الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

قراءة في التوجه السعودي

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
TT

الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)

إن الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح»، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، جاءت بحسم لا يحتمل الشك أو التردد، إذ أكد ولي العهد السعودي في 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي 2017: «سنعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على جميع الأديان»، وأضاف: «لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسنقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحدياً، فنحن نمثل القيم السمحة المعتدلة الصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه، وسندمرهم اليوم وفوراً».
بهذه الكلمات القليلة، اختصر ولي العهد السعودي رفض إعاقة التطرف والتشدد للتنمية، وضرورة رفع غباره وتشوهاته عن حقيقة المبادئ والقيم السمحة المعتدلة للإسلام المعتدل الوسطي المنفتح.
وجاءت تصريحات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي هذه في أثناء افتتاح مشروع «نيوم» الاقتصادي التنموي الضخم المزمع إقامته، وهي تؤكد بوضوح على أن التمكين للاعتدال ضرورة حتمية لا تردد فيها، واتساق مع اعتبار التطرف إعاقة كبيرة للنهضة والتنمية والاستقرار.
- السعودية وريادة جهود مكافحة التطرف
واقع الحال أن السعودية خلال السنوات الثلاث الماضية، حققت قفزة هائلة في جهود التمكين للاعتدال، كجزء من سياسة مكافحة التطرف، عبر كثير من المؤسسات والمراكز البحثية الجديدة، وكذلك تدشين كثير من السياسات والمؤسسات التنموية الضخمة وفق «رؤية 2030»، والحرب على الفساد، ورفض التشدد وجموده العائق لحركة التقدم والوطن. ومن شأن مكافحة التطرف والإرهاب، دفع الوطن نحو مرحلة جديدة، تتكامل فيه مع ما سبق من جهود كبيرة كذلك، لا تزال مستمرة مثمرة، مثل لجان المناصحة وحملة السكينة ونقد الخطاب المتطرف وتفكيك أصوله، شرعياً وفكرياً.
ويذكر أن السعودية تشكل المفردة الأكثر تكراراً في كل خطابات أسامة بن لادن، وتكشف وثائقه التي كشف عنها أخيراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي أن أمنيته وهاجسه الأكبر كان وصول زلزال الانتفاضات والتظاهرات سنة 2011 الذي نشط عربياً إليها، كما تمثل السعودية العدو الأول في أدبيات جماعات الإرهاب عموماً، من «القاعدة» حتى «داعش»، ونذكر أن أول عمليات «القاعدة» كانت موجهة للمملكة في تسعينات القرن الماضي، كما أصر زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن على تأسيس أول فرع للقاعدة خارج أفغانستان على أراضيها عام 2003، ودفعه دون استعداد عناصره - كما يعترف بعضهم - لتنفيذ أول عملياته بها في مايو (أيار) سنة 2003، حتى قتل مؤسسه حينها (يوسف العييري).
وقد شهدت السعودية تحديداً عشرات العمليات والمحاولات الإرهابية التي استهدفت أراضيها ومواطنيها واستقرارها، فما بين مارس (آذار) عام 2003 و2011، بلغت عمليات الإرهاب ضد المملكة 98 عملية إرهابية تقريباً، راح ضحيتها أكثر من 90 شخصاً من المدنيين، وأصيب أكثر من 608 آخرين، وقتل فيها نحو 65 شخصاً من رجال الأمن، وأصيب أكثر من 360 منهم. وما بين 2012 و2017، شهدت المملكة ما يقرب من عملية ومحاولة إرهابية لخلايا «داعش»، استهدفت مقدساتها بالخصوص، وراح ضحيتها عشرات القتلى والمصابين.

حرب الأفكار

لا تتمدد جماعات ومجموعات التطرف إلا في الفراغات والفجوات التي قد يتركها الآخرون. فإذا غاب الاعتدال والتسامح حضر التطرف والغلو، وإذا غاب التسامح حضر التعصب والتشدد، وإذا تراجعت الدولة والقدرة الأمنية وجدت بؤر توحشه أو ملاذاته الآمنة.
إن التمكين للاعتدال والإسلام المعتدل هو السبيل الأول، كما أنه الدفع والصد والهجوم على أفكار التطرف والإرهاب وجماعاته. والفروق بين التشدد والتطرف والتطرف العنيف هي فروق درجات ومحطات طريق تلتقي أحياناً، وليست طرقاً مختلفة.
وكما أن للدولة سياساتها وتصوراتها الشاملة، تطرح هذه الجماعات الشمولية نفسها بديلاً، لها تصوراتها وسياساتها كذلك، توظيفاً لكل ما هو متاح من شوارد التعصب والكراهية، أو أسانيد التشدد والعنف، بغض النظر عن سياقاتها وتاريخيتها، أو عن ما يضادها ويدحضها من أسانيد أخرى، أو مبررات وروايات وحكايات مؤامرة الآخرين، التي تصل لحد السحرية والهذيان أحياناً، تبريراً لاستهدافه واستعداء الأمة عليه، عدواً قريباً كان أو بعيداً.
ويعيش التطرف غيبة زمانية وتاريخية، ولكنه رغم ذلك يدعي شمولية طرحه، وقدرته على حل جميع المشكلات، مالكاً دعوى الاكتفاء النظري، والاحتباس عن كل قيمة إنسانية تصير عنده مؤدلجة، فالحق والعدل والمساواة والانفتاح والحوار لا تحضر عنده إلا لصالحه، مسيسة بسياسته محبوسة في سجنه.
كذلك، ورغم ضجيج المتطرفين الهائل الزاعق، فإنه ليس إلا هامشاً معزولاً عن الاعتدال السائد وغالبيته، ولكن خطورة التطرف أنه يحاول قسراً وعنفاً تطويع الأغلبية له، وسرقة المجتمع والسلطة لصالحه، عبر شعاراته العاطفية الجاذبة، وعبر مقولاته الآيديولوجية المؤولة والمؤثرة، لكنه تاريخاً وواقعاً يبقى هامشاً لا يلبس أن ينهزم بعد ما يبدو منه من انتصار.
لكن يظل الجانب الآيديولوجي والمرجعي، وكذلك الشعاراتي، في التطرف بوجوهه المختلفة، هو الأكثر خطورة من سواه، وتظل مواجهته أولوية ضرورية في جهود مكافحة التطرف، فالإرهابي لا يعرف مرجعية غير مرجعيته، ولا مناهج غير ما أحله له شيوخه، ويبقى كل جهد للتمكين للتعايش والاعتدال يصب كذلك في مواجهته ومكافحته.
من هنا، اتسعت سياسات التمكين للاعتدال وتعزيز الوسطية لمجالات كثيرة في العقد الأخير، من التشريعات وتجريم التكفير والتخوين، إلى تصنيف الجماعات الإرهابية، والانتباه لخطر توظيف الإرهابيين للإنترنت ومنصاته، والاشتباك العملي معه عبر ضرب معاقله، وتجفيف منابعه وروافده، وكشف المتورطين فيه دعماً أو تحريضاً، وحجب منصاته الترويجية، وحبسه في جيتوهات عزلته، والحرب العسكرية والأمنية لعناصره ومجموعاته، والتركيز على السياقات الاجتماعية والحضارية، كالتنمية وحل مشكلات البطالة، والسياقات الإبداعية ومحاربة الإرهاب بالفن، كما أعلنت حكومة الإمارات في 11 نوفمبر الحالي 2017، من أنه وسيلة من وسائل مكافحة التطرف بالفن، وإنشاء عدد كبير من مراكز البحث وبيوت الخبرة واللجان والحملات والبرامج المتخصصة في مكافحة الإرهاب من زوايا مختلفة، ودعوة مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في 9 نوفمبر الحالي 2017 إلى ترويج صور ضحايا الإرهاب وقصصهم المأساوية التي تم توثيق بعضها، كوسيلة فاعلة في مكافحة التطرف. ولا شك أن الإلحاح على التنمية والتمكين للمؤسسات، والفصل بين السلطات، والحرب على الفساد، والجاذبية الأمنية التي تعتمد على تطوير وأخلاقية الأجهزة ونزاهتها، والمشاركة المجتمعية في خدمتها عبر فكرة الأمن الاجتماعي والشبكات الاجتماعية الآمنة، كلها إجراءات مهمة في التمكين للاعتدال.
ولكن يظل الجانب الفكري والآيديولوجي هو الأكثر أهمية وخطورة، فالمطويات والأدبيات الإرهابية تتلبس قناع الدين الصحيح، وتقنع المتدينين غير المؤهلين، وأغلبهم حسبما أثبتت كثير من الدراسات على غير معرفة رصينة بالقواعد الأساسية للإسلام، وتم استغلال عواطفهم من قبل المتطرفين دائماً. كما أن الجانب الآيديولوجي، فكراً وشعاراً، يمثل حوامل ومضامين وسائط التجنيد والترويج للتطرف، لذا كان مهماً الاشتباك النقدي الحي مع المتعاطفين مع التطرف، وكذلك تحصين فئات معينة مبكراً من أخطاره، بدءاً من الطلبة والأطفال في المدارس حتى المتحولين الجدد للإسلام، خصوصاً أن هؤلاء الأخيرين مثلوا 25 في المائة من المقاتلين الأجانب في «داعش»، كما أنه من المهم فض الاشتباك بين المفاهيم عند جماعات التطرف، الذي يخلطها ويصورها على غير حقيقتها، فيتم الخلط بين الاجتهادي التاريخي والعقدي وبين الفتوى والحكم، وبين الديني والدعوى والسياسي، وبين القانون والطاغوت، وغير هذا من مسائل ومشكلات.
- شعارات الكراهية وصراعات الذات
واستمرت جماعات التطرف والتطرف العنيف، سنية وشيعية على السواء، تستثمر في ترسانة من الشعارات الحاسمة في مواجهة آخريها، فكل المختلفين «خونة»، كما كتب أبو بكر ناجي يوماً، وكل الديار - بما فيها الحرمان الشريفان - «ديار كفر»، كما كتب أبو ميسرة الغريب، وكل الأنظمة «طاغوت» وعمالة، كما يردد الجهاديون، سنة وشيعة على السواء، كما أن الديمقراطية كفر ودين لا يصح الاعتقاد به، كما يكتبون، أو مقيدة بإرادة الولي الفقيه، كما هو الشأن في النظام الإيراني. وتبدو المقاومة والممانعة في مقابل الموالاة والعمالة الناتجة من الآخرين، رغم أنهم لا يبالون متى اقتضت المصلحة التعاون مع الأعداء والتحالف معهم، بغية تحقيق أهدافهم الداخلية، وضد أشقائهم ومن يتحدثون باسم مقاومتهم، كما هو الشأن مع «حزب الله» اللبناني، أو شهدناه في الاتفاق النووي الإيراني مع إدارة أوباما، أو في التقارب مع «القاعدة» التي أثبتتها وثائق بن لادن مجدداً، بعد تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
من هنا، نرى أن سياسات الهوية المعتدلة، غير المنتفخة وغير العدائية، وتمكين الوعي بفكرة الوطن والمواطنة، تمثل مدخلاً مهماً من مداخل الاعتدال في مكافحة التطرف، حيث يستخدم الأخير دائماً أزمات الهوية لدى المهمشين ولدى الأقليات والجاليات المسلمة في الغرب وفي بعض الدول لتوظيفها في حراكه العنيف ضد أعدائها.
كما أن التعاطي مع التطرف كذهنية واحدة تدرك تنوعاتها، حيث تحضر بين ممثلي التطرف وجماعاته تشابهات عابرة للطوائف والأديان، هو الأمر المهم الذي يكشف عمق التطرف الكامن ويعريه، فالتشابهات بين التطرف الشيعي والسني في المجال الإسلامي كبيرة ومتماهية، رغم كل ما يعلنه كلاهما من عداء متبادل للآخر، ولكن تجمعهم الأهداف، كما تجمعهم الممارسة الخطابية والشعارات، ولو اتسعنا لوجدناه في كثير من النماذج الشبيهة في الأديان الأخرى وفي التاريخ، التي تعتمد على احتكار الحقيقة وكراهية الآخرين، ورواية المؤامرة المستمرة ضدهم ومنهم. ولكن تظل الإشكالية الأكبر في التمكين للاعتدال في الحاضر الثقافي والاجتماعي الإسلامي هي القدرة على تحرير الإسلام من فكرة الصراع والإمامة التي كانت الفارق بين فرقه في القديم، وما زالت تمثل رافد كل جماعات الحاكمية وولاية الفقيه المعاصرة، رغم أنها مسألة تاريخية لم تكن إلا بعد انقطاع الوحي، وهو الجهد الشجاع الجسور الذي لامسه بعض المفكرين والفقهاء في التراث، ولكن تستحي من ملامسته بعض المؤسسات الدينية في عصرنا للأسف.


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».