مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

القاهرة تبحث عن سيناريوهات جديدة بعد «تعنت» أديس أبابا

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)

يبدو أن مصر أدركت أخيرا أن الوقت حان لإيقاف مسلسل مفاوضات، وُصفت بـ«غير المجدية» مع إثيوبيا، حول سد تبنيه الأخيرة على أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، وتقول القاهرة إنه سوف يؤثر سلباً على نصيبها من المياه. وبينما اعتبر مسؤولون وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» أن إعلان مصر فشل المفاوضات الفنية، جاء متأخرا، في ظل تحذيرات سابقة بلعب إثيوبيا على عامل الزمن، لحين الانتهاء من بناء السد وملئه، ليصبح أمرا واقعا، جاءت تصريحات الحكومة المصرية لتعكس الثقة في قدرتها على اتخاذ إجراءات ومسارات «سياسية» بديلة لحماية أمنها المائي، من بينها الضغط الدولي واللجوء إلى الأمم المتحدة وربما التحكيم، بحسب مصادر دبلوماسية.
يقول مسؤول مصري رفيع، على صلة مباشرة بالمفاوضات، «الخبراء المصريون المشاركون في المفاوضات شكوا للقيادات صراحة أنهم استنفدوا كافة مجهوداتهم ولا فائدة من استمرارها بالوضع الحالي»، معتبرا في تصريح لـ«الشرق الأوسط» «أي حديث (رسمي) عن جهود من أجل حل الأزمة عن طريق المفاوضات، هو سير في نفس المسار الدائري الذي لن يوصلنا إلى شيء».
وفشلت الجولة الأخيرة للمفاوضات، والتي انعقدت في القاهرة يومي 11 و12 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بين وزراء المياه في مصر والسودان وإثيوبيا، في التوصل لاتفاق بشأن اعتماد التقرير الاستهلالي الخاص بالدراسات الفنية للسد، والمقدم من شركة استشارية فرنسية.
وقال مجلس الوزراء المصري في منتصف الشهر نفسه، إنه «يتم حاليا متابعة الإجراءات الواجب اتخاذها للتعامل مع هذا الوضع على كافة الأصعدة، باعتبار أن الأمن المائي المصري من العناصر الجوهرية للأمن القومي».
لكن الحكومة المصرية لم توضح ماهية تلك الإجراءات التي قد تلجأ إليها القاهرة، لحماية حصتها من مياه النيل، والتي سبق أن وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي في حواره مع جريدة «الشرق الأوسط»، خلال الشهر الجاري، بأنها «مسألة حياة أو موت».
وتعاني مصر من شح في الموارد المائية الأخرى، ولا تكفي حصتها من النهر لسد احتياجها من المياه العذبة، في ظل زيادة سكانية متنامية، حيث تخطى عدد السكان المائة مليون نسمة وفقا لأحدث إحصاء.
ووقعت مصر وإثيوبيا والسودان العام الماضي عقودا مع مكتب استشاري فرنسي لإجراء دراسات فنية على السد، المقرر أن يكتمل بناؤه العام المقبل، لدراسة أضراره المحتملة على مصر والسودان (دولتا المصب لنهر النيل). وتنص العقود على إتمام الدراسات، في 11 شهرا، غير أن المدة انتهت بالفعل قبل عدة أشهر، دون تحقيق أي نتيجة ملموسة.
وتتركز الأزمة الرئيسية في فترة ملء خزان السد، وتطالب مصر بتخفيض السعة التخزينية والمقدرة بـ74 مليار متر مكعب من المياه إلى أقل من النصف.
ويبدو أن الإدراك الإثيوبي لغياب البدائل أمام مصر جعلها تثق في قدرتها على المماطلة. يشير المسؤول المصري، الذي رفض ذكر اسمه لحساسية موقعه، «لدينا نقطة ضعف رئيسية منذ انطلاق المفاوضات عام 2011. وهي أن مصر لا تمتلك نقطة ضغط زمني على إثيوبيا للوصول إلى حل... وعندما طلبنا منهم وقف البناء حتى انتهاء الدراسات الفنية، رفضوا ذلك، وأصبح البناء مستمرا بجانب مفاوضات عبثية، وكلما طالت المفاوضات اكتسب الإثيوبيون مزيدا من الوقت».
ويضيف «حاليا البناء اقترب من النهاية فعليا... ووصلنا لمرحلة ملء السد الذي سيبدأ العام المقبل، ومن ثم علينا أن ندرك خطأنا السابق، فلا يصح الجلوس معهم مرة أخرى في مفاوضات سياسية أو غيرها دون وجود قيود تتعلق بتخزين المياه... فهذا الكلام معناه أنها مفاوضات للمفاوضات وأننا جالسون لالتقاط الصور».
وأظهرت زيارة وزير المياه المصري محمد عبد العاطي، لموقع السد، ببني شنجول على بعد 20 كم من الحدود السودانية، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اقتراب أديس أبابا من إنهاء الإنشاءات الخرسانية في جسم السد الرئيسي والمساعد، وتركيب عدد من «توربينات» الكهرباء، وتأهيل بحيرة التخزين الملحقة بالسد.
ويقول الدكتور هاني رسلان، خبير المياه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن «إثيوبيا طوال الوقت السابق كانت حريصة على إدخال مصر في متاهة من الإجراءات وتضييع الوقت، وتأجيل الاجتماعات والتشبث بالرأي»، لافتًا إلى أن «مصر أوضحت للعالم كله أننا بذلنا كل الجهد للوصول لصيغة تعاونية، لكن إثيوبيا أظهرت قدرا كبيرا من سوء النية».

خطورة الأزمة على مصر
تصاعدت الأزمة فعليا منذ منتصف عام 2011، عندما أعلنت إثيوبيا تحويل مجرى النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل)، من أجل البدء في تشييد سد النهضة العملاق على نهر النيل، بكلفة 4.7 مليار دولار.
ويأتي القدر الأكبر من مياه النيل (ما نسبته 80% من إجمالي الموارد المائية) لمصر من النيل الأزرق. ويقول خبراء مصريون، وهو تقدير تتبناه الحكومة، إن هذا السد يهدد حصة القاهرة التاريخية من المياه، والتي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب بما يصل لأكثر من 10 في المائة، كما سيؤدي أيضا لخفض كمية الكهرباء المولدة من السد العالي جنوب مصر، وفي حالة انهياره (سد النهضة)، سيحدث خلل للسد العالي، ويؤدي لغرق بعض المدن المصرية في الجنوب والوسط.
ووفقا لتصريحات وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق الدكتور حسام مغازي لـ«الشرق الأوسط»، فإن مصر «تعاني من عجز مائي يقدر بحوالي 19 مليار متر مكعب، وتعتمد على سد هذا العجز من خلال توفير موارد بديلة منها البحث عن آبار للمياه الجوفية وهي غير كثيفة، وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، إضافة لمياه الأمطار الضعيفة جدا».
ويضيف «هذا الوضع الصعب يجعل حصتنا من مياه النيل غير قابلة لأي نقص، بل نسعى لزيادة إيراداتنا من النهر من خلال التعاون مع دول الحوض». ونوه الوزير السابق إلى أن «فكرة السد تقوم على توليد الكهرباء بمعنى أن يتم احتجاز المياه بهدف توليد الكهرباء، ثم تمر في رحلتها الطبيعية إلى مصر والسودان؛ لكن أثناء فترة التخزين للمياه في السد لتوليد الكهرباء هذه، هي التي سنعاني فيها من العجز المائي، بالإضافة إلى التأثيرات البيئية والاقتصادية».
وفي السياق ذاته، يقول الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار، في تحليل له، «مصر تستهلك كل قطرة من حصتها من مياه النيل وتلجأ لمياه الصرف المعالج وغير المعالج، وتستنزف مياهها الجوفية بمعدلات جائرة في بعض المناطق، فإن المساس بأي قطرة من حصتها في مياه النيل يعني الاعتداء الغاشم والجسيم على حياة البشر والثروتين النباتية والحيوانية في مصر».
ويؤكد «حتى لو لم تستخدم إثيوبيا مياه بحيرة سد النهضة في الري، فإن البخر والتسرب والتشرب من بحيرة السد كفيل وحده باقتطاع حصة مهمة من مياه النيل الأزرق التي تتدفق لمصر والسودان.. موقع بحيرة سد النهضة في منطقة مدارية حارة سيجعلها تفقد أكثر من 4 مليارات متر مكعب من المياه بالبخر سنويا لدى امتلاء تلك البحيرة. كما تبلغ كميات المياه التي ستُفقد بالتسرب والتشرب ضعف ما سيُفقد بالبخر في البداية، ومع تشبع التربة المحيطة بالبحيرة سيتراجع ما يفقد بالتسرب والتشرب للنصف».

6 أعوام من المماطلة
منذ عام 2011، وعلى مدار نحو 6 أعوام، نفذت الدولتان ومعهما السودان، جولات مكوكية من المفاوضات، تخللها تشكيل للجان وزارية بمشاركة خبراء دوليين، غير أنها لم يكتب لها النجاح. كما شملت تلك الفترة حربا كلامية وصلت إلى حد أزمة دبلوماسية بسبب اقتراح لسياسيين مصريين خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي عام 2012، بالعمل على تدمير السد ودعم المتمردين المناهضين للحكومة الإثيوبية، ما أدى لتوقف الحوار بين البلدين.
لكن المفاوضات بدأت تأخذ مسارا أكثر جدية مع تولي الرئيس السيسي الحكم عام 2014. حيث تم تشكيل لجنة من 12 مفاوضا مقسمة بين الدول الثلاث لدراسة آثار السد من خلال مكتب استشاري عالمي.
وفي مارس (آذار) 2015. وقعت الدول الثلاث إعلان مبادئ في الخرطوم اشتمل على إعطاء أولوية لمصر والسودان، بوصفهما دولتي المصب، في الكهرباء المولدة من السد وهي طريقة لحل الخلافات والتعويض عن الأضرار. وتعهد الموقعون أيضا بحماية مصالح دولتي المصب عند ملء خزان السد.
ويتضمن الإعلان قيام المكاتب الاستشارية بإعداد دراسة فنية عن السد، ويتم الاتفاق بعد انتهاء الدراسات على كيفية إنجاز سد النهضة وتشغيله دون الإضرار بدولتي المصب مصر والسودان.
وفي سبتمبر (أيلول) 2016 وقع رؤساء وفود مصر والسودان وإثيوبيا على عقود المكاتب الاستشارية المنفذة للدراسات الفنية، على أن ترسل المكاتب الاستشارية تقريرها كل 3 أشهر، عن سير العمل. وكان من المقر أن ينتهي في مايو (أيار) الماضي التقرير الاستهلالي للمكتب الاستشاري، وهو ما لم يتم حتى الآن.
ما أضعف الموقف المصري هو أن السودان يرى أن السد يمكن أن يعود عليه بالعديد من المنافع أهمها توريد الكهرباء، مما أخرجه ضمنيا من دائرة الصراع، لتنحصر بين مصر وإثيوبيا.
وعقب 17 جولة من المفاوضات الفنية، أعلنت مصر، قبل أيام، أن عدم التوصل إلى اتفاق بشأن التقرير الاستهلالي الخاص بدراسات سد النهضة يؤدي إلى القلق، وقررت تجميد المفاوضات. وفي تعقيبه قال وزير الخارجية المصرية سامح شكري «بعد طول مدة ووقت طويل لم نتوقع أن يستغرق المسار الفني هذا القدر من الوقت للتوافق على شركة فنية يجب أن تعمل بشكل محايد ولم نكن نتوقع أن يصطدم نطاق عملها بأي رؤى تصعّب المسار والاتفاق بشأنه لتوجيه الشركة في مجال عملها.. وأوضح أن هذا الأمر يؤدي إلى القلق».
الدكتور السيد فليفل، رئيس لجنة الشؤون الأفريقية بمجلس النواب (البرلمان)، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «الموقف الإثيوبي والسوداني المتعنت، يدل على أن الشك المصري في محله، وأن السد الإثيوبي ليس فقط مخالفا للقانون الدولي أو حق إثيوبيا في التنمية، بل إنه منشأ هندسي غير صحيح».
وتابع الدكتور فليفل «التفاوض الفني أصبح مسألة معطلة للتوصل لاتفاق حقيقي، وعلى مصر أن تلجأ لتصعيد الأمر للجانب السياسي وهو يتطلب مفاوضات على مستوى عالٍ وفقا للقانون الدولي وبناء على التجارب السابقة، فالمياه بالنسبة إلى مصر خط أحمر».

تطمينات إثيوبية وسودانية
وتعمل إثيوبيا دائماً على طمأنة مصر... وتقول إن «السد لن يؤثر على حصة مصر من المياه، وإن (سد النهضة) يمكن أن يعود بالنفع على الدول الثلاث»، وسبق أن قال وزير خارجية إثيوبيا، ورقنى جيبيوه، خلال لقاء نظيره المصري سامح شكري، في أبريل (نيسان) الماضي، «نحن في إثيوبيا نوجه رسالة للشعب المصري بأن لدينا روابط مشتركة كبيرة، ونحن لا نعارض المصالح المصرية»، مشدداً على أن «الشعب المصري لن يضار من أي إجراءات تقوم بها إثيوبيا».
وفي ذات السياق، سبق أن أعلن الرئيس السوداني عمر البشير، أن بناء «سد النهضة» على مجرى نهر النيل، لن يؤثر على تزويد مصر بالمياه في ظل مخاوفها من هذا الأمر. وقال البشير في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين، أغسطس (آب) الماضي، «نحن ملتزمون التزاماً قاطعاً بأن حصة مصر من مياه النيل، لن تتأثر بقيام سد النهضة».

دور قطري مناوئ
في خضم هذه الأزمة، وجه سياسيون مصريون اتهامات لدولة قطر بالمسؤولية عن تعثر المفاوضات، خاصة أن الإعلان عن فشلها، تزامن مع زيارة رسمية قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي هيل ماريا دسلين إلى الدوحة الأسبوع الماضي، التقى خلالها عددا من المسؤولين، ووقع اتفاقيات تعاون، شملت اتفاقية تعاون دفاعي.
ويرى مراقبون أن الدوحة تستغل حاجة إثيوبيا لممولين لاستكمال بناء السد، في الضغط على مصر. يقول الدكتور فليفل، «تعثر المفاوضات، وما تبعه من مواقف، يثبت أن السد تم بناؤه لأهداف سياسية تتعلق بإضرار مصر، في إطار تحالف مع قطر يعمل ضد مصر ويحركه التنظيم الدولي لجماعة الإخوان»، مشيرا إلى أن «تلك الأيادي وجدت في إثيوبيا وسيلة ضغط شديدة في هذه المرحلة على مصر».
ونوه الدكتور فليفل إلى أن «كل مفاوضات تجري حول السد، خلال الأشهر الماضية، يظهر مسؤول قطري في أديس أبابا، أو يقوم مسؤول إثيوبي بزيارة الدوحة، وهو ما تأكد لمصر بشكل واضح».
وسبق أن زار أمير قطر إثيوبيا في أبريل الماضي. وذكرت مصادر مطلعة أن «الدوحة ستعمل على ضخ استثمارات كبيرة لتمويل سد النهضة، تشمل زراعة مليون و200 ألف فدان في منطقة السد».
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، افتتحت شبكة «الجزيرة» مكتبا إقليميا لها في العاصمة الإثيوبية، بحضور مدير إدارة الإعلام في مكتب الاتصال الحكومي بإثيوبيا محمد سعيد، ومستشار وزير الخارجية الإثيوبي محمود درير غيدي.
ويشير الدكتور مدحت نجيب، رئيس حزب الأحرار، ونائب مدير المركز العربي الأفريقي للدراسات السياسية، إلى أن «هناك صفقة استثمارية تجارية بين الدوحة وأديس بابا لإفشال أي حلول تتوصل إليها اللجنة الفنية الثلاثية لسد النهضة»، مؤكدا أنها «تريد أن تنتقم من الحصار عليها وتخفيفه من خلال الضغط على مصر بملف سد النهضة وتحريض إثيوبيا والسودان على عدم التوصل لحل يناسب الجميع تجاه أزمة سد النهضة».
وهو الاتهام الذي كرره الدكتور رسلان قائلا «هناك قوى إقليمية كثيرة تسعى لاستغلال فترة الاضطراب الحالية في المنطقة لإضعاف الدور المصري ومصر كدولة من خلال الضغط عليها بورقة المياه باستخدام إثيوبيا والسودان كأدوات».

سيناريوهات مرتقبة
على مدار الأيام الماضية، عقدت الجهات المعنية بملف مياه النيل في وزارة الخارجية والجهات السيادية الأخرى، عدة اجتماعات رسمية، لبحث الموقف وإيجاد حلول «سياسية»، وحتى الآن لم تظهر الدبلوماسية المصرية أي تصريح عدائي أو حاد تجاه إثيوبيا.
يقول وزير الخارجية سامح شكري في مؤتمر صحافي عقده منتصف شهر نوفمبر الجاري: «مصر سوف تسعى لتجاوز هذا التعثر من خلال الاتصالات مع الشريكين إثيوبيا والسودان، وكذا مع الشركاء سواء في إطار دول حوض النيل أو على مستوى المجتمع الدولي بصفة عامة، واستمرار تحديد المسار والإجراءات التي تحافظ على المصالح المصرية دون أي ضرر بمصالح شركائنا».
وكشف المتحدث باسم الخارجية المستشار أحمد أبو زيد أن «مصر لديها خطة تحرك واضحة للتعامل مع هذا الملف، حيث تم تكليف السفارات المصرية في الخارج لشرح مسار المفاوضات والمرونة التي تعاملت بها مصر خلال الفترة الأخيرة، والتأكيد على الالتزام باتفاق إعلان المبادئ وهذه خطوة أولى لإشراك المجتمع الدولي في هذا الأمر». ومن المقرر أن يلتقي رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم ديسالين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
ولا يتصور وجود حل مصري «خشن» على الإطلاق مع الأزمة، وفقا لتصريحات المسؤول المصري لـ«الشرق الأوسط»، الذي أكد أن «الظروف الدولية والإقليمية والمصرية لا تسمح بذلك»، لكنه قال في المقابل إن «الرجوع للمفاوضات بنفس الطريقة أيضا لن يؤدي إلى نتيجة». وشدد المسؤول على ضرورة «وجود عامل ضغط قوي، فإثيوبيا تتحرك من منطق القوة دون النظر للشواغل المصرية، ولذلك تأثير تشغيل السد يظل مجهول المدى»، على حد قوله.
غير أنه استدرك مؤكدا أن «مصر ما زالت دولة قوية ومؤثرة، وبالتأكيد لدى القيادة السياسية سيناريوهات بديلة حبيسة الأدراج تجيب عن سؤال ماذا لو؟ وبالتأكيد سوف تستخدم فيها أوراق مثل الأمم المتحدة، وضغوط الأصدقاء والممولين للسد، وهي دائرة واسعة لمصر، وما حدث في التعامل الخليجي مع قطر ليس ببعيد عن إثيوبيا».
وشكت إثيوبيا كثيرا من أن مصر تضغط على الدول المانحة والمقرضين الدوليين للانسحاب من المشروع. وسبق أن أثار الرئيس السيسي الأزمة خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي. كما أن تصريحه الأخير بأن ملف مياه النيل مسألة حياة أو موت كان رسالة إلى جميع الأطراف بأن القاهرة لن تقبل بأي حلول وسطية قد تضر مصالحها وحصتها المكتسبة من مياه النيل.
من جهته، يرى الدكتور فليفل أن كل الوسائل متاحة أمام مصر بما فيها اللجوء لمجلس الأمن، مشيرا إلى أنه «في حال استمرار تعنت إثيوبيا فسوف تحاصر... ومصر ليست طرفا هينا».
وكذلك طالب الدكتور رسلان، الحكومة بتقديم شكوى ضد السودان وإثيوبيا إلى مجلس الأمن بسبب فشل مفاوضات سد النهضة، وقال إن سلوك الدولتين يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين لأهمية قضايا المياه ومحوريتها بالنسبة لمصر وحياة شعبها.

دعم سعودي قوي لمصر
في غضون ذلك، أبدت المملكة العربية السعودية دعمها لمصر. وقال السفير أحمد أبو زيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، إن «ملف سد النهضة كان محل ناقش بين وزير الخارجية سامح شكري، ونظيره السعودي عادل الجبير خلال مباحثاتهما في الرياض الأسبوع الماضي»، وأوضح أن «المملكة تتابع تطورات الملف وتتفهم الشواغل المصرية»، وأن «الوزير الجبير أكد تفهم السعودية محورية اتفاق المبادئ والقانون الدولي في هذا الشأن».

حقائق حول «سد النهضة»
> يقع السد على النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل) بولاية بنيشنقول - قماز، بالقرب من الحدود الإثيوبية - السودانية، على مسافة تتراوح بين 20 و40 كيلومترا.
> بدأ التفكير فيه قبل نحو 50 عاما، ضمن مقترحات بإنشاء السدود في إثيوبيا، ثم تبلور المقترح عام 1964 بسعة تخزينية من المياه قدرها نحو 11 مليار متر مكعب، ارتفعت بعد ذلك إلى 14.5 مليار متر مكعب، والآن عند الإنشاء قررت إثيوبيا تطوير السد لتصل قدرته التخزينية إلى أكثر من 70 مليار متر مكعب.
>في 2 أبريل عام 2011 وضع رئيس وزراء إثيوبيا السابق ملس زيناوي Meles Zenawi حجر الأساس للسد وقد تم إنشاء كسارة للصخور جنبا إلى جنب مع مهبط للطائرات الصغيرة للنقل السريع.
> المقاول الرئيسي للمشروع، الذي يتكلف أكثر من أربعة مليارات دولار، هو شركة ساليني إمبرجيلو الإيطالية، وتهدف إثيوبيا من خلاله لتصبح أكبر مصدر للكهرباء، حيث ينتظر منه توليد كهرباء بمقدار 6000 ميغاواط.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري