الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

قراءة في التوجه السعودي

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
TT

الإسلام المعتدل الوسطي في مواجهة التطرف

الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)
الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح» جزء من استراتيجية الأزهر في مكافحة التطرف («الشرق الأوسط»)

إن الدعوة والتمكين لـ«الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح»، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، جاءت بحسم لا يحتمل الشك أو التردد، إذ أكد ولي العهد السعودي في 24 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي 2017: «سنعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على جميع الأديان»، وأضاف: «لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسنقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحدياً، فنحن نمثل القيم السمحة المعتدلة الصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه، وسندمرهم اليوم وفوراً».
بهذه الكلمات القليلة، اختصر ولي العهد السعودي رفض إعاقة التطرف والتشدد للتنمية، وضرورة رفع غباره وتشوهاته عن حقيقة المبادئ والقيم السمحة المعتدلة للإسلام المعتدل الوسطي المنفتح.
وجاءت تصريحات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي هذه في أثناء افتتاح مشروع «نيوم» الاقتصادي التنموي الضخم المزمع إقامته، وهي تؤكد بوضوح على أن التمكين للاعتدال ضرورة حتمية لا تردد فيها، واتساق مع اعتبار التطرف إعاقة كبيرة للنهضة والتنمية والاستقرار.
- السعودية وريادة جهود مكافحة التطرف
واقع الحال أن السعودية خلال السنوات الثلاث الماضية، حققت قفزة هائلة في جهود التمكين للاعتدال، كجزء من سياسة مكافحة التطرف، عبر كثير من المؤسسات والمراكز البحثية الجديدة، وكذلك تدشين كثير من السياسات والمؤسسات التنموية الضخمة وفق «رؤية 2030»، والحرب على الفساد، ورفض التشدد وجموده العائق لحركة التقدم والوطن. ومن شأن مكافحة التطرف والإرهاب، دفع الوطن نحو مرحلة جديدة، تتكامل فيه مع ما سبق من جهود كبيرة كذلك، لا تزال مستمرة مثمرة، مثل لجان المناصحة وحملة السكينة ونقد الخطاب المتطرف وتفكيك أصوله، شرعياً وفكرياً.
ويذكر أن السعودية تشكل المفردة الأكثر تكراراً في كل خطابات أسامة بن لادن، وتكشف وثائقه التي كشف عنها أخيراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي أن أمنيته وهاجسه الأكبر كان وصول زلزال الانتفاضات والتظاهرات سنة 2011 الذي نشط عربياً إليها، كما تمثل السعودية العدو الأول في أدبيات جماعات الإرهاب عموماً، من «القاعدة» حتى «داعش»، ونذكر أن أول عمليات «القاعدة» كانت موجهة للمملكة في تسعينات القرن الماضي، كما أصر زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن على تأسيس أول فرع للقاعدة خارج أفغانستان على أراضيها عام 2003، ودفعه دون استعداد عناصره - كما يعترف بعضهم - لتنفيذ أول عملياته بها في مايو (أيار) سنة 2003، حتى قتل مؤسسه حينها (يوسف العييري).
وقد شهدت السعودية تحديداً عشرات العمليات والمحاولات الإرهابية التي استهدفت أراضيها ومواطنيها واستقرارها، فما بين مارس (آذار) عام 2003 و2011، بلغت عمليات الإرهاب ضد المملكة 98 عملية إرهابية تقريباً، راح ضحيتها أكثر من 90 شخصاً من المدنيين، وأصيب أكثر من 608 آخرين، وقتل فيها نحو 65 شخصاً من رجال الأمن، وأصيب أكثر من 360 منهم. وما بين 2012 و2017، شهدت المملكة ما يقرب من عملية ومحاولة إرهابية لخلايا «داعش»، استهدفت مقدساتها بالخصوص، وراح ضحيتها عشرات القتلى والمصابين.

حرب الأفكار

لا تتمدد جماعات ومجموعات التطرف إلا في الفراغات والفجوات التي قد يتركها الآخرون. فإذا غاب الاعتدال والتسامح حضر التطرف والغلو، وإذا غاب التسامح حضر التعصب والتشدد، وإذا تراجعت الدولة والقدرة الأمنية وجدت بؤر توحشه أو ملاذاته الآمنة.
إن التمكين للاعتدال والإسلام المعتدل هو السبيل الأول، كما أنه الدفع والصد والهجوم على أفكار التطرف والإرهاب وجماعاته. والفروق بين التشدد والتطرف والتطرف العنيف هي فروق درجات ومحطات طريق تلتقي أحياناً، وليست طرقاً مختلفة.
وكما أن للدولة سياساتها وتصوراتها الشاملة، تطرح هذه الجماعات الشمولية نفسها بديلاً، لها تصوراتها وسياساتها كذلك، توظيفاً لكل ما هو متاح من شوارد التعصب والكراهية، أو أسانيد التشدد والعنف، بغض النظر عن سياقاتها وتاريخيتها، أو عن ما يضادها ويدحضها من أسانيد أخرى، أو مبررات وروايات وحكايات مؤامرة الآخرين، التي تصل لحد السحرية والهذيان أحياناً، تبريراً لاستهدافه واستعداء الأمة عليه، عدواً قريباً كان أو بعيداً.
ويعيش التطرف غيبة زمانية وتاريخية، ولكنه رغم ذلك يدعي شمولية طرحه، وقدرته على حل جميع المشكلات، مالكاً دعوى الاكتفاء النظري، والاحتباس عن كل قيمة إنسانية تصير عنده مؤدلجة، فالحق والعدل والمساواة والانفتاح والحوار لا تحضر عنده إلا لصالحه، مسيسة بسياسته محبوسة في سجنه.
كذلك، ورغم ضجيج المتطرفين الهائل الزاعق، فإنه ليس إلا هامشاً معزولاً عن الاعتدال السائد وغالبيته، ولكن خطورة التطرف أنه يحاول قسراً وعنفاً تطويع الأغلبية له، وسرقة المجتمع والسلطة لصالحه، عبر شعاراته العاطفية الجاذبة، وعبر مقولاته الآيديولوجية المؤولة والمؤثرة، لكنه تاريخاً وواقعاً يبقى هامشاً لا يلبس أن ينهزم بعد ما يبدو منه من انتصار.
لكن يظل الجانب الآيديولوجي والمرجعي، وكذلك الشعاراتي، في التطرف بوجوهه المختلفة، هو الأكثر خطورة من سواه، وتظل مواجهته أولوية ضرورية في جهود مكافحة التطرف، فالإرهابي لا يعرف مرجعية غير مرجعيته، ولا مناهج غير ما أحله له شيوخه، ويبقى كل جهد للتمكين للتعايش والاعتدال يصب كذلك في مواجهته ومكافحته.
من هنا، اتسعت سياسات التمكين للاعتدال وتعزيز الوسطية لمجالات كثيرة في العقد الأخير، من التشريعات وتجريم التكفير والتخوين، إلى تصنيف الجماعات الإرهابية، والانتباه لخطر توظيف الإرهابيين للإنترنت ومنصاته، والاشتباك العملي معه عبر ضرب معاقله، وتجفيف منابعه وروافده، وكشف المتورطين فيه دعماً أو تحريضاً، وحجب منصاته الترويجية، وحبسه في جيتوهات عزلته، والحرب العسكرية والأمنية لعناصره ومجموعاته، والتركيز على السياقات الاجتماعية والحضارية، كالتنمية وحل مشكلات البطالة، والسياقات الإبداعية ومحاربة الإرهاب بالفن، كما أعلنت حكومة الإمارات في 11 نوفمبر الحالي 2017، من أنه وسيلة من وسائل مكافحة التطرف بالفن، وإنشاء عدد كبير من مراكز البحث وبيوت الخبرة واللجان والحملات والبرامج المتخصصة في مكافحة الإرهاب من زوايا مختلفة، ودعوة مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في 9 نوفمبر الحالي 2017 إلى ترويج صور ضحايا الإرهاب وقصصهم المأساوية التي تم توثيق بعضها، كوسيلة فاعلة في مكافحة التطرف. ولا شك أن الإلحاح على التنمية والتمكين للمؤسسات، والفصل بين السلطات، والحرب على الفساد، والجاذبية الأمنية التي تعتمد على تطوير وأخلاقية الأجهزة ونزاهتها، والمشاركة المجتمعية في خدمتها عبر فكرة الأمن الاجتماعي والشبكات الاجتماعية الآمنة، كلها إجراءات مهمة في التمكين للاعتدال.
ولكن يظل الجانب الفكري والآيديولوجي هو الأكثر أهمية وخطورة، فالمطويات والأدبيات الإرهابية تتلبس قناع الدين الصحيح، وتقنع المتدينين غير المؤهلين، وأغلبهم حسبما أثبتت كثير من الدراسات على غير معرفة رصينة بالقواعد الأساسية للإسلام، وتم استغلال عواطفهم من قبل المتطرفين دائماً. كما أن الجانب الآيديولوجي، فكراً وشعاراً، يمثل حوامل ومضامين وسائط التجنيد والترويج للتطرف، لذا كان مهماً الاشتباك النقدي الحي مع المتعاطفين مع التطرف، وكذلك تحصين فئات معينة مبكراً من أخطاره، بدءاً من الطلبة والأطفال في المدارس حتى المتحولين الجدد للإسلام، خصوصاً أن هؤلاء الأخيرين مثلوا 25 في المائة من المقاتلين الأجانب في «داعش»، كما أنه من المهم فض الاشتباك بين المفاهيم عند جماعات التطرف، الذي يخلطها ويصورها على غير حقيقتها، فيتم الخلط بين الاجتهادي التاريخي والعقدي وبين الفتوى والحكم، وبين الديني والدعوى والسياسي، وبين القانون والطاغوت، وغير هذا من مسائل ومشكلات.
- شعارات الكراهية وصراعات الذات
واستمرت جماعات التطرف والتطرف العنيف، سنية وشيعية على السواء، تستثمر في ترسانة من الشعارات الحاسمة في مواجهة آخريها، فكل المختلفين «خونة»، كما كتب أبو بكر ناجي يوماً، وكل الديار - بما فيها الحرمان الشريفان - «ديار كفر»، كما كتب أبو ميسرة الغريب، وكل الأنظمة «طاغوت» وعمالة، كما يردد الجهاديون، سنة وشيعة على السواء، كما أن الديمقراطية كفر ودين لا يصح الاعتقاد به، كما يكتبون، أو مقيدة بإرادة الولي الفقيه، كما هو الشأن في النظام الإيراني. وتبدو المقاومة والممانعة في مقابل الموالاة والعمالة الناتجة من الآخرين، رغم أنهم لا يبالون متى اقتضت المصلحة التعاون مع الأعداء والتحالف معهم، بغية تحقيق أهدافهم الداخلية، وضد أشقائهم ومن يتحدثون باسم مقاومتهم، كما هو الشأن مع «حزب الله» اللبناني، أو شهدناه في الاتفاق النووي الإيراني مع إدارة أوباما، أو في التقارب مع «القاعدة» التي أثبتتها وثائق بن لادن مجدداً، بعد تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
من هنا، نرى أن سياسات الهوية المعتدلة، غير المنتفخة وغير العدائية، وتمكين الوعي بفكرة الوطن والمواطنة، تمثل مدخلاً مهماً من مداخل الاعتدال في مكافحة التطرف، حيث يستخدم الأخير دائماً أزمات الهوية لدى المهمشين ولدى الأقليات والجاليات المسلمة في الغرب وفي بعض الدول لتوظيفها في حراكه العنيف ضد أعدائها.
كما أن التعاطي مع التطرف كذهنية واحدة تدرك تنوعاتها، حيث تحضر بين ممثلي التطرف وجماعاته تشابهات عابرة للطوائف والأديان، هو الأمر المهم الذي يكشف عمق التطرف الكامن ويعريه، فالتشابهات بين التطرف الشيعي والسني في المجال الإسلامي كبيرة ومتماهية، رغم كل ما يعلنه كلاهما من عداء متبادل للآخر، ولكن تجمعهم الأهداف، كما تجمعهم الممارسة الخطابية والشعارات، ولو اتسعنا لوجدناه في كثير من النماذج الشبيهة في الأديان الأخرى وفي التاريخ، التي تعتمد على احتكار الحقيقة وكراهية الآخرين، ورواية المؤامرة المستمرة ضدهم ومنهم. ولكن تظل الإشكالية الأكبر في التمكين للاعتدال في الحاضر الثقافي والاجتماعي الإسلامي هي القدرة على تحرير الإسلام من فكرة الصراع والإمامة التي كانت الفارق بين فرقه في القديم، وما زالت تمثل رافد كل جماعات الحاكمية وولاية الفقيه المعاصرة، رغم أنها مسألة تاريخية لم تكن إلا بعد انقطاع الوحي، وهو الجهد الشجاع الجسور الذي لامسه بعض المفكرين والفقهاء في التراث، ولكن تستحي من ملامسته بعض المؤسسات الدينية في عصرنا للأسف.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.