اليانسون عشبة لا مفر منها

تاريخ حافل بالأحلام الجميلة

اليانسون عشبة لا مفر منها
TT

اليانسون عشبة لا مفر منها

اليانسون عشبة لا مفر منها

لطالما استخدم الناس اليانسون مغلياً مع الشاي ليلاً، ولطالما وضعوه مع الخبز والكعك لأنه يساعد على تهدئة الأعصاب والنوم، ويساعد على الهضم. كما دخل اليانسون في الكثير من الوصفات المطبخية والطبية منذ قديم الزمان. وجاء في الكثير من خلطات البهارات المعروفة، وخصوصاً خلطة الزعتر الحلبي الشهيرة والتي تضم القضامة والزعتر والسماق والفستق الحلبي وجوز الهند والكمون وغيره.
وعادة ما تلجأ بعض المطابخ الآسيوية وخصوصا المطبخين الصيني والهندي إلى استخدام اليانسون النجمي أو الليسوم كبديل عن اليانسون العادي للتشابه الكبير في الطعم. ويدخل اليانسون النجمي في الآلاف من وصفات الطعام في هذين المطبخين، وبالتحديد في خلطات بهارات الغارام ماسالا.
اليانسون واحد من أقدم أنواع البذور والأدوية والبهارات في العالم وحوض البحر الأبيض المتوسط، وهو من البهارات المحببة لدى الناس، ومن الفصيلة الخيمية كما ذكرنا، والتي يطلق عليها باللاتينية اسم Apiaceae - ابياكيا، والتي تضم أنواعا كثيرة لا تقل عن 3700 نوع من النباتات، على رأسها الكرفس والبقدونس والكمون والكزبرة والشبت والكراويا والفزع والجزر. وهو من النباتات أو الأعشاب الحلوة المذاق والعطرية الرائحة كالبقونس الأفرجي - cicely. وفي مجال التعريف بمعنى اليانسون يقول معجم المعاني الجامع: «إنسون، انيسون، نبات حولي من فصيلة الخيميات، زهره صغير أبيض، وثمره حب جاف طيب الرائحة، يحتوي على زيت عطري طيار......».
الاسم العلمي أو اللاتيني لليانسون هو بيمبينيلا آنسيوم - Pimpinella anisum، أما الاسم الإنجليزي انيس - Anise فهو يأتي من الاسم العربي يانسون - yaansoun وعلى الأرجح من اليونانية القديمة ἄνηθον. ومع ذلك، يعتقد بعض العلماء أن الكلمة التي ترجمة إلى «اليانسون» في الفصل الثالث والعشرين في العهد الجديد في إنجيل متى كانت في الواقع تشير إلى «الشبت» في اليونانية الأصلية. وقد أعطي اليانسون لقب سولامن إنتستينوروم - Solamen intestinorum الذي يعني معزي أو «مريح الأمعاء». وهو يعرف بالعربية أيضا بعدة أسماء مثل الانيسون والرازيانج والينكون والكمون الحلو والتقدة والحبة الحلوة في المغرب.
حسب الموسوعة الحرة، فإن موطن اليانسون الأصلي غير معروف، لكنه «يزرع على نطاق واسع في جنوب أوروبا ولبنان وتركيا وسوريا وإيران والصين والهند واليابان وجنوب وشرق الولايات المتحدة الأميركية». لكن بعض المصادر الأخرى، وهي أكثر صحة على الأرجح، تؤكد أن مواطن اليانسون هي مصر القديمة واليونان وتركيا وعلى الأرجح حوض المتوسط بشكل عام. ولا بد من الذكر هنا أنه مضى على استخدام اليانسون أكثر من 2000 عام، رغم أنه لم يحصل أي تطور جذري أو ذات أهمية على أصنافه.
الفراعنة
وقد عثر علماء الآثار على بقايا اليانسون في المقابر الفرعونية وخصوصا في مدينة طيبة التاريخية المعروفة، وجاء اسمه وذكره في المخطوطات الفرعونية القديمة أو أوراق البردي (برديات ايبرز وهيرست) ضمن عدة وصفات علاجية، فاستعملوه شرابا مغليا للمعاونة على إدرار البول واضطرابات المعدة وأوجاع اللثة والأسنان. وبشكل عام فإن اليانسون «احتل مكانا علاجيا هاما عند الفراعنة وما زال يزرع بكثرة حتى اليوم في محافظة الصعيد».
الزمن التوراتي
كان اليانسون في الزمن التوراتي وبعد ظهور المسيحية في فلسطين، ذات قيمة عالية جدا، حيث كان يستخدم في العادة في الأضحية ودفع الضرائب ومنها العشر التي تشبه ضريبة الجمارك. ذكر في كل من إنجيل لوقا ومارك ومتى.

الرومان والإغريق
كالكثير من أنواع البهارات والأعشاب، استخدم الرومان اليانسون وزرعوه على نطاق واسع لعطره ونكهته الطيبة وفوائده واستخداماته الطبية الجمة. وقد بجل أو وقر ونصح عالم الرياضيات والفيلسوف اليوناني فيثاغورس من عمليات استخدام جذور اليانسون وأوراقه وبذوره وحث على استهلاكها سواء نية أم مطبوخة. وحسب موقع «تاريخ الطعام» فإن فيثاغورس كان يعتقد أن امتلاك اليانسون يمكن أن يمنع نوبات الصرع، ويقال إنه كان يوصي بوضع اليانسون قرب السرير ليلا للتمتع بأحلام «جميلة بفضل عطره العذب».
ويضيف الموقع أن «أبو الطب أبقراط» اكتشف عدة استخدامات مهمة لليانسون منها علاج السعال، وأوصى بتناوله لتخليص الجهاز التنفسي من المواد المخاطية. وجاء ذكره لدى الكثير من الكتاب والمؤرخين والأطباء الرومان واليونانيين، وعلى رأسهم الكاتب بالادوس والعالم اليوناني ثاوفرسطس الذي كان أول من حاول تصنيف النباتات وأشهر المؤرخين الرومان في العصور القديمة بليني الأكبر والطبيب اليوناني صاحب كتاب الحشائش ديسقوريديس فيدانيوس.
وذكر ديسقوريدس فائدة اليانسون لعلاج السعال في كتبه، بالإضافة إلى فائدته في علاج التهابات الشعب الهوائية والربو.
وذكر المؤلف الروماني ماركوس أبيشيوس في القرن الأول للميلاد، اليانسون في مجموعة من وصفات الطبخ التي حملت اسمه (أول الكتب الذي عرف مصطلح المطبخ في التاريخ) وبالتحديد وصفة لذيذة للحم مع اليانسون. وربما كان أبيشيوس من بين أولئك الذين قالوا إن اليانسون «عشبة لا مفر منها».
وبالإضافة إلى استخدامه للمساعدة على الهضم، كان الرومان يعطونه للمرأة للتخفيف الفوري من آلام الولادة، وتعطى بذوره المطبوخة مع الحليب والشعير لاستعادة الأم قواها الجسدية بعد الولادة أيضا. أي لتحمل الألم والتعافي بعد ذلك.
وتأتي عادة استخدام الكعك مع اليانسون الحالية من العادات الرومانية القديمة أثناء الأعراس في روما القديمة، إذ كانت تنتهي هذه الأعراس بتقديم هذا النوع من الكعك للزوار. وكما سبق وذكرنا سابقا كان بإمكان سكان روما ومواطني الإمبراطورية الرومانية دفع ضرائبهم ببذور اليانسون التي كانت تستخدمها السلطات الحاكمة كعملة دولية آنذاك.
أما ملك الفرنجة شارلمان أو كارل الكبير الذي أطلق عليه العرب اسم قارلة، فقد أمر في القرن التاسع بزرع اليانسون في المزارع الإمبراطورية. كما أثنى الكاهن والمؤلف ألبيرتوس ماغنوس الذي كان الأكثر قراءة على نطاق واسع في القرنين الثاني والثالث عشر على اليانسون ومنافعه واستخداماته.
ولا عجب أن عرفت أوروبا وخصوصا بريطانيا اليانسون بكثرة في القرون الوسطى، ويقال إن الملك الإنجليزي «إدوارد الأول فرض عليه ضريبة بغية استخدام العائدات في إصلاح جسر لندن» الشهير.
ونصح عالم الأعشاب البريطاني المعروف قديما جون جيرارد، مؤلف كتاب «تاريخ النباتات» عام 1597، الذي أخذ الكثير من معلوماته من أعمال الدكتور بريست السابقة وخصوصا «بيمبتادس - Pemptades) «1583)، بإعطاء الأطفال الصغار اليانسون وذكر عددا من استخداماته العلاجية.
ولأنهم كانوا يؤمنون بقوة في القيمة الطبية لليانسون، طيب الألمان خبزهم خلال القرن التاسع عشر باليانسون.
أما العرب، فقد عرفوا واستعملوا اليانسون منذ القدم وخصوصا للأغراض الطبية وبالتحديد في «المعاونة على التخلص من الماء الزائد عن حاجة الجسم في البول، وبالتالي انخفاض درجة الحرارة وتنشيط عمل الكلى».
وجاء ذكر اليانسون عند العلامة ابن سينا «كعلاج ناجع للأرق، وتهدئة النفس عند الغضب إذا ما شُرِب دافئا ممزوجا باللبن والعسل».
ويقول في كتاب القانون: «إذا سحق اليانسون وخلط بدهن الورد وقطّر في الأذن أبرأ ما يعرض في باطنها من صدع عن صدمه أو ضربه، ولأوجاعهما أيضا كما ينفع اليانسون شرابا ساخنا مع الحليب لعلاج الأرق وهدوء الأعصاب».
أما داود الأنطاكي فيؤكد ما جاء على ذكره ابن سينا فيقول في «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب والإعجاب»، إن «اليانسون يطرد الرياح، ويزيل الصداع، وآلام الصدر، وضيق التنفس والسعال المزمن، ويدر البول ويزيد العمم، وإذا طبخ بدهن الورد قطورا ودخانه يسقط الأجنة والمشيمة، ومضغه يذهب الخفقان، والاستياك به يطيب الفم ويجلو الأسنان ويقوي اللثة».
ولأنه غني بالنحاس وبالتالي الإنزيمات الحيوية بما فيها السيتوكروم C - أوكسيديز، فإنه يساعد في إنتاج خلايا الدم الحمراء.
وفي دراسة نشرت في عام 2010، وجد الباحثون في تايوان أن «4 مركبات مضادة للميكروبات المستمدة من اليانسون كانت فعالة جدا ضد ما يقرب من 70 سلالة من البكتيريا المقاومة للأدوية». لكن من مضار اليانسون المعروفة أنه يقلل من القدرة الجنسية عند الرجل.
ومن الاستخدامات الأخرى المعروفة لليانسون، يقال إن زيت اليانسون يزيل القمل، ويخلص من بعض أنواع العضات والحكة التي تسببها بعض الحشرات. وكان يخلط مع الشحم أو زيت الحوت ويستخدم كمرهم لعلاج تهيج الجلد كما يؤكد موقع «أورهيرب غاردين».
وحسب الموقع، يعتبر زيت اليانسون مع الجبن واحداً من أهم المواد التي تستخدم كطعم للفئران.


مقالات ذات صلة

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

مذاقات البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

«رشّة ملح وفلفل»، معادلة مصرية تعود إلى الجدات، تختصر ببساطة علاقة المطبخ المصري بالتوابل، والذي لم يكن يكترث كثيراً بتعدد النكهات.

إيمان مبروك (القاهرة)
مذاقات مبنى «آر إتش» من تصميم المهندس المعماري البريطاني السير جون سوان (الشرق الأوسط)

«آر إتش» عنوان يمزج بين الأكل والأثاث في حضن الريف الإنجليزي

سحر الريف الإنجليزي لا يقاوم، وذلك بشهادة كل من زار القرى الجميلة في إنجلترا. قد لا تكون بريطانيا شهيرة بمطبخها ولكنها غنية بالمطاعم العالمية فيها

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات طبق الكشري المصري (شاترستوك)

مبارزة «سوشيالية» على لقب أفضل طبق كشري في مصر

يبدو أن انتشار وشهرة محلات الكشري المصرية، وافتتاح فروع لها في دول عربية، زادا حدة التنافس بينها على لقب «أفضل طبق كشري».

محمد الكفراوي (القاهرة )
مذاقات مطعم "مافرو" المطل على البحر والبقايا البركانية (الشرق الاوسط)

«مافرو»... رسالة حب إلى جمال المناظر الطبيعية البركانية في سانتوريني

توجد في جزيرة سانتوريني اليونانية عناوين لا تُحصى ولا تُعدّ من المطاعم اليونانية، ولكن هناك مطعم لا يشبه غيره

جوسلين إيليا (سانتوريني- اليونان)
مذاقات حليب جوز الهند بلآلئ التابيوكا من شيف ميدو برسوم (الشرق الأوسط)

نصائح الطهاة لاستخدام مشتقات جوز الهند في الطهي

حين تقرّر استخدام جوز الهند في الطهي، فإنك ستجده في أشكال مختلفة؛ إما طازجاً، مجفّفاً، أو حليباً، أو كريمة، وثمرة كاملة أو مبشورة.

نادية عبد الحليم (القاهرة )

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
TT

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)

تُكثِر المهندسة المعمارية، أربي منكاساريان، سرد حكايات الماضي لسبب قد لا يفهمه مَن يظنّ أنه يقصد مطعمها «Badguèr» في منطقة برج حمّود، مدينة الأرمن في لبنان، لمجرّد تناوُل الطعام. الآتي، سيسمع. لا بدّ أن يلمح في عينَي الأرمنيات المنكبّات على إعداد الأطباق، بريقاً على شكل مرايا تعكس الصور. جميعهنّ لا يعددن الأكل لملء البطون، بل لإحياء الإرث والتباهي به. الأكل تذكيرٌ بأنّ النجاة تشكّل تمريناً على الحبّ، وإن عذَّبت أحمال الذاكرة وأثقلت المسار.

أبعد من مجرّد تناوُل طعام (صور أربي منكاساريان)

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة. مبناه من طبقتين: الأرضية تفترشها الطاولات والكراسي، وفي أرجائها يُلمح انهماك النساء الأرمنيات من أجل تحضير القوائم اللذيذة. وفي الطبقة الأولى، مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين لعرض ما يُنجزون. تقول أربي منكاساريان لـ«الشرق الأوسط» إنّ المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ. فما تبتكره الأنامل من أحذية، وحقائب، ومجوهرات، وسائر الحِرف التي يشتهر بها الأرمن ويُجيدونها، مردُّه شغف التميُّز والإبقاء على الإحساس بجدوى الحياة. تلك الحياة المسلوبة من أسلافهم، فقرّروا مَنْحها بعظمة الحبّ على هزيمة الموت.

من اليمين... أربي منكاساريان وضيوف المطعم (حسابها الشخصي)

كبُرت أربي منكاساريان وهي تسمع الحكايات وتمتلئ بها. وبين القصة والأخرى، تحدُث استراحة مع الرقص والموسيقى. فالمكان حيث نشأت وأقامت ألِفَ النغمات وأحبَّها وجعلها بعض عاداته. «تهجَّر الأرمن، وتهجَّر معهم تاريخهم وثقافتهم. منذ الطفولة وأنا أتأمّل هذه المعادلة. سمعتُ ورأيتُ، ونشأتُ على وَقْع السرد. حفظتُ الحكايات وسجَّلتها ذاكرتي. رسّختُها لرفضي النسيان».

وُلد المطعم عام 2010 من دون تخطيط مسبق، ليصبح جامع الناس على الأكل الأرمني. اشترت منكاساريان عقاراً صدَفَ أنه عُرض للبيع، أملاً في إيجاد مساحة لهو لوالدها التسعيني المولع بلعب الطاولة واللَّمة مع الأصدقاء. ثم وجد المكان نفسه يتحوّل إلى مساحة حكواتية. كل طبق يُخبر قصة. وكل يد تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه والتعريف به. تقول المؤسِّسة إنّ الوافدين إليها بغالبيتهم أرمن، لكنّ ذلك لا يمنع الآخرين من تذوُّق ما هو أبعد من طعم. إنها مشاركة التجربة والنبش في الذاكرة. «حتى غير الأرمن تلفحهم رائحة التراث، ويكرّرون الزيارة. يجدون في المكان حكاية أجيال تجترح الإرادة من الاضطهاد والإصرار من الإبادة. ما تُقدّمه مُعدَّات الطعام ليس شكله وطعمه فحسب، بل الأهم روح أرمينيا».

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة (صور أربي منكاساريان)

تروي تاريخ أسلافها، وتُبحر في التفاصيل. عن الأم المثقفة والجدّات مُتكبّدات المرارة. وعن الأحياء والناجين رغم قسوة ما حصل. الذاكرة مُحمَّلة بما قد يزن جبلاً. بمَن أُرغموا على ترك الأحبّة في منتصف الطريق نحو النجاة، ووجدوا أنّ الالتفات إلى الخلف مُكلف، وقد يدفعون ثمنه حيواتهم، فأكملوا السير. تتحدّث وتتحدّث وتتحدّث. تبدو كمَن يُقلّب صفحات كتاب. وكمَن يسرح أمام فيلم يُخبر الحكاية من البداية.

الأطباق بمثابة حكواتي ينتظر مَن يجتمع حوله ليحدُث البوح. «المائدة أرمنية، وعلى الإرث أن يبقى حياً». خلاصة حكايات أربي منكاساريان تصبح على هذا النحو: «خسرنا الأرواح والفرص والأرض. بعض أفراد العائلة لم يتعرّفوا إلى بعضهم الآخر. فرّقتهم السنوات. طعم المرارة الإنسانية جرّاء الحروب والانفصال والموت، يعلَقُ في الحناجر. حين تتعاظم الخسائر ينمو الحبّ. مَن رحلوا علّمونا الحبّ الكبير».

الطعام لإحياء الإرث والتباهي به (صور أربي منكاساريان)

هذه فلسفة «Badguèr» (يعني باللغة الأرمنية «صورة»)، وروحه المتداخلة بروائح البهار والوصفة الخاصة. «كما أحبّونا ورحلوا، نريد للحبّ أن يبقى. جعلونا نحبّ الأرض والموسيقى والفن والثقافة. لذا انقسم المكان إلى مساحة لحفظ الإرث الغذائي، وأخرى لحفظ الإرث الثقافي والحِرفي. جميع مَن أعمل معهم لديهم حكاية. أمي وعائلتها، وأبي وعائلته، وأنا».

مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين (صور أربي منكاساريان)

راقبت الأرمن وهم يحوّلون العادي إلى ابتكار. والدها رسام، عمل في سكة الحديد قبل التقاعُد. ووالدتها مولعة بالفنون. «من المهارات التي نشأتُ عليها، أردتُ جزءاً من المكان أن يتحوّل إلى فضاء للإبداع». مع الأكل، تُقام حفلات موسيقية وأنشطة ثقافية واجتماعية: «بالموسيقى نُحيي الحبّ العظيم. وبكل حقيبة أو قطعة مجوهرات أو حذاء يُصنَع. حفظُ الإرث الأرمني الغذائي والحِرفي هو ما يُبقي المطعم حياً طوال هذه السنوات».

المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ (صور أربي منكاساريان)

تنظر في عيون الآتين من أجل ذلك البريق الذي أمضت العمر تبحث عنه وتتوق إلى إيجاده وسط كل ما فُقِد: «أسمّيها الحرارة، وأراقب الوجوه من أجل أن أحظى بها. خليط ثقافتي الأرمنية وعلاقتي الفريدة بلبنان يمنحان الحبّ في داخلي قيمته. أحتكُّ بالإنسان لأتبادل معه مكنوناتي. الأرواح التي خسرناها علّمتنا أن نستعيدها في كل طبق، ومقطوعة تُعزَف، وصوت يغنّي، ويد حِرفيّ أرمنيّ تحوّل المادة إلى مهارة».