الكتاب الأميركيون في متحف رائد

يضم عرضاً موجزاً لسير الأدباء مع صورهم ومقتطفات من أقوالهم المأثورة

جانب من متحف «الكتاب الأميركيون في شيكاغو»
جانب من متحف «الكتاب الأميركيون في شيكاغو»
TT

الكتاب الأميركيون في متحف رائد

جانب من متحف «الكتاب الأميركيون في شيكاغو»
جانب من متحف «الكتاب الأميركيون في شيكاغو»

لا شك أن الاهتمام بالأدب يشهد تراجعاً في الولايات المتحدة بالمقارنة مع الماضي، ويرجع ذلك من جهة إلى انتشار التقنيات الحديثة واستقطابها للشباب، فضلاً عن انتشار الهوايات الأخرى المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة، والتي تزود البشر بمتع مغايرة للمطالعة، بل تتجاوز في الخيال المبتدع معظم الإبداع الأدبي. لذلك، نشهد في عصرنا الراهن ظاهرة «الكتاب الأفضل مبيعاً»، وهذه نوعية من الكتب تقدم كثيراً من التشويق، لكنها مصنوعة بشكل يلائم الذوق العريض، ويصلح للاقتباس إلى أفلام هوليوودية الطابع، ولا تطمح إلى الفوز بجوائز أدبية رفيعة مثل «بوليتزر» وسواها. صار لا يطبع من دواوين الشعر الأميركي الحديث إلا القليل، وهي تحتاج إلى دور تغامر بنشرها، إلا إذا كان الشاعر يحظى باسم له شهرة عالمية مدوية. فالعالم ما زال يقرأ ت. س. إليوت، إزرا باوند، والت وايتمان، رالف إيمرسون، إميلي ديكنسون، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. أما المسرح، فنشر نصوصه يعتبر من أصعب المعضلات بالنسبة للمؤلفين، لأن الغالبية العظمى من دور النشر تملك قناعة راسخة بأن المسرحية المقروءة لا تبيع، وبالتالي فإن نشرها مشروع خاسر. لذلك، ما زال الرائج طبع الكلاسيكيات الحديثة كأعمال يوجين أونيل، تنيسي ويليامز، آرثر ميلر، ثورنتون وايلدر وكليفورد أوديتس أكثر من المسرحيات الجديدة. لذلك أيضاً، تجد دوراً معينة قليلة متخصصة بنشر المسرحيات دون سواها، وتعمل كوكيل حصري لها بحيث تنال غالباً حصة من أرباح إنتاجها في المسارح. حتى المجموعات القصصية طالها انحسار نسبي بعد الشهرة المدوية لأساطين كتابها، مثل و. هنري، إدغار ألن بو ومارك توين. وحدها الرواية ما زالت تحظى بانتشار واهتمام وتنافس، وتتنافس دور النشر على إطلاقها. هذا التراث الغني بدأ من ملفيل وهوثورن وهمنغواي وفيتزجيرالد، وامتد إلى بول أوستر، نورمان ميلر، أليكس هيلي، أليس وولكر، توني موريسون، ووصل إلى فيليب روث ومايكل شابون، وسواهم كثير.
في الواقع، ليس تراجع الاهتمام بالأدب ظاهرة أميركية فحسب، بل هي بالأحرى عالمية. أذكر أن الكتاب الجديد الواحد في وطننا العربي كان يطبع 3000 نسخة كحد وسط، ويصل الرقم أحياناً إلى 10000 نسخة. ما لبث عدد النسخ المطبوعة أن تراجع إلى 1000 نسخة فقط، بل هبط أحياناً إلى 500. وكثيراً ما صرت تجد دور نشر مرموقة في بلادنا تفاوض الأديب خلسة أن يسهم بدفع تكلفة طباعة كتابه، أو بطبعه من جيبه الخاص بالكامل مقابل وضع اسم الدار على الكتاب! أما الناس في العواصم الأوروبية الكبرى، فهم يقرأون بكثافة تزجية للوقت خلال ركوبهم المترو لزمن طويل يومياً، وهم يتابعون أدباء جادين مثل كافكا وماركيز وكويللو. أذكر في بدء عهدي بالنشر في العالم العربي في مطلع السبعينات أن عدد النسخ كان وسطياً 3000 نسخة، وربما وصل أحياناً إلى 10000، بينما تراجع عدد النسخ المطبوعة منذ أواخر القرن الماضي إلى 1000 نسخة، وأصبح بعض الكتب في القرن الحادي والعشرين لا يطبع سوى 500 نسخة. الأمر له علاقة، بالتأكيد، بسوء التوزيع، لأن الكتاب صار لا يوزع إلا داخل البلد الواحد قليل عدد السكان وضمن معارض الكتب، إلا إذا نشر في مصر ذات الكثافة السكانية، أو في لبنان الضليع في التوزيع في مشرق العالم العربي ومغربه.
كثيراً ما كان يشاع في بلدان تروج العداء للسياسة الأميركية أن الولايات المتحدة قوية عسكرياً واقتصادياً، لكنها فقيرة حضارياً بالمقارنة مع التراث الأوروبي الغني. يثبت «متحف الكتاب الأميركيين» زيف هذه المقولة وبطلانها، ويثبت أن تاريخ الأدب حافل بأسماء مبدعين في الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح والمقالة النقدية. يكفي أن نعرف أن ثلاثة رؤساء أميركيين في التاريخ، على أقل تقدير، كانوا في عداد أولئك الكتاب الذين يحيي هذا المتحف ذكراهم، وهم توماس جيفرسون، إبراهام لينكولن وثيودور روزفلت. بالتالي، يصحح «متحف الكتاب الأميركيين» الاعتقاد الخاطئ السائد في منطقتنا، وربما في مناطق أخرى من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية خصوصاً أن الولايات المتحدة بلد يجسد «حضارة القوة»، وليس «قوة الحضارة». يدحض افتتاح «متحف الكتاب الأميركيين» في وسط مدينة شيكاغو، (المكناة «ثاني مدن أميركا»،) هذه النظرية تماماً، إذ يذكر الكم المذهل من المبدعين الأميركيين الكبار الذين مروا في تاريخ الأدب والثقافة، وتركوا بصماتهم الخالدة على مرِّ العصور.
رغم صغر حجم «متحف الكتاب الأميركيين» في شيكاغو فإنه يبقى صرحاً رائداً من نوعه يحتفي بتاريخ عريق سيفاجئ الكثير من الزوار الأجانب، وربما حتى من المواطنين أبناء البلد أنفسهم، وذلك بسبب احتوائه على كم هائل من المعلومات عن الأدباء والنقاد الأميركيين منذ القرن الثامن عشر وصولاً إلى العصر الحديث.
يقع المتحف في الطابق الثاني من بناء أنيق في منتصف شارع التسوق الشهير في شيكاغو، شارع ميتشيغن. يجول الزائر في المتحف الصغير نسبياً، وتحفز الصور والأسماء ذاكرته لتحيي ذكريات من زمن اليفاعة والشباب.
في الرواية، هل يمكن أن ينسى المرء ناثانيال هوثورن مؤلف رواية «الحرف القرمزي»، وهرمن ملفيل مؤلف روايات «موبي ديك» و«تايبي» و«أومو»؟ هل يمكن أن ينسى أحد إرنست همنغواي مؤلف روايات «وتشرق الشمس أيضاً» و«لمن تقرع الأجراس» و«ثلوج كليمنجارو»، ؟ هل يفوت أحد ذكر ف. سكوت فيتزجيرالد مؤلف رواية «غاتسبي العظيم»؟ وهل تغيب عن الذاكرة إبداعات مارك توين مؤلف «مغامرات هكلبري فين»، أو هارييت بيشر ستو مؤلفة «كوخ العم توم»، أو مارغريت ميتشل مؤلفة «ذهب مع الريح»؟ من ذا الذي ينسى وليم فوكنر مؤلف «الصوت والغضب» و«بينما أرقد لأموت»؟ وجون ستاينبك مؤلف «عناقيد الغضب» و«رجال وفئران»؟ هل تغيب عن الذاكرة أيضاً لويزا ماري ألكوت مؤلفة «نساء صغيرات»، أليس والكر مؤلفة «اللون الأرجواني»، وتوني موريسون مؤلفة رواية «محبوبة»، هاربر لي وروايتها «قتل طائر محاكي»، جاك كيرواك وروايته «على الطريق» التي كرست جيل «البيتنكس»، جاك لندن مؤلف «عشرة أيام هزت العالم»، واشنطن إيرفينغ، ترومان كابوته، هنري جيمس، نورمان ميلر، جون آبدايك، ترومان كابوت، ريموند تشاندلر، وداشيل هاميت وسواهم؟ ربما سيفاجأ زائر «متحف الكتاب الأميركيين» حين يعلم أن فلاديمير نابوكوف مؤلف رواية «لوليتا» الشهيرة مصنف بين الأدباء الأميركيين رغم أصله الروسي! أما في مجال المسرح، فلا يمكن لأحد أن يغفل فضل يوجين أونيل مؤلف «الحِداد يليق بإلكترا»، ثورنتون وايلدر مؤلف «مدينتنا»، تنيسي ويليامز مؤلف «ترام اسمه الرغبة» و«الحيوانات الزجاجية»، آرثر ميلر مؤلف «كلهم أبنائي» و«موت بائع جوال» و«البوتقة»، والكثير من المؤلفين المسرحيين الآخرين.
في القصة القصيرة، لا يعقل أن ينسى أحد رائد الحداثة إدغار ألن بو بقصصه الغرائبية المشوقة مثل «سقوط منزل آشر»، ولا ينسى أو. هنري بقصصه الإنسانية الرائعة جميعاً. في الشعر، لا يمكن لأحد أن ينسى الشاعر والت وايتمان، مؤلف «أوراق العشب»، والشاعر ت. س. إليوت، مؤلف «الأرض اليباب» و«أربعاء الرماد»، كما لا يمكن نسيان الشاعرة إميلي ديكنسون، روبرت فروست ودبليو. إتش. أودن وسواهم. بعض هؤلاء حاز جائزة «نوبل» للآداب، وكثير منهم حازوا جوائز «بوليتزر» أو «توني» أو سواها.
يضم «متحف الكتاب الأميركيين» عرضاً موجزاً لسير الأدباء مع صورهم ومقتطفات أقوالهم المأثورة وسطور من إبداعاتهم الخالدة بوسائل جذابة للزائر. إنه متحف صغير حقاً، لكنه نموذجي بحيث يشجع ويلهم ليس المدن الأميركية الأخرى فحسب، بل العواصم العالمية والعربية أيضاً، أن تحذو حذوه وتطلق مشاريع من هذا النوع لتخليد إبداعات أدبائها قبل إقامة التماثيل لزعمائها السياسيين.
أمثال هذا المتحف تغري بأن يؤمها جيل الشباب ليتعرف إلى مبدعي أوطانهم الكبار، الذين رحلوا جسدياً عن عالمنا، لكن ما أضافوا روحياً يبقى خالداً في سجل الإنسانية. يشكل «متحف الكتاب الأميركيين» في شيكاغو خطوة ملهمة وظاهرة حضارية راقية نأمل أن تسري عدواها إلى كل مكان لتعيد إلى الأدب جدارته واعتباره في عصرٍ طغت فيه وسائل الاتصال التكنولوجية المتقدمة حتى هيمنت على صناعة السينما والتلفزيون، وعلى عالم الإنترنت. «متحف للكتاب الأميركيين» مبادرة عظيمة تستحق أن تفخر بها شيكاغو في زمن تضاءل فيه اهتمام الناس بالأدب والأدباء.
*كاتب سوري مقيم
في الولايات المتحدة


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.