رغم التوتر الأخير الظاهر في العلاقات الفرنسية ــ الإيرانية، فإن مصادر قصر الإليزيه مستمرة في القول إن زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى طهران التي قيل عنها سابقاً إنها قد تحصل بداية العام المقبل، ما زالت قائمة.
وإذا تمت هذه الزيارة غير المؤكدة حتى الآن، فإنها ستكون الأولى من نوعها منذ العام 1976، أي منذ ما قبل الثورة الخمينية، حيث قام الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان بزيارة لطهران للقاء شاه إيران، ولتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وسبق للرئيس الإيراني حسن روحاني أن زار باريس نهاية يناير (كانون الثاني) عام 2016، كما أن سابقه رئاسة الجمهورية محمد خاتمي سبقه إلى العاصمة الفرنسية مرتين: الأولى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) عام 1999، والأخرى بداية أبريل (نيسان) في العام 2005، لكن المشكلة القائمة بين باريس وطهران أن العاصمتين تتواجهان في أكثر من ملف؛ الأمر الذي يدفع إلى التصعيد الكلامي الذي برز بجلاء في الأسبوع الماضي. لكن الطرفين يسعيان في الوقت عينه إلى تلافي قطع حبل الحوار؛ الأمر الذي أكده الاتصال الهاتفي الذي جرى أول من أمس بين ماكرون وروحاني. واللافت فيه أن مصادر قصر الإليزيه أشارت إليه بعبارات عامة، بينما عمدت الرئاسة الإيرانية إلى إصدار بيان مسهب تناولت فيه الملفات كافة التي جاء عليها الاتصال.
ووفق مصادر فرنسية، فإن الاتصال الهاتفي يندرج في المساعي التي يقوم بها الرئيس ماكرون لتجنيب لبنان أزمة سياسية كبرى على خلفية استقالة الرئيس سعد الحريري وعودته إلى بيروت اليوم. وسبق للأوساط الرئاسية الفرنسية أن ذكرت أن ماكرون «مستمر في اتصالاته» من أجل توفير شبكة أمام للبنان وتحييده عن نزاعات المنطقة. وبحسب هذه الأوساط، فإن باريس تراهن على طهران للضغط على «حزب الله» ولجم انفلاته، وهو الذي جعل منه الحريري السبب الرئيسي لاستقالته.
من جهة أخرى، يتضح من البيان الإيراني أن طهران حريصة على خفض لهجة التخاطب مع السلطات الفرنسية بعد التعليقات الجارحة التي أدلى بها مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولاياتي رداً على ما جاء في المؤتمر الصحافي للرئيس ماكرون في غوتبرغ «السويد»، وعلى ما قاله قبل ذلك وزير الخارجية جان إيف لو دريان، في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره السعودي عادل الجبير في الرياض بمناسبة زيارته الأخيرة للعاصمة السعودية. ولا تستبعد المصادر الفرنسية أن يكون الاختلاف في اللهجة انعكاساً لخطين سياسيين متضاربين في طهران.
يسلط محتوى البيان الصادر عن الرئاسة الإيرانية الضوء على «مواطن القلق» الفرنسية من سياسات طهران التي دعا ماكرون القائمين بها لأن تكون «أقل عدائية» والتي رأى فيها وزير خارجيته «نزعة للهيمنة». والواضح أن روحاني سعى لـ«طمأنة» الجانب الفرنسي؛ إذ أكد للرئيس ماكرون أن إيران «لا تسعى للسيطرة على المنطقة» وأن «حضورها في العراق وسوريا جاء نزولاً عند دعوة حكومتي هذين البلدين لمحاربة الإرهاب». وكالعادة، كرر روحاني المعزوفة الإيرانية من أن غرض بلاده «العمل من أجل السلام والأمن وتلافي تفكك بلدان المنطقة». وبما أن فرنسا، كغيرها من البلدان الغربية، جعلت من محاربة الإرهاب أولى أولويات سياساتها الخارجية، فإن الرئيس الإيراني لم تفته الإشارة إلى أن ضرورة استكمال «محاربة كافة المجموعات الإرهابية بعد (اندحار) داعش». وسعى روحاني للعزف على وتر فرنسي حساس حينما أشار إلى استقلالية فرنسا إزاء القوى الكبرى والإقليمية دون تسميتها، الأمر الذي سبقه إليه ولايتي. وقال روحاني ما حرفيته: «إن فرنسا تستطيع، من خلال المحافظة على استقلاليتها وعلى موقعها في المنطقة، أن تلعب دوراً بناءً إذا التزمت الواقعية والحياد». وما يقوله روحاني، عملياً، أن باريس ليست لها مواقف مستقلة بالإشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية وإلى بلدان خليجية عربية على رأسها المملكة السعودية.
والواضح أن روحاني يومئ بذلك إلى مواقف فرنسا من الملفين النووي والباليستي الإيرانيين من جهة وإلى سياسات طهران الإقليمية من جهة أخرى.
في تناوله موقف باريس من هذه الملفات، يقع الرئيس الإيراني في تناقض: فهو في جانب، يشيد بموقف فرنسا والبلدان الأوروبية التي أكدت تمسكها بالاتفاق النووي المبرم مع إيران في صيف العام 2015 الذي «تسعى واشنطن لإعادة النظر فيه». وفي جانب آخر، ينبه روحاني، بحسب بيان الرئاسة الإيرانية، من أن «أي إضافة أو اجتزاء من الاتفاق سيؤديان إلى انهياره». والحال، أن باريس، على لسان كبار مسؤوليها تدعو ليس إلى إعادة النظر بالاتفاق النووي، بل إلى «استكماله»؛ ما يشكل موقفاً وسطياً بين واشنطن التي تريد التخلص منه وطهران المتمسكة بحرفيته.
بيد أن نقطة الخلاف الأساسية بين فرنسا وإيران تكمن في البرنامج الصاروخي الإيراني، حيث تبدو باريس قريبة جداً من المواقف الأميركية، بل إنها ذهبت إلى حد الإشارة إلى إمكانية استصدار عقوبات جديدة على طهران بشأن الباليستي، في حين تؤكد الأخيرة أنها حرة التصرف، حيث لا علاقة لبرنامجها الصاروخي بالبرنامج النووي طالما أنها لا تسعى لامتلاك القنبلة النووية.
وما يصح على الباليستي، يصح كذلك على سياسات إيران الإقليمية «العدائية» وفق ماكرون والساعية «للهيمنة» وفق لودريان.
أما بالنسبة للبنان ولدور «حزب الله»، فإن روحاني يقف بطبيعة الحال موقف المدافع عنه باعتبار بلاده الداعم الرئيسي له بالسلاح والمال. وفي هذا السياق، قال روحاني: «إن (حزب الله) جزء من الشعب اللبناني ويتمتع بشعبية، كما أن سلاحه دفاعي ضد هجمات قد تستهدف لبنان»، في إشارة إلى إسرائيل.
لكن الرئيس الإيراني لم يأت على الدور الإقليمي الذي يلعبه الحزب المذكور، ولا للتوترات الداخلية الناتجة من احتفاظه وحيداً بالسلاح داخل لبنان.
في الأيام الأخيرة، بدا أن باريس اتخذت منحى متشدداً إزاء طهران، لكن مصادرها ما انفكت عن التأكيد أنها راغبة في «التحدث إلى الجميع» والالتزام بحوار «متطلب وصريح». لكن باريس حائرة إلى حد ما بين مقاربتها السياسية والاستراتيجية من جهة وبين مصالحها الاقتصادية والتجارية من جهة أخرى.
كذلك، فإنها ضائعة بين صداقتها لواشنطن وحرصها على أن تكون قريبة منها وبين رغبتها في أن تبقى طليقة اليدين. ولذا؛ ستستمر باريس في التأرجح بين هذه المواقف حتى العثور على «نقطة التوازن» بين هذه المتناقضات.
باريس وطهران تتواصلان مجدداً سعياً لاستدراك التوتر بينهما
روحاني «يلطف» كلام ولايتي الجارح عن الرئيس ماكرون
باريس وطهران تتواصلان مجدداً سعياً لاستدراك التوتر بينهما
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة