مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

القاهرة تبحث عن سيناريوهات جديدة بعد «تعنت» أديس أبابا

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

مفاوضات سد النهضة «تغرق» في «المتاهة» الإثيوبية

وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي  («الشرق الأوسط»)
وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا خلال زيارتهم موقع السد في أكتوبر الماضي («الشرق الأوسط»)

يبدو أن مصر أدركت أخيرا أن الوقت حان لإيقاف مسلسل مفاوضات، وُصفت بـ«غير المجدية» مع إثيوبيا، حول سد تبنيه الأخيرة على أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، وتقول القاهرة إنه سوف يؤثر سلباً على نصيبها من المياه. وبينما اعتبر مسؤولون وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» أن إعلان مصر فشل المفاوضات الفنية، جاء متأخرا، في ظل تحذيرات سابقة بلعب إثيوبيا على عامل الزمن، لحين الانتهاء من بناء السد وملئه، ليصبح أمرا واقعا، جاءت تصريحات الحكومة المصرية لتعكس الثقة في قدرتها على اتخاذ إجراءات ومسارات «سياسية» بديلة لحماية أمنها المائي، من بينها الضغط الدولي واللجوء إلى الأمم المتحدة وربما التحكيم، بحسب مصادر دبلوماسية.
يقول مسؤول مصري رفيع، على صلة مباشرة بالمفاوضات، «الخبراء المصريون المشاركون في المفاوضات شكوا للقيادات صراحة أنهم استنفدوا كافة مجهوداتهم ولا فائدة من استمرارها بالوضع الحالي»، معتبرا في تصريح لـ«الشرق الأوسط» «أي حديث (رسمي) عن جهود من أجل حل الأزمة عن طريق المفاوضات، هو سير في نفس المسار الدائري الذي لن يوصلنا إلى شيء».
وفشلت الجولة الأخيرة للمفاوضات، والتي انعقدت في القاهرة يومي 11 و12 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بين وزراء المياه في مصر والسودان وإثيوبيا، في التوصل لاتفاق بشأن اعتماد التقرير الاستهلالي الخاص بالدراسات الفنية للسد، والمقدم من شركة استشارية فرنسية.
وقال مجلس الوزراء المصري في منتصف الشهر نفسه، إنه «يتم حاليا متابعة الإجراءات الواجب اتخاذها للتعامل مع هذا الوضع على كافة الأصعدة، باعتبار أن الأمن المائي المصري من العناصر الجوهرية للأمن القومي».
لكن الحكومة المصرية لم توضح ماهية تلك الإجراءات التي قد تلجأ إليها القاهرة، لحماية حصتها من مياه النيل، والتي سبق أن وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي في حواره مع جريدة «الشرق الأوسط»، خلال الشهر الجاري، بأنها «مسألة حياة أو موت».
وتعاني مصر من شح في الموارد المائية الأخرى، ولا تكفي حصتها من النهر لسد احتياجها من المياه العذبة، في ظل زيادة سكانية متنامية، حيث تخطى عدد السكان المائة مليون نسمة وفقا لأحدث إحصاء.
ووقعت مصر وإثيوبيا والسودان العام الماضي عقودا مع مكتب استشاري فرنسي لإجراء دراسات فنية على السد، المقرر أن يكتمل بناؤه العام المقبل، لدراسة أضراره المحتملة على مصر والسودان (دولتا المصب لنهر النيل). وتنص العقود على إتمام الدراسات، في 11 شهرا، غير أن المدة انتهت بالفعل قبل عدة أشهر، دون تحقيق أي نتيجة ملموسة.
وتتركز الأزمة الرئيسية في فترة ملء خزان السد، وتطالب مصر بتخفيض السعة التخزينية والمقدرة بـ74 مليار متر مكعب من المياه إلى أقل من النصف.
ويبدو أن الإدراك الإثيوبي لغياب البدائل أمام مصر جعلها تثق في قدرتها على المماطلة. يشير المسؤول المصري، الذي رفض ذكر اسمه لحساسية موقعه، «لدينا نقطة ضعف رئيسية منذ انطلاق المفاوضات عام 2011. وهي أن مصر لا تمتلك نقطة ضغط زمني على إثيوبيا للوصول إلى حل... وعندما طلبنا منهم وقف البناء حتى انتهاء الدراسات الفنية، رفضوا ذلك، وأصبح البناء مستمرا بجانب مفاوضات عبثية، وكلما طالت المفاوضات اكتسب الإثيوبيون مزيدا من الوقت».
ويضيف «حاليا البناء اقترب من النهاية فعليا... ووصلنا لمرحلة ملء السد الذي سيبدأ العام المقبل، ومن ثم علينا أن ندرك خطأنا السابق، فلا يصح الجلوس معهم مرة أخرى في مفاوضات سياسية أو غيرها دون وجود قيود تتعلق بتخزين المياه... فهذا الكلام معناه أنها مفاوضات للمفاوضات وأننا جالسون لالتقاط الصور».
وأظهرت زيارة وزير المياه المصري محمد عبد العاطي، لموقع السد، ببني شنجول على بعد 20 كم من الحدود السودانية، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اقتراب أديس أبابا من إنهاء الإنشاءات الخرسانية في جسم السد الرئيسي والمساعد، وتركيب عدد من «توربينات» الكهرباء، وتأهيل بحيرة التخزين الملحقة بالسد.
ويقول الدكتور هاني رسلان، خبير المياه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن «إثيوبيا طوال الوقت السابق كانت حريصة على إدخال مصر في متاهة من الإجراءات وتضييع الوقت، وتأجيل الاجتماعات والتشبث بالرأي»، لافتًا إلى أن «مصر أوضحت للعالم كله أننا بذلنا كل الجهد للوصول لصيغة تعاونية، لكن إثيوبيا أظهرت قدرا كبيرا من سوء النية».

خطورة الأزمة على مصر
تصاعدت الأزمة فعليا منذ منتصف عام 2011، عندما أعلنت إثيوبيا تحويل مجرى النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل)، من أجل البدء في تشييد سد النهضة العملاق على نهر النيل، بكلفة 4.7 مليار دولار.
ويأتي القدر الأكبر من مياه النيل (ما نسبته 80% من إجمالي الموارد المائية) لمصر من النيل الأزرق. ويقول خبراء مصريون، وهو تقدير تتبناه الحكومة، إن هذا السد يهدد حصة القاهرة التاريخية من المياه، والتي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب بما يصل لأكثر من 10 في المائة، كما سيؤدي أيضا لخفض كمية الكهرباء المولدة من السد العالي جنوب مصر، وفي حالة انهياره (سد النهضة)، سيحدث خلل للسد العالي، ويؤدي لغرق بعض المدن المصرية في الجنوب والوسط.
ووفقا لتصريحات وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق الدكتور حسام مغازي لـ«الشرق الأوسط»، فإن مصر «تعاني من عجز مائي يقدر بحوالي 19 مليار متر مكعب، وتعتمد على سد هذا العجز من خلال توفير موارد بديلة منها البحث عن آبار للمياه الجوفية وهي غير كثيفة، وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، إضافة لمياه الأمطار الضعيفة جدا».
ويضيف «هذا الوضع الصعب يجعل حصتنا من مياه النيل غير قابلة لأي نقص، بل نسعى لزيادة إيراداتنا من النهر من خلال التعاون مع دول الحوض». ونوه الوزير السابق إلى أن «فكرة السد تقوم على توليد الكهرباء بمعنى أن يتم احتجاز المياه بهدف توليد الكهرباء، ثم تمر في رحلتها الطبيعية إلى مصر والسودان؛ لكن أثناء فترة التخزين للمياه في السد لتوليد الكهرباء هذه، هي التي سنعاني فيها من العجز المائي، بالإضافة إلى التأثيرات البيئية والاقتصادية».
وفي السياق ذاته، يقول الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار، في تحليل له، «مصر تستهلك كل قطرة من حصتها من مياه النيل وتلجأ لمياه الصرف المعالج وغير المعالج، وتستنزف مياهها الجوفية بمعدلات جائرة في بعض المناطق، فإن المساس بأي قطرة من حصتها في مياه النيل يعني الاعتداء الغاشم والجسيم على حياة البشر والثروتين النباتية والحيوانية في مصر».
ويؤكد «حتى لو لم تستخدم إثيوبيا مياه بحيرة سد النهضة في الري، فإن البخر والتسرب والتشرب من بحيرة السد كفيل وحده باقتطاع حصة مهمة من مياه النيل الأزرق التي تتدفق لمصر والسودان.. موقع بحيرة سد النهضة في منطقة مدارية حارة سيجعلها تفقد أكثر من 4 مليارات متر مكعب من المياه بالبخر سنويا لدى امتلاء تلك البحيرة. كما تبلغ كميات المياه التي ستُفقد بالتسرب والتشرب ضعف ما سيُفقد بالبخر في البداية، ومع تشبع التربة المحيطة بالبحيرة سيتراجع ما يفقد بالتسرب والتشرب للنصف».

6 أعوام من المماطلة
منذ عام 2011، وعلى مدار نحو 6 أعوام، نفذت الدولتان ومعهما السودان، جولات مكوكية من المفاوضات، تخللها تشكيل للجان وزارية بمشاركة خبراء دوليين، غير أنها لم يكتب لها النجاح. كما شملت تلك الفترة حربا كلامية وصلت إلى حد أزمة دبلوماسية بسبب اقتراح لسياسيين مصريين خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي عام 2012، بالعمل على تدمير السد ودعم المتمردين المناهضين للحكومة الإثيوبية، ما أدى لتوقف الحوار بين البلدين.
لكن المفاوضات بدأت تأخذ مسارا أكثر جدية مع تولي الرئيس السيسي الحكم عام 2014. حيث تم تشكيل لجنة من 12 مفاوضا مقسمة بين الدول الثلاث لدراسة آثار السد من خلال مكتب استشاري عالمي.
وفي مارس (آذار) 2015. وقعت الدول الثلاث إعلان مبادئ في الخرطوم اشتمل على إعطاء أولوية لمصر والسودان، بوصفهما دولتي المصب، في الكهرباء المولدة من السد وهي طريقة لحل الخلافات والتعويض عن الأضرار. وتعهد الموقعون أيضا بحماية مصالح دولتي المصب عند ملء خزان السد.
ويتضمن الإعلان قيام المكاتب الاستشارية بإعداد دراسة فنية عن السد، ويتم الاتفاق بعد انتهاء الدراسات على كيفية إنجاز سد النهضة وتشغيله دون الإضرار بدولتي المصب مصر والسودان.
وفي سبتمبر (أيلول) 2016 وقع رؤساء وفود مصر والسودان وإثيوبيا على عقود المكاتب الاستشارية المنفذة للدراسات الفنية، على أن ترسل المكاتب الاستشارية تقريرها كل 3 أشهر، عن سير العمل. وكان من المقر أن ينتهي في مايو (أيار) الماضي التقرير الاستهلالي للمكتب الاستشاري، وهو ما لم يتم حتى الآن.
ما أضعف الموقف المصري هو أن السودان يرى أن السد يمكن أن يعود عليه بالعديد من المنافع أهمها توريد الكهرباء، مما أخرجه ضمنيا من دائرة الصراع، لتنحصر بين مصر وإثيوبيا.
وعقب 17 جولة من المفاوضات الفنية، أعلنت مصر، قبل أيام، أن عدم التوصل إلى اتفاق بشأن التقرير الاستهلالي الخاص بدراسات سد النهضة يؤدي إلى القلق، وقررت تجميد المفاوضات. وفي تعقيبه قال وزير الخارجية المصرية سامح شكري «بعد طول مدة ووقت طويل لم نتوقع أن يستغرق المسار الفني هذا القدر من الوقت للتوافق على شركة فنية يجب أن تعمل بشكل محايد ولم نكن نتوقع أن يصطدم نطاق عملها بأي رؤى تصعّب المسار والاتفاق بشأنه لتوجيه الشركة في مجال عملها.. وأوضح أن هذا الأمر يؤدي إلى القلق».
الدكتور السيد فليفل، رئيس لجنة الشؤون الأفريقية بمجلس النواب (البرلمان)، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «الموقف الإثيوبي والسوداني المتعنت، يدل على أن الشك المصري في محله، وأن السد الإثيوبي ليس فقط مخالفا للقانون الدولي أو حق إثيوبيا في التنمية، بل إنه منشأ هندسي غير صحيح».
وتابع الدكتور فليفل «التفاوض الفني أصبح مسألة معطلة للتوصل لاتفاق حقيقي، وعلى مصر أن تلجأ لتصعيد الأمر للجانب السياسي وهو يتطلب مفاوضات على مستوى عالٍ وفقا للقانون الدولي وبناء على التجارب السابقة، فالمياه بالنسبة إلى مصر خط أحمر».

تطمينات إثيوبية وسودانية
وتعمل إثيوبيا دائماً على طمأنة مصر... وتقول إن «السد لن يؤثر على حصة مصر من المياه، وإن (سد النهضة) يمكن أن يعود بالنفع على الدول الثلاث»، وسبق أن قال وزير خارجية إثيوبيا، ورقنى جيبيوه، خلال لقاء نظيره المصري سامح شكري، في أبريل (نيسان) الماضي، «نحن في إثيوبيا نوجه رسالة للشعب المصري بأن لدينا روابط مشتركة كبيرة، ونحن لا نعارض المصالح المصرية»، مشدداً على أن «الشعب المصري لن يضار من أي إجراءات تقوم بها إثيوبيا».
وفي ذات السياق، سبق أن أعلن الرئيس السوداني عمر البشير، أن بناء «سد النهضة» على مجرى نهر النيل، لن يؤثر على تزويد مصر بالمياه في ظل مخاوفها من هذا الأمر. وقال البشير في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين، أغسطس (آب) الماضي، «نحن ملتزمون التزاماً قاطعاً بأن حصة مصر من مياه النيل، لن تتأثر بقيام سد النهضة».

دور قطري مناوئ
في خضم هذه الأزمة، وجه سياسيون مصريون اتهامات لدولة قطر بالمسؤولية عن تعثر المفاوضات، خاصة أن الإعلان عن فشلها، تزامن مع زيارة رسمية قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي هيل ماريا دسلين إلى الدوحة الأسبوع الماضي، التقى خلالها عددا من المسؤولين، ووقع اتفاقيات تعاون، شملت اتفاقية تعاون دفاعي.
ويرى مراقبون أن الدوحة تستغل حاجة إثيوبيا لممولين لاستكمال بناء السد، في الضغط على مصر. يقول الدكتور فليفل، «تعثر المفاوضات، وما تبعه من مواقف، يثبت أن السد تم بناؤه لأهداف سياسية تتعلق بإضرار مصر، في إطار تحالف مع قطر يعمل ضد مصر ويحركه التنظيم الدولي لجماعة الإخوان»، مشيرا إلى أن «تلك الأيادي وجدت في إثيوبيا وسيلة ضغط شديدة في هذه المرحلة على مصر».
ونوه الدكتور فليفل إلى أن «كل مفاوضات تجري حول السد، خلال الأشهر الماضية، يظهر مسؤول قطري في أديس أبابا، أو يقوم مسؤول إثيوبي بزيارة الدوحة، وهو ما تأكد لمصر بشكل واضح».
وسبق أن زار أمير قطر إثيوبيا في أبريل الماضي. وذكرت مصادر مطلعة أن «الدوحة ستعمل على ضخ استثمارات كبيرة لتمويل سد النهضة، تشمل زراعة مليون و200 ألف فدان في منطقة السد».
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، افتتحت شبكة «الجزيرة» مكتبا إقليميا لها في العاصمة الإثيوبية، بحضور مدير إدارة الإعلام في مكتب الاتصال الحكومي بإثيوبيا محمد سعيد، ومستشار وزير الخارجية الإثيوبي محمود درير غيدي.
ويشير الدكتور مدحت نجيب، رئيس حزب الأحرار، ونائب مدير المركز العربي الأفريقي للدراسات السياسية، إلى أن «هناك صفقة استثمارية تجارية بين الدوحة وأديس بابا لإفشال أي حلول تتوصل إليها اللجنة الفنية الثلاثية لسد النهضة»، مؤكدا أنها «تريد أن تنتقم من الحصار عليها وتخفيفه من خلال الضغط على مصر بملف سد النهضة وتحريض إثيوبيا والسودان على عدم التوصل لحل يناسب الجميع تجاه أزمة سد النهضة».
وهو الاتهام الذي كرره الدكتور رسلان قائلا «هناك قوى إقليمية كثيرة تسعى لاستغلال فترة الاضطراب الحالية في المنطقة لإضعاف الدور المصري ومصر كدولة من خلال الضغط عليها بورقة المياه باستخدام إثيوبيا والسودان كأدوات».

سيناريوهات مرتقبة
على مدار الأيام الماضية، عقدت الجهات المعنية بملف مياه النيل في وزارة الخارجية والجهات السيادية الأخرى، عدة اجتماعات رسمية، لبحث الموقف وإيجاد حلول «سياسية»، وحتى الآن لم تظهر الدبلوماسية المصرية أي تصريح عدائي أو حاد تجاه إثيوبيا.
يقول وزير الخارجية سامح شكري في مؤتمر صحافي عقده منتصف شهر نوفمبر الجاري: «مصر سوف تسعى لتجاوز هذا التعثر من خلال الاتصالات مع الشريكين إثيوبيا والسودان، وكذا مع الشركاء سواء في إطار دول حوض النيل أو على مستوى المجتمع الدولي بصفة عامة، واستمرار تحديد المسار والإجراءات التي تحافظ على المصالح المصرية دون أي ضرر بمصالح شركائنا».
وكشف المتحدث باسم الخارجية المستشار أحمد أبو زيد أن «مصر لديها خطة تحرك واضحة للتعامل مع هذا الملف، حيث تم تكليف السفارات المصرية في الخارج لشرح مسار المفاوضات والمرونة التي تعاملت بها مصر خلال الفترة الأخيرة، والتأكيد على الالتزام باتفاق إعلان المبادئ وهذه خطوة أولى لإشراك المجتمع الدولي في هذا الأمر». ومن المقرر أن يلتقي رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم ديسالين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
ولا يتصور وجود حل مصري «خشن» على الإطلاق مع الأزمة، وفقا لتصريحات المسؤول المصري لـ«الشرق الأوسط»، الذي أكد أن «الظروف الدولية والإقليمية والمصرية لا تسمح بذلك»، لكنه قال في المقابل إن «الرجوع للمفاوضات بنفس الطريقة أيضا لن يؤدي إلى نتيجة». وشدد المسؤول على ضرورة «وجود عامل ضغط قوي، فإثيوبيا تتحرك من منطق القوة دون النظر للشواغل المصرية، ولذلك تأثير تشغيل السد يظل مجهول المدى»، على حد قوله.
غير أنه استدرك مؤكدا أن «مصر ما زالت دولة قوية ومؤثرة، وبالتأكيد لدى القيادة السياسية سيناريوهات بديلة حبيسة الأدراج تجيب عن سؤال ماذا لو؟ وبالتأكيد سوف تستخدم فيها أوراق مثل الأمم المتحدة، وضغوط الأصدقاء والممولين للسد، وهي دائرة واسعة لمصر، وما حدث في التعامل الخليجي مع قطر ليس ببعيد عن إثيوبيا».
وشكت إثيوبيا كثيرا من أن مصر تضغط على الدول المانحة والمقرضين الدوليين للانسحاب من المشروع. وسبق أن أثار الرئيس السيسي الأزمة خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي. كما أن تصريحه الأخير بأن ملف مياه النيل مسألة حياة أو موت كان رسالة إلى جميع الأطراف بأن القاهرة لن تقبل بأي حلول وسطية قد تضر مصالحها وحصتها المكتسبة من مياه النيل.
من جهته، يرى الدكتور فليفل أن كل الوسائل متاحة أمام مصر بما فيها اللجوء لمجلس الأمن، مشيرا إلى أنه «في حال استمرار تعنت إثيوبيا فسوف تحاصر... ومصر ليست طرفا هينا».
وكذلك طالب الدكتور رسلان، الحكومة بتقديم شكوى ضد السودان وإثيوبيا إلى مجلس الأمن بسبب فشل مفاوضات سد النهضة، وقال إن سلوك الدولتين يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين لأهمية قضايا المياه ومحوريتها بالنسبة لمصر وحياة شعبها.

دعم سعودي قوي لمصر
في غضون ذلك، أبدت المملكة العربية السعودية دعمها لمصر. وقال السفير أحمد أبو زيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، إن «ملف سد النهضة كان محل ناقش بين وزير الخارجية سامح شكري، ونظيره السعودي عادل الجبير خلال مباحثاتهما في الرياض الأسبوع الماضي»، وأوضح أن «المملكة تتابع تطورات الملف وتتفهم الشواغل المصرية»، وأن «الوزير الجبير أكد تفهم السعودية محورية اتفاق المبادئ والقانون الدولي في هذا الشأن».

حقائق حول «سد النهضة»
> يقع السد على النيل الأزرق (أحد الروافد الأساسية لنهر النيل) بولاية بنيشنقول - قماز، بالقرب من الحدود الإثيوبية - السودانية، على مسافة تتراوح بين 20 و40 كيلومترا.
> بدأ التفكير فيه قبل نحو 50 عاما، ضمن مقترحات بإنشاء السدود في إثيوبيا، ثم تبلور المقترح عام 1964 بسعة تخزينية من المياه قدرها نحو 11 مليار متر مكعب، ارتفعت بعد ذلك إلى 14.5 مليار متر مكعب، والآن عند الإنشاء قررت إثيوبيا تطوير السد لتصل قدرته التخزينية إلى أكثر من 70 مليار متر مكعب.
>في 2 أبريل عام 2011 وضع رئيس وزراء إثيوبيا السابق ملس زيناوي Meles Zenawi حجر الأساس للسد وقد تم إنشاء كسارة للصخور جنبا إلى جنب مع مهبط للطائرات الصغيرة للنقل السريع.
> المقاول الرئيسي للمشروع، الذي يتكلف أكثر من أربعة مليارات دولار، هو شركة ساليني إمبرجيلو الإيطالية، وتهدف إثيوبيا من خلاله لتصبح أكبر مصدر للكهرباء، حيث ينتظر منه توليد كهرباء بمقدار 6000 ميغاواط.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.