعولها.
ولعبتْ مفخخات زرعها المتطرفون، وهم يتراجعون إلى الخلف، دوراً كبيراً في عرقلة تقدم الجيش... وفي تأخير استعادة ميناء بنغازي البحري والحظيرة الجمركية وكثير من المباني والمؤسسات العامة. وتكشف آثار «الدواعش» الذين مروا من هنا أن أشهر نوع من التفجيرات التي قاموا بدراستها واستخدامها على نطاق واسع، هو ما يعرف باسم «المسطرة»... وهي تشبه مسطرة بالفعل... تُزرع بشكل خفي في مكان يتوقع أن يستخدمه أي فرد في المنزل أو في الشارع أو في أي موقع عام.
وإذا ضغطت على هذه المسطرة بقدمك أو اتكأت عليها أو عبثت بالموقع المزروعة فيه، تقوم بتوصيل دائرة كهربائية إلى الدانة التي تكون مطمورة في مكان يبعد ما بين 3 و5 أمتار.
وأخذ الضابط يشرح حصيلة ما تم استخراجه اليوم من مساطر مربوطة بدانات من أوزان مختلفة، بعضها لديه القدرة على نسف عمارة مرة واحدة. وقال إن «المسطرة هي وصلة الربط لتفجير الدانة أو القنبلة. توجد ألوان وتصميمات مختلفة للمساطر، مثل اللون الأخضر حين تزرع في النجيلة، أو اللون البني للجدار البني، أو بلون التراب حين تزرع في التراب، أو باللون الأسود حين تزرع في الشارع».
وأضاف: «زرع المتطرفون مفخخات حتى في دورات المياه. يتطلب الأمر لحل هذه المشكلة الوصول إلى المسطرة، وليس إلى القنبلة أو الدانة أو العبوة أياً كانت... بعد التأكد من وجود قنبلة في المكان، تبدأ مهمة معقدة للبحث عن المسطرة، أو العكس». ويتابع وهو يشرح أسرع وسيلة للموت والدمار، أن «المتطرفين استخدموا طرقاً مختلفة للتفجير، منها أيضاً ربط القنبلة اليدوية بأي شيء يمكن شده، مثل مقبض الباب... بمجرد إدارة المقبض تنفجر القنبلة».
وفي داخل 3 أوكار، على الأقل، كانت مراكز لـ«الدواعش» في شارع البحر، توجد بقايا لأوراق ورسومات عن طرق تركيب القنابل بعضها مأخوذ من مواقع على الإنترنت والبعض الآخر مرسوم باليد. أما مخازن الأسلاك ودانات التفجير التي كان يعدها «الدواعش» للتفخيخ، فموجودة في كل وكر تقريباً من تلك التي تمكن الجيش من دخولها. أسلاك حمراء وأخرى سوداء وخضراء. ونوابض وهواتف جوالة ومساطر، وغيرها.
وبعد شرب الشاي وتبادل أطراف الحديث والذكريات القريبة عن الضباط والجنود الذين قُتلوا وهم يحاولون تفكيك المفخخات في الأشهر الأخيرة، بدأ استئناف العمل من جديد، في منطقة «مشروع الصفصفة»، بحثاً عن قنابل ومتفجرات أخرى على جانبي الطريق وفي مداخل البيوت.
كان الشارع طويلاً ومهجوراً وتصطف على جانبيه مئات العمارات المثقوبة بالقذائف. وصاح أحد الجنود من أمام مدخل مبنى محترق. وهذا يعني أنه عثر على شيء ما. إنها مسطرة مزروعة في عتبة الدخول. ذات لون طوبي يشبه ركام الحجارة التي كانت فوقها.
وفي الحال تقدم الضابط، مهندس تفكيك المفخخات. وشرع يتتبع بأصابعه الأسلاك التي تربط المسطرة بالقنبلة. ومن ورائه يقف 3 من مساعديه. واحتمال أن تقع كارثة وتنفجر العمارة على الجميع احتمال قائم. لكن لا بد من الاستمرار في العمل. وأخذ المهندس يحفر حول المسطرة بيديه العاريتين... ثم بدأ يحفر مع الأسلاك التي ستصل به إلى موضع الدانة.
ويعمل مثل هؤلاء المهندسين بشكل بدائي للعثور على المتفجرات بسبب نقص المعدات اللازمة لذلك، حيث تعد وسائل الكشف عن الألغام والمتفجرات من المحرمات المفروضة من المجتمع الدولي ضمن الحظر على تسليح الجيش الليبي المقرر من الأمم المتحدة منذ عام 2011.
وكان يوجد في منطقة «الصابري» وفي «مشروع الصفصفة» ألوف القنابل المزروعة في كل مكان. وفي آخر الطريق وقفت سيارة صغيرة ونزلت منها أسرة مكونة من رجل يدعى ناجي، وزوجته و3 من بناته لأخذ الإذن بالدخول لتفقد منزلهم. لكن الجيش لم يسمح لهم بذلك.
ما زال الخطر قائماً. ومع ذلك أسند ناجي ذراعه على سقف سيارته، وأخذ يراقب المشهد. بينما ترجلت زوجته وبناته حول السيارة كأنهن يستعدن ذكريات الماضي الذي كان ينبض بالحياة هنا. ويقول الرجل الذي كان يدير متجر ملابس تحت بيته في هذا الشارع، قبل أن يجتاح المتطرفون المنطقة، إنه يعيش وأسرته، منذ عام 2014، لدى أقارب لهم في نجع جنوب مطار بنغازي المعروف باسم مطار بنينا، وإنه جاء قبل أسبوع على أمل أن يرمم بيته ومتجره، إلا أن ضباط الهندسة العسكرية لم يسمحوا له. وفقد الرجل ولديه أثناء الحرب ضد «تنظيم أنصار الشريعة» الذي يوصف أحياناً بأنه أحد أذرع «داعش» في بنغازي.
وبينما يشاهد من بعيد محاولة الضابط الوصول إلى مكان القنبلة، دوّى انفجار ضخم، وغطى التراب كل شيء، بينما سقطت الكتل الخرسانية في الشارع في ضجيج أصم. وعادت أسرة ناجي من حيث أتت أمام هذه الواقعة التي لا تبشر بالخير.
وفي الطريق الخلفية من «مشروع الصفصفة» كذلك، كان هناك ضباط وجنود يعملون أيضاً على تتبع أماكن الألغام. وسمع انفجار دانة أخرى في مبنى مجاور كان تحت الإنشاء... كان أصحاب البيت يطمحون في معاينته لاستكمال بنائه المتوقف منذ عامين، رغم تحذيرات الجيش. وتسبب الانفجار في قتل 4 أطفال ووالدتهم. وأصبحت جثثهم مجرد قطع صغيرة يمكن أن تحمل كل قطعة منها بكف اليد.
ومن خلال زوايا الشوارع، ظهر أن هناك 5 أسر أخرى على الأقل كانت تحاول العودة، إلا أنها قادت سياراتها مبتعدة. ويقول مسؤول في الجيش كان يرافق «الشرق الأوسط»: معظم المهندسين العسكريين قُتلوا وهم يحاولون إبطال هذه المفخخات في مناطق مختلفة في بنغازي... لا توجد لدى الجيش أجهزة لكشف الألغام والمفخخات... سلك ومسطرة وطريقة بدائية وخطيرة جداً. تحتاج إلى تدريب ومعدات خاصة... هؤلاء يعملون بأيدٍ عارية وفقدنا نحو 80 في المائة من الأفراد الذين يعملون في تفكيك الألغام. لكننا دربنا مجموعات جديدة وخرّجنا ضباطاً جدداً لاستكمال المهمة».
- غابة المفخخات
ودخل ناشطون ليبيون على الخط من أجل إنقاذ الأسر من السقوط في غابة المفخخات، مستغلين في ذلك تطبيقات الهواتف الجوالة، ومن بين هذه الطرق أن يقوم المواطن الذي يشتبه في وجود قنبلة في محيط منزله أو في أي مكان، بتصوير الموقع، وإرساله على التطبيق، متبوعاً بتحديد المكان بنظام خرائط «غوغل» أو «جي بي إس».
كما خصص ناشطون آخرون صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن المفخخات. وكل هذا السيل من المعلومات يتم إرساله على الفور إلى الجيش الذي يقوم باتخاذ ما يجب... يضع أولاً شريطاً حول المنطقة ثم يبدأ في توجيه ضباط الهندسة العسكرية لمعالجة المشكلة.
في ضاحية «الصابري» عاد رجال الهندسة العسكرية على عجل بعد عدة بلاغات. وفي هذه الضاحية فقد ضباط آخرون أرواحهم. وفي كل جلسة استراحة تسمع وأنت تشرب الشاي أسماء جديدة لمن قُتلوا... كان من بينهم العسكري المتقاعد محمد الفاخري.
وضحى الفاخري بحياته حين كان يقوم بنزع الحجارة من فوق مسطرة مربوطة بدانة مدفع من عيار 155 ملليمتراً. كانت الدانة مزروعة على بعد مترين تقريباً من موقع المسطرة. وانفجرت مرة واحدة. ومن قوتها أطاحت بواجهة العمارة وتركت حفرة كبيرة في المدخل.
وكان للفاخري ابن قُتل أثناء مشاركته في الحرب ضد المتطرفين في الشهور الماضية. ويقول أحد زملائه: «كان ضابطاً مقداماً. ولم يمنعه التقاعد من الجيش قبل سنوات، من العودة لمد يد العون لجهود أبناء بنغازي في تحرير مدينتهم من الإرهابيين ومن المفخخات التي تركوها، خصوصاً بعد أن استشهد ابنه في هذه الحرب. مثل هؤلاء الضباط والجنود قدموا أرواحهم للوطن، لأنهم إذا لم يقوموا بذلك سينفجر اللغم أو الدانة في عائلة أو في أسرة».
وفي مبنى آخر، عثر أحد الضباط على مسطرة مخفية تحت كومة من التراب في جانب الرصيف. وهذا يعني مخاطرة جديدة لنزع فتيل القنبلة. وكانت المسطرة مربوطة بدانة مدفع من عيار 122 ملليمتراً. وبدأ وجه الضابط يتصبب بالعرق وهو يمسك بسكين ويحاول فصل المسطرة، أي أداة التفجير، عن القنبلة.
وحبس زملاؤه السبعة أنفاسهم، وهم يقفون بعيداً، خوفاً من وقوع كارثة. وبعد قليل رفع الضابط يديه عالياً والسكين في يده. وصاح: «الله أكبر ولله الحمد». وهرع الباقون إليه وهم يكبرون ويهللون. لقد تمت إزالة الخطر.
ويقول مرافق «الشرق الأوسط» وهو من الجيش: «حين يفكك الضابط الدانة، يحيلها إلى سلاح المدفعية، لاستخدامها مرة أخرى في الحرب ضد الدواعش. ما يزرع في الشارع يصيب أياً من الناس... عرباً أو أجانب أو سيارة أو حيوانات... أي شيء. هناك دانات مربوطة بجهاز لاسلكي للتفجير عن بعد وبالهواتف الجوالة أيضاً. ومنذ قليل عثرنا على واحدة خاصة براجمة من عيار 107 ملليمترات، مربوطة بلاسلكي أمام مسجد ضاحية القوارشة».
ومرة أخرى... وقت قصير للاستراحة. وأكثر شيء يقدم في مثل هذه الأوقات هو الخبز والشاي. فرغم أن الدولة غنية بالنفط، فإنها أصبحت تعاني من الفقر والشُّح. في كل مرة خبز وشاي. ويبدو أنه الغذاء الرئيسي لآلاف الضباط والجنود طوال النهار.
ومع الإرهاق والجوع وانتظار الموت، يكون لهذا الطعام البسيط رائحة ومذاق وجائزة لا تقدر بثمن. أما إذا تطوعت إحدى العائلات التي جاءت حديثاً للمنطقة التي جرى تطهيرها، وأرسلت للمجموعة العسكرية قصعة أرز مطبوخ بالطماطم، فهذه جائزة مضاعفة تشجع على مزيد من العمل.
ويقول ضابط مخضرم يدعى عوض، فوق الستين من العمر، كان قد تقاعد من الخدمة في الجيش في أيام العقيد الراحل معمر القذافي، إن خبرات المتطرفين في زرع الألغام والمفخخات جلبوها معهم إلى ليبيا من مناطق الاقتتال التي كانوا يشاركون فيها، في العراق وأفغانستان والشيشان وسوريا وغيرها.
ويضيف: «حتى أسطوانات غاز الطهي يستخدمونها مفخخات. كلها خبرات مختلفة جمعوها في بنغازي». ويشارك عوض في عمليات تفكيك المفخخات، وكل طموحه أن يجد ملابس عسكرية يرتديها بدل ملابسه المدنية. ويفتقر الجيش الليبي عموماً للإمكانات بما فيها «النقص في القيافات (أي ملابس الجيش)»، كما يقول عوض.
ودارت قطع الخبز وفناجين الشاي المغلي دورة أخرى. ويقول الضابط عوض إنه قرر العودة إلى بنغازي والانخراط في الجيش متطوعاً بعد أن انتشرت عمليات تفخيخ سيارات العسكريين وبيوتهم في المدينة على يد المتطرفين.
ويتذكر تلك الأيام القريبة حيث «كانت جثث الضباط والقيادات العسكرية تلقى في الشوارع يوماً بعد يوم... حتى العميد أحمد البرغثي، مدير إدارة الشرطة العسكرية في طرابلس، لم يسلم من يد الإرهاب. كان رفيقنا. وحين جاء إلى بنغازي في زيارة قتلوه. ورأيت آثار التعذيب على جثته. ثم استهدفوا زملاءه، هنا، بالمفخخات».
وفي نطاق العمليات العسكرية شمال ضاحية الصابري، يقف الملازم مرعي الحوتي بعد أن فقد جميع زملائه من العسكريين أثناء الحرب على الإرهاب حين كانت في بدايتها... واليوم يبدو أنه لا يريد أن يتراجع. ويسعى وراء فلول المتطرفين بلا هوادة كأنه يريد أن يلحق برفاقه الذين جرى تفجيرهم وقتلهم أمام عينيه. ومن بين هؤلاء الرائد الراحل فضل الحاسي.
كان الحاسي آمر التحريات بالقوات الخاصة. وكان الحوتي معاوناً له. كانوا 7 رفاق خاضوا الحرب في ظروف عصيبة ولم يتبقَ منهم سوى هو. والآن يقود الحوتي مجموعة من العسكريين في سيدي خريبيش، بعد أن تمكن من طرد المتطرفين من «الصابري» و«سوق الحوت».
وبينما تميل الشمس ناحية الغروب، تبدو السفن مجللة بغلالة حمراء، وهي رابضة في ميناء بنغازي الذي ظل لأكثر من 3 أعوام تحت سيطرة المتطرفين. ونصبت القوات البحرية بوابة لمنع المواطنين من العبور إلى الضواحي الداخلية المطلة على البحر، إلا بعد تطهيرها من مفخخات الألغام. وكانت الأولوية في تنظيف المنطقة من الدانات والمتفجرات لصالح الميناء بطبيعة الحال.
وأمر أحد الضباط بإعداد الشاي مجدداً. وجاء جندي بأرغفة الخبز لكي يسخنها على النار. وبدأ كلٌ يذكر أصدقاءه الذين رحلوا وهم يحاولون فتح آفاق جديدة للمستقبل. وكانت العمارات والأبراج في الخلفية مدمرة، وجوانب الطرقات يغطيها ركام المباني المنهارة وبقايا الحاويات التي كان المتطرفون قد جلبوها من الميناء لسد الشوارع. وسيكون هناك عمل آخر لمواصلة فحص كل هذه الفوضى ونزع مساطر التفجير منها.
ومع حلول المساء تحوّل الحديث إلى لغة حزينة مشبعة بالعتاب على الضباط والجنود الذين ما زالوا يرفضون الانخراط في الجيش لمساعدة بنغازي وليبيا على العودة دولة مرة أخرى. ويقول ضابط وهو يقضم قطعة من الخبز الساخن: «يا إخوة... كيف تتصورون الضباط الذين ينامون لدى أسرهم دون أن يشاركوا في الحرب أو يلتحقوا بالجيش؟... ماذا سيقول هؤلاء لأبنائهم وأحفادهم عن معارك تحرير بنغازي من المتطرفين، وعن جهود تطهير المدينة من الألغام؟».



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».