ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

رحب بتدخل {الناتو} والغرب فيها... ورفضه في تحرير الكويت

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
TT

ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل

لم يرَ زعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن في الانتفاضات العربية سنة 2011 ربيعاً ديمقراطياً شبابياً ولد روحاً في «فيسبوك» و«تويتر»، ولكن رآه فرصة سانحة وانفراجة كبيرة للمتطرفين خصوصاً، والإسلاميين عامة، ظهروا فيها ابتداء - من ليبيا - وتأخر قليلاً شأن مصر وتونس وسوريا واليمن.

بعث الزلزال الكبير للانتفاضات عام 2011 وتوالي سقوط الأنظمة، الأمل كبيراً لدى زعيم «القاعدة» الراحل، حتى طار به الرجل حلماً وخيالاً في أحاديثه لأسرته، كما تكشف يومياته المنشورة بخطه مؤخراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فتسأله ابنته ويجيب عما بعد إقامة الدولة الإسلامية الموحدة بقيادته؟ وماذا سيفعل مع العالم الغربي إن استسلم وطلب الصلح؟ وهل سيقبل منهم هذا الاستسلام!!
في يومياته يجزم بن لادن أن زلزال الانتفاضات لن يقف عند مراكزه التي اندلع فيها، في تونس 27 ديسمبر (كانون الأول)، ثم مصر في 25 يناير (كانون الثاني)، ثم اليمن في 11 فبراير (شباط)، ثم ليبيا في 15 فبراير، ثم سوريا في 18 مارس (آذار)، بل ستتمدد تصدعاته لتشمل المنطقة كلها وسقوط أنظمتها جميعاً، وأن عليه وعلى «القاعدة» وفروعها، وخصوصاً «المقاتلة الليبية»، في هذه الحالة التحالف والتنسيق مع من يريدون سقوط هذه الأنظمة معها، وفي مقدمتها إيران وقطر، هكذا فسرت لنا اليوميات الأخيرة الرابط بين بن لادن و«القاعدة» من جهة، وبين إيران وقطر والإسلاميين الجهاديين والثورات العربية من جهة أخرى، في براغماتية ترى الخلافات العقدية والمذهبية والآيدولوجية بين «السلفية الجهادية» غير جوهرية ولا ضرورية، كما ذكر في موضع آخر.
انتفاضة ليبيا الفرصة الأكبر لابن لادن
كان بن لادن يتابع أخبار الثورة ضد القذافي بشغف كبير، ورأى فيها فرصة كبيرة له ولتنظيمه بالخصوص. وفي أولى صفحات يومياته كان الحديث عن ليبيا، حيث يكتب بن لادن: «الأمور متواصلة في ليبيا لكن يظهر أن القذافي يصله مدد، لأنه يقوم بعمليات لاستعادة الزاوية، واليوم ثمة هجوم على مصراتة، وأسقط المسلحون طائرتين، فوقع الطيارون أسرى»، وبعد قليل من الصفحات يقول: «بالنسبة إلى ليبيا، الرأي العام الدولي يزداد ضغطاً على القذافي باستثناء روسيا التي ترفض فرض أي ضغوط».
تفهم بن لادن جيداً الفرصة الممكنة في ليبيا، كونها الثورة الوحيدة التي قادها المتشددون، ووجدت فيها «القاعدة»، ممثلة في عناصر «الجماعة المقاتلة»، ورأى في تكرار القذافي فزاعة «القاعدة» والمتطرفين حقيقة اغتبط بها، وأن «القاعدة» حقيقة ترعب العالم حتى الصين، كما نقل عن المدعو لويس عطية، مما يؤكد الأمل الذي كان يحدوه أن تكون الانفراجة التي ساقها الله وبشرت بها المنامات له سابقاً.
فهم بن لادن أن القذافي خصم أسهل، خصوصاً أنه لا يمتلك ورقة الطائفية كبشار الأسد، أو ورقة القبائل والولاءات مثل على عبد الله صالح، وأنه لا يوجد جيش، بل كتائب من المرتزقة وغير الليبيين، فلا توجد دولة أو نظام بالمعنى الحقيقي مما يبشر بسهولة الإسقاط، وخصوصاً بعد تصاعد الضغط والرفض، ثم التدخل الدولي ضد وحشيته.
من التناقض أن بن لادن كان سعيداً باستهداف «الناتو» والغرب لنظام معمر القذافي، وهو ما لم يرفضه في يومياته - على غير العادة المعروفة عنه - في «رفض الاستعانة على مُتجبر بكافر» كما كان يكرر، وهو ما نراه على العكس تماماً مما كان منه في حرب تحرير الكويت سنة 1990 أو غيرها، مما ينم عن براغماتية وذرائعية مستترة في خطاب زعيم «القاعدة»، كان يخفيها دائماً، لم تكشفها إلا يومياته وأحاديثه الأسرية.
كانت رؤيته صحيحة بخصوص فرص المتطرفين في ثورة ليبيا بالخصوص، فمنذ البداية كان واضحاً دور عناصر «الجماعة المقاتلة»، رغم توقيعها المصالحة، وتسطيرها المراجعات مع سيف الإسلام القذافي بوساطة على الصلابي، وتقديمها اعتذارها للنظام والشعب الليبي عام 2009. وبدأت حلقات التحول مع اعتقال فتحي تربل محامي مذبحة أبو سليم (التي راح ضحيتها 1200 قتيل) في 15 فبراير التي كان عناصر «المقاتلة» وغيرهم من المتشددين ضحاياها، وانفجرت في الشرق الليبي سريعاً تحمل السلاح مما اغتنمته من كتائب القذافي ومخازنه.
كان بن لادن واعياً بكل ذلك، ففي دفتر يومياته المنشور مؤخراً ضمن الوثائق، يلح على دور أكبر في ليبيا، وعلى التنسيق مع كل من يؤثر في الحراك الليبي، من الداعية القطري يوسف القرضاوي، إلى دور قناة «الجزيرة» التي رآها كما ذكر «حاملة لواء الثورات» من تونس إلى مصر إلى غيرها، مطالباً بالتنسيق معها وصياغة خطاب لا يزعج الناس يبث خلالها، فقد كان موقف «القاعدة» على ما يبدو، وموقف سائر التنظيمات المتشددة، هو عدم التعكير على صفو الثورات ووعودها المدنية والديمقراطية والشعبية، عبر المزيد من الصبر ثم القفز بعد ذلك عليها، أو ما يمكن أن نصفه باستراتيجية اندماج ثم «قفز وسرقة لهذه الثورات» بعيداً عن كثير من قواها الفاعلة فيها، وبعيداً عن وعودها المعلنة، ولكن «داعش» التي ظهرت بعد مقتله بسنتين كانت أكثر حسماً ووضوحاً، وإن التقوا في النهاية في الغايات نفسها.
من المدهوني عروة إلى أبو أنس الليبي
يقول بن لادن في يومياته ما نصه أن الانتفاضة «قد فتحت الباب أمام الجهاديين»، وهو يتفهم تخوفات القذافي وما كان يقوله عن فزاعة الإرهاب القادم، التي كان يوجهها وأسرته للغرب فيقول: «هذا هو السبب في أن القذافي وولده يقولان إن المتطرفين سوف يأتون من طريق البحر، الذي سوف يكون منطقة عمليات لتنظيم القاعدة، سوف تتحول ليبيا إلى صومال البحر الأبيض المتوسط».
وكما سبق أن ذكرنا، كان وجود المتطرفين وعناصر «القاعدة» و«المقاتلة» في الثورة ضد القذافي منذ البداية، وهو ما أكدته وثائق بن لادن الأخيرة والعديد من الوثائق السابقة أيضاً، منها ما تم العثور عليه في بيت أسامة بن لادن بعد اجتياحه في مايو (أيار) 2011، وخصوصاً ما كان من رسائل بينه وبين القيادي الليبي المقرب إليه عطية الله الليبي (واسمه الكودي في الوثائق كلها محمود) وبين أسامة بن لادن، حول تطورات الأحداث في ليبيا التي تابعها بشغف، واحتلت الجزء الأكبر من مذكراته وأحاديثه الأسرية، ومنها رسالة مؤرخة بتاريخ 5 جمادى الأولى 1432 هجرية الموافق لـ9 أبريل (نيسان) 2011، ورد من أسامة بن لادن في 22 جمادى الأولى 1432 الموافق لـ26 أبريل 2011 قبل وفاة كليهما بقليل، حيث يأتي فيها تأكيد على دور عبد المنعم مختار المدهوني (ولد سنة 1971 وقتل في مارس سنة 2011) ويكنى بأبي مالك، وعروة الليبي الذي أسس «كتيبة عمر المختار» في بنغازي في فبراير 2011، بعد أن تيسر له السفرُ من إيران إلى ليبيا قبل الثورة بشهر واحد مشاركاً فيها، وتواصل مع بعض عناصر «الجماعة المقاتلة» ليقوم بمهامه هناك، ويتواصل مع عطية الله الليبي نفسه الذي قال عنه في بداية الأحداث: «ونتوقع أن يكون له دور في ليبيا»، وأنه على اتصال وثيق بالقيادي الكبير في تنظيم القاعدة أبو أنس الليبي واسمه الحقيقي نزيه الرقيعي.
تتجلى أهمية ليبيا في رسالة عطية الله الليبي إلى بن لادن التي يقول له فيها عن فرصة «القاعدة» الكبيرة فيها: «بالنسبة لليبيا على وجه الخصوص، فآخر ما جاءنا من الإخوة في ليبيا أنهم بدأوا يرتبون أمورهم، وأن لهم نشاطاً ودوراً هناك والحمد لله. إخوة (الجماعة المقاتلة) الخارجون من السجن وغيرهم وفي الشرق الليبي (بنغازي ودرنة والبيضاء وما قاربها). هناك صحوة إسلامية (جهادية) من زمان ينتظرون مثل هذه الفرصة، ونظن أنه عن قريب سيبدأ يظهر نشاط الإخوة وأسماؤهم وتسجيلاتهم».
بن لادن مع إيران وقطر والقرضاوي
يبدو بن لادن في وثائقه الجديدة براغماتياً، متجاوزاً لقيوده الآيدولوجية التي فرضها على الآخرين، في الولاء والبراء، وفي رفض أي تعاون أو تنسيق مع من يميعون الحقائق الإسلامية، مثل «الإخوان» والقرضاوي كما ذكر أيضاً في يومياته، لكنه يتنازل عن كل ذلك بغية الوصول لأهداف جماعته عبر إسقاط الأنظمة التي يعاديها من الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي إلى الولايات المتحدة والغرب، ولذا كان ترحيبه وتحالفه وتعاونه ودعوته للتنسيق مع أطراف عديدة من «الإخوان» للقرضاوي إلى قطر وقناتها الفضائية إلى إيران ملاذ جماعته الآمن، وممر مقاتليها المستمر لمختلف البلاد والصراعات.
حضرت هذه الدوافع لديه، واتضحت في الحالة الليبية الأكثر أهمية لديه كما وضحنا، فعبر إيران كان دخول كل من نزيه الرقيعي المعروف بأبي أنس الليبي ونزيه الرقيعي المعروف بأبي مالك الليبي إلى ليبيا، وكان تواصل مساعده عطية الله معهما وهما على الأراضي الإيرانية، وهو ما يؤكد تاريخ العلاقة الممتدة قبل عقود من التحالف المشبوه بين «القاعدة» وإيران.
وعبر قطر وقناة «الجزيرة» وصوت رجل الدين يوسف القرضاوي التي تستهدف ما يستهدفه من إسقاط الأنظمة، ورأت في الانتفاضات أو الثورات العربية فرصاً للإسلاميين، وربيعاً إسلاموياً وليس ديمقراطياً كما كانت تراه القوى الشبابية والمدنية الأخرى، يحرص بن لادن في يومياته والوثائق المنشورة مؤخراً على التنسيق، وعلى توظيف هذه الأدوار الذي يدرك بدرجة كبيرة تماهيها وتطابقها مع ما يريد من أهداف، وإن اختلفت الأساليب والتوجهات.
وإلا فماذا أدل على ثقة نظام بن لادن في إمارة قطر من استئمانها على ابنه حمزة، وأنه يراها المكان الأنسب له؟ وهو يعده خليفة له ويراه أمله الذي يراهن عليه في المستقبل، كما ذكر في يومياته.
وماذا أدل على ثقة بن لادن في دور قناة «الجزيرة» التحريضي والمفيد لإسقاط الأنظمة من إقراره بأنها لو دخلت مع «القاعدة» في خلاف، فلن يكون في صالح «القاعدة»، رغم أنه في مواضع كثيرة من نفس اليوميات يؤكد أن «القاعدة» تشكل هاجساً وخطراً على العالم أجمع، ويهتف الجميع من الولايات المتحدة إلى القذافي إلى الصين بالخوف منها! رغم أننا نرى ما قاله زعيم «القاعدة» عن دور قناة «الجزيرة» ليس خوفاً أو خلافاً محتملاً بين الطرفين، ولكنه حث وتوجيه لزملائه على التوظيف المتبادل بينهما، والتقاء أهدافهما، في تغيير وإسقاط الأنظمة.
ولا شك أن زعيم «القاعدة» الراحل كان يعرف الدور القطري الكبير المعادي للعقيد الليبي السابق، بناء على خلافات شخصية بين الطرفين، ورغبة قطر في إسقاطه واستمرار زلزال الانتفاضات العربية وصولاً للخليج بدءاً من البحرين المجاورة، التي لا يرى بن لادن في براغماتية غريبة أيضاً حرجاً من دخول إيران على خطها، أو تغيير مذهبها حال نجاحها، كما يذكر في يومياته.
إن يوميات ومذكراته بن لادن الخاصة التي تبلغ 228 صفحة، المنشورة في الأول من نوفمبر الحالي، تكشف عن جانب خطير من شخصية زعيم «القاعدة» ومؤسسها وهو براغماتيته ومكيافيلية تتجاوز ما كان يربي عليه عناصر شبكته من الولاء والبراء والتكفير للمخالف وغيره من الخطاب النظري والعدائي ضد «الإخوان» وضد قطر أو ضد النظام الإيراني والولي الفقيه عبر بعض أتباعه شأن «كتائب عبد الله عزام» والحكايمة والزرقاوي وغيرهم من منظري «السلفية الجهادية» وقادة فروعها، فهو أمر كان للعموم، أما الخصوص فهو البحث عن إمكانية التنسيق والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة.
من هنا كان التقدير الشديد من قبل زعيم «القاعدة» الراحل لإمارة قطر وحكومتها ودورها، ولقناة «الجزيرة» الفضائية التابعة لها، وكذلك للنظام الإيراني وجماعة «الإخوان»، والتحريض الديني والشعبي في الثورات، طالما كل هذا يفيد ويستفيد منه في الآن نفسه حرباً على العدو القريب من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، أو حرباً على الولايات المتحدة والغرب.



مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟