المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات

زيارات ميدانية لأكثر من 150 موقعاً قصفتها غارات التحالف في العراق

المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات
TT

المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات

المدنيون المنسيون... ضحايا الغارات

يقول المسؤولون العسكريون الأميركيون إن الحرب الجوية ضد تنظيم داعش هي الأكثر دقة في التاريخ... ولكن في العراق، يشير أحد التحقيقات الميدانية إلى أن الغارات الجوية لقوات التحالف قد تسببت في مصرع عدد كبير من المدنيين أكثر مما ذكرته التقارير في السابق. ويتساءل الناجون من هذه الغارات عن سبب استهداف عائلاتهم. وأكثرهم لم يحصل على إجابة لذلك. وهذه قصة أحدهم، ممن حاولوا الوصول إلى إجابة.
في وقت متأخر من مساء 20 سبتمبر (أيلول) لعام 2015، كان باسم رازو يجلس في غرفة مكتبه بمنزله الواقع على الجانب الشرقي من الموصل، إذ كان يتابع شاشة حاسوبه المضاءة أمامه. وكانت زوجته، ميادة، تغط في نوم عميق بالطابق العلوي، ولكن باسم يقضي عادة الساعات الطوال، يتابع عروض السيارات الفارهة على «يوتيوب»... السيارة «بي إم دبليو ألبينا بي7»، والسيارة «أودي كيو7»، وغيرهما. وكان يمضي كل ليلة على هذا المنوال. إذ كان للرجل شغف قديم بالسيارات الرياضية فائقة السرعة. ولكن مع احتلال تنظيم داعش الموصل، أغلقت أبواب جميع معارض السيارات في المدينة، وكانت سيارة العائلة القابعة في المرآب - طراز «بي إم دبليو» لعام 1991 - قلما استخدمت خلال العام الماضي بأكمله. فلم يكن هناك من مكان يذهبون إليه بالسيارة.
كانت عائلة السيد رازو تعيش في حي «وودز»، وهو من الأحياء شبه الريفية على ضفاف نهر دجلة، حيث تتناثر الفيلات الرخامية والجصية في خضم غابات من أشجار الأوكاليبتوس، والشينار، والصنوبر. وكانت المقاهي والمطاعم تنتشر على ضفاف النهر فيما سبق، ولكن منذ سقوط المدينة في قبضة المتطرفين العام الماضي، فضل باسم وزوجته ميادة الترفيه عن أنفسهم داخل جدران المنزل. وكانا يضعان الكراسي بجانب المسبح، ويشويان الكباب على الشواية في الهواء الطلق. وكانت ميادة تحب طهي البيتزا أو الأرز الصيني، في محاولة من الأسرة للمحافظة على أسلوب الحياة المعتاد لديهم من قبل. أما ولدهما، يحيى، فقد تمكن من الفرار إلى أربيل بعدما تخلى عن دراسته في جامعة الموصل، ولم يره أحد منذ ذلك الحين. إذ كان يمكن لمن غادروا المدينة حين استيلاء «داعش» عليها معاودة الدخول مرة أخرى إلى أرض «الخلافة» المزعومة، ولكن بمجرد العودة، لا يمكنهم المغادرة مجددا، وهو المأزق الذي أعاق حركة الكثير من الناس الذين تقطعت بهم السبل أينما وجدوا أنفسهم في هذه المدينة المنكوبة. وكانت أعياد الميلاد، ومراسم الزفاف، وحفلات التخرج تأتي وتذهب، وتجمدت الاحتفالات في قلوب الناس انتظارا لتلك اللحظة المستحيلة بعيدة المنال، وهي لحظة التحرير.
وإلى جوار منزل باسم هناك منزل يماثله تقريبا وهو لشقيقه مهند وزوجته عزة. ولقد كانا نائمين في تلك الساعة على الأرجح، ولكن باسم ظن أن ابنهما الوحيد نجيب البالغ من العمر 18 عاما لا يزال مستيقظا حتى الساعة. وقبل بضعة أشهر، ألقي القبض على نجيب بواسطة الشرطة الدينية لدى «داعش» بتهمه ارتداء السروال الجينز والتيشيرت الذي يحمل بعض الكلمات باللغة الإنجليزية. وبالتالي كانت العقوبة عشر جلدات بالسوط، وكإجراء إضافي للمذلة والإهانة قامت الشرطة الدينية بحلق شعر رأسه تماما. ومنذ ذلك الحين كان نجيب يلزم المنزل طوال الوقت ولا يخرج أبدا، ويقضي أغلب أوقاته على «فيسبوك». ولقد كتب يقول قبل بضعة أيام على صفحته: «سوف ينتهي كل شيء في يوم من الأيام. وحتى ذلك اليوم، سوف أحتفظ بقوتي وصمودي».
وفي بعض الأحيان، وبعد ذهاب والديه إلى النوم، كان نجيب يحاول الحصول على المفتاح من الخزانة والذهاب خلسة إلى بيت عمه. وكانت لدى باسم المقدرة الكبيرة على أن يجعل ابن أخيه ينسى الواقع المظلم الذي يعيشون فيه. كان يؤمن دائما بنصف الكوب الممتلئ، من واقع إيمانه بأن حياة البشر - كل انتكاسة وكل نجاح، وكل كسرة للقلب وكل انتصار - ليست إلا قدرا مكتوبا منذ بلوغ الإنسان أربعين يوما في رحم أمه.
لم يكن باسم رجلا متدينا بالمعنى الحرفي للكلمة، بيد أن لمحة الإيمان الضئيلة تلك أيدت ما بدا له كحقيقة لا مناص منها، حتى في زمن الحرب بالعراق: كل شيء يحدث لسبب ما. كان ذلك من التأكيدات التي يعرضها بنفسه على الجميع، لقد فقد نجله يحيى عاما كاملا من دراسته الجامعية بلا جدوى، ولكنه في منفاه قد تعرف وتقدم لخطبة شريكة حياته. وقال مخاطبا زوجته ميادة: «ألا ترين؟ إنه القدر!»
كانت تلك المشاعر تعيش داخل باسم بقدر ما كان يتذكر. وهو المحاسب البالغ من عمره 56 عاما ويعمل لدى شركة «هواوي»، شركة الاتصالات الصينية متعددة الجنسيات، وكان قد درس الهندسة في ثمانينات القرن الماضي لدى جامعة ويسترن ميتشيغان بالولايات المتحدة. وكان يعيش بصحبة زوجته في شقة صغيرة من غرفة نوم وحيدة في بورتاغ بولاية ميتشيغان تلك الشقة التي استغلتها زوجته ميادة مقرا لعملها بصفتها ممثلة مبيعات لشركة «آيفون» لمستحضرات التجميل. ولقد بدأت بداية صغيرة، حيث كانت تحاول بيع مستحضرات التجميل وكريمات البشرة للجيران. وسرعان ما وسعت مبيعاتها إلى مقاطعات كالأمازو وكومستوك بالولاية نفسها. وفي غضون عام، تمكنت من ادخار ما يكفي من المال لابتياع كاميرا طراز «مينولتا» بسعر 700 دولار هدية لزوجها باسم. واعتاد باسم الاعتماد على مقدرتها في فرض النظام كل ما هو غريب ودنيوي في الغربة، وإتقان كل شيء تقريبا من الفروض المنزلية إلى سرعة البديهة في التحضير لنزهات أعضاء هيئة التدريس إلى جانب نوادي الروتاري. لقد كان القدر! وقد ظلا متزوجين الآن لمدة 33 عاما.
وبحلول منتصف الليل في منزله بالموصل، استمع باسم إلى صوت قادم من الطابق الثاني، فنظر، فإذا لمحة من الضوء تخرج من غرفة نوم ابنته «تُقى» ذات الـ21 عاما. فطلب منها أن تذهب إلى فراشها، إذ صار الوقت متأخرا. وكان من عادتها البقاء مستيقظة لوقت متأخر من الليل، وفي حين أن باسم يدرك أنه ليس بالمثال الجيد لابنته في ذلك، وأن الظروف الحالية لا توفر الأسباب الكافية للاستيقاظ المبكر، إلا أنه يعتقد في الأثر المهدئ للنوم المبكر والاستيقاظ المبكر كعادة من عادات الحياة. وانتظر عند أسفل الدرج، وطلب منها النوم مجددا، فانطفأ نور الغرفة وساد الظلام الدامس المكان.
وكانت الساعة قد قاربت الواحدة صباحا عندما أغلق حاسوبه الشخصي، واتجه للطابق العلوي لأجل أن ينام. واستقر بجسده إلى جوار زوجته، التي كانت تغط في نوم عميق. وفي وقت لاحق، انتفض مستيقظا. وكانت ملابس نومه غارقة في عرق غزير، وأحس على لسانه بطعم غريب للغاية - إنها الدماء! كان الهواء ثقيلا ولاذعا. وكان لا يزال في غرفة نومه، ولكن سقف الغرفة كان قد اختفى تقريبا. واستطاع أن يرى السماء ليلا، ويلحظ النجوم في أجواء الموصل. ووجد باسم ساقيه وقد بلغتا مسافة قريبة للغاية من وجهه بما تبقى من حطام سريره. فانتابه الذعر الشديد. وتحول إلى جانبه الأيسر، فرأى كومة من الحطام. صرخ مناديا على زوجته، فلم تأته إجابة وأحس بصمت مطبق يلف المكان. فصرخ مرة أخرى مناديا على ابنته. كانت جدران غرفة النوم قد تلاشت هي الأخرى، ولم يبق منها سوى الأعمدة الجرداء. وكان يستطيع أن يرى رؤوس الأشجار على مسافة غير بعيدة في ظلام المساء. وتمكن من الاستماع إلى صوت أنثوي يصيح من على مسافة قريبة. فصرخ مجيبا الصوت الذي أجابه صراخا بصراخ. كانت زوجة أخيه «عزة» تنادي عليه من مكان ما في الخارج: «أين أنت؟»، فأجابها قائلا: «لقد ماتت ميادة!».
قالت زوجة أخيه: «كلا، كلا، سوف أعثر عليها!». فأكد لها بصياحه الملتاع: «كلا يا عزة لقد ماتت. لقد رحلوا جميعا!».
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، نشرت قوات التحالف لمحاربة تنظيم داعش في العراق وسوريا بقيادة الولايات المتحدة مقطعا على صفحتها بموقع «يوتيوب»، يحمل عنوان: «غارة قوات التحالف تدمر منشأة تابعة لـ(داعش) بالقرب من الموصل»، بتاريخ 20 سبتمبر (أيلول) لعام 2015. ويعرض المقطع مشاهد ليلية طيفية باللونين الأبيض والأسود لمبنيين متقاربين من تصوير إحدى الطائرات المقاتلة كانت تحوم ببطء في الأفق. وليس هناك صوت في مقطع الفيديو. وفي غضون ثوان معدودة، اختفت المباني من على المقطع إثر انفجارات غلفتها سحابة من الدخان الكثيف. وكان الهدف، وفقا لمقطع الفيديو، هو منشأة لصناعة السيارات المفخخة في شبكة من «المنشآت المتعددة المنتشرة في جميع أنحاء الموصل والمستخدمة في صناعة العبوات الناسفة لصالح أنشطة (داعش) الإرهابية»، التي تشكل «تهديدا مباشرا لكل من المدنيين وقوات الأمن العراقية». وبعد ذلك، وعندما عثر باسم على ذلك المقطع، تمكن من مشاهدة اللحظات الأولى فقط. وكان يعرف على الفور أن المباني الظاهرة في المقطع هي لمنزله ومنزل أخيه.
وذلك المقطع هو واحد من مئات المقاطع التي نشرتها قوات التحالف منذ بدء الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش الإرهابي في أغسطس (آب) لعام 2014، ولقد نُشرت أيضا على مواقع وزارة الدفاع الأميركية، بغية إثبات الحملة العسكرية الجارية التي ليست كأي حملة أخرى - من حيث الدقة، والشفافية، والصرامة. وفي معرض جهودها لطرد «داعش» من العراق وسوريا، نفذت قوات التحالف أكثر من 27 ألفا و500 غارة جوية حتى اليوم، واستخدمت فيها معظم أنواع الطائرات في ترسانتها، من قاذفات «بي - 52» الكبيرة وحتى الطائرات المسيرة الحديثة. والقوة الجوية الساحقة قد مكنت القوات البرية المتقدمة من التغلب على المقاومة العنيفة على الأرض واستعادة أغلب المدن في جميع أنحاء المنطقة. يقول الميجور شين هوف، الناطق الرسمي باسم القيادة المركزية: «تعمل القوات الأميركية وقوات التحالف بكل جدية للالتزام بمعايير الدقة في العمليات، ونتيجة لذلك، فهي تنفذ واحدة من أكثر الحملات الجوية دقة في التاريخ العسكري». وقالت قوات التحالف إنها تمكنت منذ أغسطس (آب) لعام 2014 من قتل عشرات الآلاف من مقاتلي «داعش» ونحو 466 مدنيا في العراق، وذلك وفقا لما ورد في إجمالي الإحصاءات الشهرية الخاصة بهم.
كان باسم لا يزال في غرفة نومه، ولكن سقف الغرفة قد انهار بالكامل. وكان يستطيع رؤية السماء والنجوم في ليل الموصل.
ولكن، لم تكن عائلة باسم من بين أولئك الذين كانوا في الحسبان حتى استطعنا الدفع بقصته إلى وسائل الإعلام. إذ كانت ميادة، وتُقى، ومهند، ونجيب؛ أربعة من المدنيين العراقيين المنسيين الذين أدرجت قوات التحالف وفاتهم على حساب «داعش». وتشير التقديرات الصادرة عن مختلف المنظمات غير الحكومية المعنية بالشأن العراقي إلى أن إجمالي وفيات المدنيين العراقيين هو أكبر بكثير مما ذكرته تقارير قوات التحالف، غير أن قوات التحالف تعارض هذه الأرقام بقوة، وتقول إنها لا تستند إلى معلومات استخبارية محددة، ولكن إلى التقارير الإخبارية المدنية وأقوال شهود العيان التي جمعت من بعيد.
بيد أن تقاريرنا الخاصة، التي تجمعت على مدى 18 شهرا كاملة، تظهر أن الحملة الجوية لقوات التحالف لا تحظى بالقدر المزعوم من الدقة المعلنة من جانب قوات التحالف. فما بين أبريل (نيسان) 2016 ويونيو (حزيران) 2017، عملنا على زيارة المواقع التي قصفتها غارات قوات التحالف، التي بلغت 150 غارة جوية، في مختلف أنحاء شمال العراق، بعد فترة ليست بالطويلة من إخلاء تلك المناطق من «داعش» وعناصره. ووجدنا أن واحدة من كل خمس غارات لقوات التحالف من التي وقفنا عليها قد أسفرت عن وفيات في صفوف المدنيين، وهو المعدل الذي يزيد على 31 مرة مما تم الاعتراف به من جانب قوات التحالف. وبصرف النظر تماما عن الادعاءات الرسمية، ومن حيث وفيات المدنيين، فإنها قد تكون أقل الحروب شفافية في التاريخ الأميركي الحديث.
استيقظ باسم في أحد عنابر مستشفى الموصل العام، مثقلا بالكثير من الضمادات. وكان مشوشا للغاية، ولكنه تذكر محاولة إخلائه من بين أنقاض منزله، إذ كانت أيادي الجيران تحاول انتشاله هناك، وألقى به الحفار بهدوء على الأرض، وكانت سيارة الإسعاف ذات الأضواء الساطعة تنتظره في الجوار.
وفي المستشفى، كان باسم على دراية بأطقم الممرضين والعاملين، ولكنه لم ير أي وجه مألوف حتى الصباح. كان بجواره شقيق زوجته ميادة. وعندما سأله باسم عمن نجا من أهل بيته، قيل له: لا أحد. لقد أدى الانفجار إلى مقتل زوجته وابنته على الفور. وأسفرت الضربة الثانية عن مقتل مهند ونجيب في المنزل المجاور. وكانت عزة والدة نجيب على قيد الحياة، بسبب أن قوة الانفجار قد دفعت بها عبر نافذة الطابق الثاني. وانتقل باسم إلى منزل والديه في الجزء الجنوبي من المدينة. ولمدة يومين، كان يستقبل الزيارات من الأقارب وأصدقاء العائلة، ولكنه كان يتعرف على وجوههم بصعوبة بالغة. وفي اليوم الثالث، وجد نفسه قادرا على الوقوف، وبدأ في متابعة الصور المحفوظة على هاتفه. وإحدى آخر هذه الصور التقطت في الليلة السابقة على الغارة: كانت صورة لتُقى وهي تبتسم في المطبخ. وشرع في البكاء للمرة الأولى منذ خروجه من المستشفى. ثم تغلب على مشاعره وفتح صفحته على «فيسبوك». وكتب يقول: «في منتصف الليل، استهدفت طائرات التحالف منزلين للمدنيين الأبرياء. فهل هذه هي التكنولوجيا المتقدمة؟ إنه هجوم بربري وحشي كلفني حياة زوجتي، وابنتي، وشقيقي، وولده». وعلى نحو مفاجئ، بدا الأمر كما لو كانت المدينة بأسرها على معرفة بالأمر، وتدفقت الرسائل على حسابه في فيضان عجيب.
بالنسبة لباسم، كانت الأيام القليلة التالية على الهجوم قد مرت في ضباب شديد. أنزله سائق مأجور إلى إحدى سيارات الدفع الرباعي، حيث أزيلت المقاعد الخلفية لأجل وضع مرتبة مخصصة للاتكاء عليها. وسار به عبر ريف «داعش»، والقرى الرثة المغطاة بأكوام من القمامة والقاذورات. وفي فترة بعد الظهيرة، وصلا سويا إلى جبل سنجار، حيث تم إبعاد النساء الإيزيديات قبل عام كامل على أيدي «داعش» وبيعهم في سوق النخاسة والعبيد.
وانطلقا عبر أميال تلو الأميال من الصحراء الشاسعة. ولم يكن باسم قادرا على التمييز بين البلدات السورية الصغيرة التي مرا بها ولكنه كان يعلم عندما وصلا إلى مدينة الرقة، عاصمة خلافة «داعش» المزعومة، وانتقل إلى سيارة أخرى بواسطة مجموعة من المشاة. وسرعان ما انطلق سائق جديد بباسم في حقول القمح والقطن المظلمة عبر طرق ضيقة ووعرة. وفي بعض الأحيان، كانت الآلام التي تهاجمه فوق احتماله. وكانا يتوقفان لقضاء المساء، ولكنه لم يكن يعلم أين بالتحديد. وعند الفجر، كانا ينطلقان مرة أخرى عبر الطريق. وبعد فترة، التقط السائق علبة من السجائر من أسفل مقعده، وكانت ممنوعة في عاصمة الخلافة المزعومة. شعر باسم بالقلق، ولكن السائق طمأنه مبتسما وقال: «لا تقلق. لقد صرنا في منطقة الجيش السوري الحر».
وقبل مرور فترة طويلة، تباطأت حركة المرور، وكانا يتحركان عبر شوارع مزدحمة باللاجئين، والأطفال المشردين، والمتمردين السوريين. وعبر باسم الحدود على كرسي متحرك. وكان ينتظر على الجانب التركي من الحدود، ووجد ابنه يقف بجانب سيارة للإسعاف. وانحنى يحيى محتضنا والده وهو يبكي بكاء مريرا. إذ لم ير بعضهما البعض منذ ما يربو على عام كامل. قضى باسم الشهرين التاليين متنقلا بين أسرّة مستشفى العظام المتخصص في مدينة أضنه التركية. وفي الساعات الطويلة بين العمليات الجراحية، وعندما كانت مسكنات الآلام تمنحه بعضا من الهدوء، كان يحاول تفادي ذكريات كارثة حياته المفجعة.
ينتمي باسم إلى إحدى كبار عائلات الموصل العريقة، ومن بين العشرات المنحدرين من سلالة هذه العائلة - كما تقول الروايات - هناك أربعون من الأنبياء ممن استقرت بهم الأحوال على الضفاف الساخنة لنهر دجلة القديم، في الجهة المقابلة من مدينة نينوى، العاصمة الآشورية القديمة. وعلى الرغم من أن المدينة التي أسسوها قد ذاع صيتها واكتسبت سمعة المدن المحافظة، فكان باسم يتذكر بعض أوقات الذوق العالمي التي عايشها هناك برفقة عائلته.
في سبعينات القرن الماضي، ومع تعزيز صدام حسين قبضته على مقاليد السلطة، بدأت التعددية التي اتسمت بها الموصل في التلاشي، غير أن باسم لم يكن هناك بما فيه الكفاية ليعايش ذلك التلاشي والاختفاء. إذ غادر إلى المملكة المتحدة في عام 1979، ثم انطلق بعد ذلك صوب الولايات المتحدة. وكان الاستقرار في الحياة بولاية ميتشيغان من السهولة بمكان. إذ ابتاع باسم لنفسه سيارة «موستانغ»، وحصل على التأمين الصحي، وتعلم إقامة حفلات الشواء، وذهب إلى حفلات الكوكتيل، والتقى امرأة كان قد تقابل معها ذات مرة في إنجلترا. ولقد أثارت هذه التطورات قلق والديه، اللذين شرعا في مناصحته بالاستقرار والبحث عن زوجة، وأشارا عليه بابنة عمه ميادة. ولكنه قاوم الأمر في البداية، بيد أن جاذبية بدء حياة جديدة مع إنسان من الوطن كانت أكبر من مقاومته. وتزوج بميادة في عام 1982، في حفل بسيط بمنزل عمه في آن أربور بولاية ميتشيغان في حضور حفنة من الأشخاص والأصدقاء.
وبوصفه الابن الأكبر، شعر باسم بقلق متزايد ناحية والديه المسنين، ولذلك وفي عام 1988، اتخذ بصحبة زوجته القرار الصعب بالعودة إلى الوطن بصفة دائمة. وكانت الموصل التي عادا إليها قد نالتها تحولات مريعة. كانت الحرب العراقية الإيرانية في مراحلها الأخيرة، ولكنها بتكلفة باهظة بلغت نحو نصف مليون قتيل من الشعب العراقي. وكانت البدائل السياسية المتاحة في شباب باسم قد اختفت تماما؛ فلقد سُحقت الشيوعية تماما في البلاد، وفقدت القومية العربية بريقها تحت وطأة النزعة البعثية لديكتاتورية نظام صدام حسين.
لقد قمنا بزيارة ما يقرب من 150 موقعا لغارات قوات التحالف في مختلف أنحاء شمال العراق، إثر سعينا لتحديد القوات الجوية المسؤولة عنها، ومن الذي تسببوا في وفاته من المدنيين. وكانت الفكرة القائلة بمنح التعويضات للضحايا المدنيين من الحروب الأميركية حتى وقت قريب من الأفكار الراديكالية التي تحوم على أطراف العقيدة العسكرية الأميركية. وخلال الصراعات في العراق وأفغانستان، بدأ المخططون الحربيون في التركيز الجاد على تعويضات التعازي، وكانوا يعتبرونها من وسائل تحسين العلاقات مع السكان المحليين، ومنع مزيد من الهجمات الانتقامية. وسرعان ما شرعت القوات الأميركية في إنفاق آلاف الدولارات سنويا للسكان المدنيين الذين تكبدوا الخسائر جراء العمليات القتالية، وذلك لكل شيء من الأضرار التي لحقت بالممتلكات وحتى وفيات أفراد العائلات. وكانت التعويضات في أفغانستان، على سبيل المثال، تتراوح من 124 دولارا لأحد المتوفين من المدنيين وحتى 15 ألف دولار في حالة أخرى. وعندما انسحبت الولايات المتحدة من العراق في عام 2011. رغم كل شيء، توقفت جميع برامج تعويضات التعازي هناك، ولم تعد إلى العمل مرة أخرى مع بدء الولايات المتحدة حربها ضد «داعش» في عام 2014.
ومع خروج الموصل والرقة من سيطرة «داعش» في الوقت الراهن، فإن قوات التحالف «لن تقضي الكثير من الوقت تنظر في أمر» تعويضات التعازي، على نحو ما صرح العقيد جون توماس، الناطق الرسمي باسم القيادة الوسطى الأميركية، الذي أضاف: «إننا نعزز جهودنا لصالح سلامة المجتمع وعودة اللاجئين بدرجة ما إلى منازلهم». وفي حين أن مساعدة الضحايا من المدنيين لم تعد على رأس الأولويات العسكرية، فلا تزال بعض الجهات تستشعر القلق إزاء عمليات الانتقام.
* خدمة «نيويورك تايمز»



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.