القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

«الشرق الأوسط» رصدت رحلة صعود التنظيمات الإرهابية... وُلدت عام 2003 وبلغت ذروة قوتها في 2015

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
TT

القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})

رغم تضييق أجهزة الأمن المصرية الخناق على العناصر «الإرهابية»، وقتل العشرات منها أسبوعياً، في محافظة شمال سيناء (300 كيلومتر شمال شرقي القاهرة)، وفقاً لما تذكره البيانات الصحافية للمتحدث العسكري، فإن تلك العناصر تستطيع التحرك والتخفي داخل مدينة العريش (عاصمة الإقليم) وخارجها، لتنفيذ عمليات مسلحة خاطفة، ما يؤدي إلى مقتل أفراد من قوات الجيش والشرطة والمدنيين. كما لم يمنع حظر التجوال المفروض بالمحافظة الساحلية وقوع العمليات الإرهابية المتكررة شكلاً ومضموناً. ورصدت «الشرق الأوسط» جهود السلطات المصرية في مكافحة الإرهاب في شمال سيناء، بجانب تسليط الضوء على مراحل تطور التنظيمات الإرهابية، وطرق تخفيها، وتحركاتها بين القرى والمدن، بجانب تقييم تجربة حرب القبائل السيناوية على تلك التنظيمات المتطرفة، والتي بدأت قبل عامين.
كان شبه جزيرة سيناء، خالٍ تماماً من التنظيمات المتشددة قبل عام 2003، بينما بلغت تلك التنظيمات ذروة قوتها بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي من منصبه في 3 يوليو (تموز) عام 2013، حيث شهدت محافظة شمال سيناء مئات العمليات الدامية بعد هذا التاريخ، وتحولت المنطقة إلى بؤرة ساخنة مليئة بالأحداث.
وأخيراً قتلت العناصر الإرهابية 9 سائقين، بعد إحراق شاحناتهم، بسبب نقلهم مواد إسمنتية من مصنع الإسمنت التابع للقوات المسلحة، وهذا تطور خطير يعكس تمادي تلك التنظيمات في استهداف النشاط الاقتصادي والعمال والمدنيين بشمال سيناء.
وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة وقوع أكثر من 1165 عملية إرهابية، وفق دراسة حديثة قام بإعدادها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وأفادت الدراسة بأن عام 2015، شهد ذروة هذه العمليات، ووقع به أكبر نسبة من عدد العمليات المسلحة، خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأولى منه، فقد وقع في شهر يناير (كانون الثاني) 124 عملية إرهابية، ثم حدث انخفاض طفيف لتصل إلى 105 في شهر فبراير (شباط)، ثم بلغت ذروتها في مارس (آذار) بواقع 125 عملية، بينما انخفض عدد العمليات بشكل تدريجي، واستمر منحنى عدد عمليات العنف في التراجع خلال النصف الأول من عام 2016، ثم ارتفع معدل العمليات خلال الربع الأخير من العام نفسه، حيث بلغ عدد العمليات الإرهابية 104 عمليات.
ويسود محافظة شمال سيناء حالياً، هدوء نسبي وانخفاض ملحوظ في عدد العمليات الإرهابية مقارنةً بالسنوات الماضية، لكن الأجهزة الأمنية، وسكان الإقليم يستيقظون كل فترة على هجمات خاطفة ودامية، يسقط فيها عدد كبير من الجنود والضباط والمدنيين، كان أبرزها عملية السطو المسلح على فرع البنك الأهلي بوسط مدينة العريش، وقتل بعض أفراد الشرطة، وسرقة عدة ملايين من الجنيهات.
ثمة انتقادات وجّهها بعض خبراء الأمن المصريين، إلى الاستراتيجية الأمنية لمكافحة الإرهاب في سيناء، خصوصاً بعد تنفيذ عشرات العمليات بنفس الطريقة والتكتيك، دون الاستفادة من دروس العمليات السابقة والمتكررة. ورغم تعرض بعض الأكمنة الأمنية الثابتة لعشرات الهجمات مثل «حي المساعيد» و«كرم القواديس»، و«الريسة»، فإن استراتيجية التأمين لم تتغير حتى الآن، فضلاً عن استهداف الأكمنة المتحركة بنفس الطريقة، من خلال تفجير المعدات العسكرية الثقيلة بالعبوات الناسفة عن بُعد.
ومع أن معظم هذه الهجمات تعتمد على تنفيذ عمليات انتحارية بالسيارات المفخخة، بجانب زرع عبوات ناسفة وتفجيرها عن بُعد، فإن الإرهابيين يستهدفون عناصر الأمن المصرية في الأكمنة بالأسلحة الثقيلة، مثل «آر. بي. جي»، والقذائف الصاروخية، وحسب الخبراء الأمنيين والسياسيين، فإن تطوير آليات وتكتيكات المواجهة أصبح الخيار الوحيد الذي فرضه الواقع بجميع معطياته، للخروج من هذا المستنقع الذي كبّد شمال سيناء الكثير من الخسائر البشرية والمالية وحوّلها إلى محافظة طاردة للسكان يصعب العيش فيها.
قال العميد إيهاب يوسف، الخبير الأمني ورئيس جمعية صداقة الشرطة والشعب، لـ«الشرق الأوسط»: «في ضوء المعلومات المتاحة من الجهات الحكومية والبيانات الرسمية الصادرة عنها، نستطيع القول: إن أجهزة الأمن حققت نجاحات أمنية عدة، لكنها أقل من المتوقع والمستهدف خلال السنوات الأربع الأخيرة».
وأضاف يوسف قائلاً: «رغم مواجهة العناصر الإرهابية في شمال سيناء بمعدات عسكرية ثقيلة مثل الطائرات والدبابات والعربات المصفحة، فإن الرغبة أو القدرة على سد بعض الثغرات ليست كما يجب». واعتبر يوسف أن «تنفيذ عمليات إرهابية في جنوب سيناء عام 2006، في أثناء وجود (الدولة القوية)، مؤشر دقيق على وجود تنظيمات متشددة في المنطقة خلال السنوات العشرين الماضية، بعدما عادت للظهور بشكل قوى بعد جمعة الغضب عام 2011، لعدم نجاح الأجهزة الأمنية في القضاء عليها تماماً».
وأرجع الخبير الأمني تواصل العمليات الإرهابية في شمال سيناء حتى الآن، وقدرة العناصر المتشددة على التحرك وسط شوارع مدينة العريش بسهولة إلى «إلى فترة اختراق الحدود المصرية، شرقاً مع قطاع غزة، وغرباً مع ليبيا، حيث كانت تدفق الأسلحة من ليبيا عبر بحر الرمال العظيم، في الوقت الذي كانت تتسلل فيه بعض العناصر من قطاع غزة، واجتمعوا في شمال سيناء، مطمع تنظيم داعش الرئيسي في مصر».
وتابع يوسف: «وقائع وتفاصيل عملية البنك الأهلي، وسط مدينة العريش، تثبت أن العناصر الإرهابية في شمال سيناء على مستوى عالٍ من التدريب... خططوا ونفّذوا جيداً، لذلك يجب على الأجهزة الأمنية إعادة النظر في الخطة الموضوعة حالياً، ومراجعتها من أجل التصدي لتلك العناصر، وتنفيذ ضربات استباقية موجعة لهم».
وتسببت العمليات الإرهابية في تهجير عدد كبير من سكان منطقتي رفح المصرية والشيخ زويد، إلى مدينة العريش، بعد استهداف عدد كبير من المدنيين عمداً، وذبحهم في بيوتهم بادعاء التعاون مع القوات الأمنية، بجانب سقوط المدنيين خلال الاشتباكات، واختار السكان المهجّرون مدينة العريش، للإقامة بها بحثاً عن الأمان، وهو ما تحقق لعدة أشهر. لكن بانتقال الإرهابيين إلى العريش، والتمركز فيها أصبحت حياة المهجّرين مهددة مرة أخرى، حيث شهدت مناطق كثيرة بالمدينة وقوع عمليات كبيرة سقط على أثرها عدد كبير من شهداء الجيش والشرطة بجانب مدنيين، حيث تتعرض العمارات السكنية المجاورة للأكمنة الأمنية الثابتة والمتحركة لأضرار بالغة، جراء إطلاق الرصاص والقذائف من قبل العناصر المتشددة.
إبراهيم أحمد، 50 سنة، من مدينة الشيخ زويد، انتقل للعيش في حي المساعيد بمدينة العريش، بعد تردي الأوضاع الأمنية بمسقط رأسه، قبل 3 سنوات، حيث كانت تتمتع العريش بهدوء نسبي. يعلق إبراهيم على الحوادث الإرهابية داخل مدينة العريش قائلاً: «حادث اقتحام وسرقة فرع البنك الأهلي بالعريش استغرق 40 دقيقة فقط، قتلوا خلاله عدداً من أفراد الشرطة والمدنيين، وسرقوا خزينة البنك، وقدِم هؤلاء الإرهابيين إلى البنك في سيارات مدنية متنوعة، وزرعوا ألغاماً حول البنك، لمنع وصول دعم من قوات الشرطة».
وأضاف إبراهيم قائلاً: «عدد الإرهابيين كان يقترب من 30 إرهابياً، وبعد انتهاء سرقة البنك، سطوا على سيارات مواطنين عاديين، وركبوا فيها للتخفي في شوارع المدينة، وتركوها في شوارع مختلفة، ولاذوا بالفرار». وأكد إبراهيم أنهم يجيدون التخفي وسط المدنيين قبل وبعد تنفيذ العمليات، ويظهرون في الشوارع على أنهم أشخاص طبيعيون جداً، تصعب معرفتهم».
في نفس السياق لم يكتفِ تنظيم «بيت المقدس» بمواجهة قوات الجيش والشرطة، بطرق مفاجئة، وغير مباشرة، بل قام أيضاً باستهداف عشرات الأسر من الأقباط العزل بشمال سيناء. كما قام بتفجير عدد كبير من الكنائس بالقاهرة وطنطا والإسكندرية، وأجبر عشرات الأسر المسيحية على الهجرة من شمال سيناء، إلى مدينتي الإسماعيلية والقاهرة، عقب سلسلة من الاعتداءات، وعمليات القتل، والحرق، التي وُصفت بـ«البشعة والإجرامية»، أدت إلى مقتل أكثر من 10 مسيحيين، بينهم اثنان قُتلا حرقاً، والبعض الآخر قُتل ذبحاً بنفس طريقة «داعش» ليبيا وسوريا والعراق. ويعيش في شمال سيناء نحو 400 أسرة مسيحية، وفق تقديرات الكنيسة القبطية.
من جهته، قال الخبير الأمني خالد عكاشة: «إن سبب اختيار عناصر( داعش) شمال سيناء للتمركز به يرجع لبدايات عام 2003، بعد غزو العراق مباشرة، حيث تمددت التنظيمات الإرهابية في سيناء تماشياً مع تمددها في المنطقة، وقامت هذه التنظيمات بتفجيرات دهب وشرم الشيخ عام 2005، ولكن بعد ثورة يناير 2011 توسعت تلك التنظيمات، وساعدها في ذلك الدعم التقني واللوجيستي والفكري للتنظيمات السلفية المتاخمة لها في قطاع غزة، وانتشار تنظيمات أخرى رأت في شمال سيناء متسعاً وبيئة خصبة لها للتمدد مثل (جيش الإسلام، وجند الإسلام، ومجموعة ممتاز دغمش، ومجلس شورى المجاهدين)، وانتشرت فروع لتلك التنظيمات على أرض سيناء بعد وصول الإخوان للحكم، ولكن عقب عزل مرسي والإطاحة بالإخوان توحدت تلك التنظيمات تحت راية تنظيم أنصار بيت المقدس والذي بايع في النهاية (داعش) للحصول على الدعم المالي والعسكري للتنظيم».
وأضاف عكاشة في تصريحات صحافية قائلاً: «إن الطبيعة الديموغرافية لشمال سيناء سهّلت وجود وتمركز التنظيم بالمحافظة فهي مليئة بالسهول والوديان والدروب التي يسهل الاختفاء بها، كما أن أبناء سيناء المنضمين إلى التنظيم أكثر الناس إلماماً بها وبتفاصيلها وبطبيعتها، ويوفر هؤلاء حاضنة سكانية وملاذات آمنة وأغذية للعناصر الإرهابية».
وحسب خبراء الأمن والسياسيين فإن مواجهة الإرهاب تحتاج إلى مواجهة شاملة، وليست أمنية فقط، بجانب الاستعانة بوسائل حديثة، وليس بمعدات ثقيلة يسهل استهدافها، بجانب الحصول على معلومات استخباراتية مهمة، لضرب تلك التنظيمات بشكل استباقي.
أما من الداخل فقد شهدت التنظيمات الإرهابية عدداً من مراحل التطور والتغيير من حيث الاختلاف، والتماسك والتوحد والقوة والضعف، خلال السنوات الست الماضية، وفقاً لما قاله أحمد كامل البحيري، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الذي أضاف لـ«الشرق الأوسط»: «اتسمت الفترة الواقعة بين عامي 2011 و2013، بتنوع وتعدد التنظيمات في شمال سيناء، مثل (كتائب الفرقان، وأكناف بيت المقدس، وأنصار بيت المقدس، وجماعة التوحيد والجهاد، ومعتنقي فكر السلفية الجهادية)، وقامت تلك التنظيمات بتنفيذ عمليات مثل تفجير خط الغاز، ومذبحة رفح الأولى عام 2012، التي تبعها الهجوم على بوابة حدودية إسرائيلية. ووُصفت تلك الفترة بالفوضى الأمنية، بعد انهيار جهاز أمن الدولة المصري، والاعتماد في تأمين الجبهة الداخلية والخارجية على القوات المسلحة».
وأوضح البحيري أنه «في بداية عام 2012 تم الإعلان عن تشكيل تنظيمات (مجلس شورى المجاهدين)، و(التوحيد والجهاد)، و(أنصار بيت المقدس)، وتوحدت كل هذه التنظيمات في نهاية العام في تنظيم واحد قوي، هو تنظيم (أنصار بيت المقدس)، بعدما كانت 7 تنظيمات إرهابية على الأقل. واستطاع (بيت المقدس) استقطاب عدد من أهل سيناء، وقام بتنفيذ مذبحة رفح الثانية، التي سقط فيها 25 جندياً، بعدما وردت إليهم معلومات من بعض معاونيهم بمدينة العريش عن توجه الجنود إلى معسكرهم في رفح، وقيّدوهم، وأطلقوا عليهم الرصاص في الرأس على الطريق الدولي الساحلي».
ولفت إلى «أن نفس التنظيم قام بعمل مواءمة واتفاق مع جماعة الإخوان المسلمين، في أثناء توليها الحكم للإفراج عن جنود كانوا مخطوفين، ولم ينفّذ عمليات كبيرة خلال تلك الفترة، ووُصفت هذه المرحلة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية بمرحلة الهدوء».
المرحلة الثالثة للجماعات الإرهابية، اتسمت بالظهور القوي، وبدأت في أعقاب 30 يونيو (حزيران) 2013، بعد عزل محمد مرسي من منصبه، فقد أعلن تنظيم أنصار بيت المقدس، عن مواجهة قوات الجيش والشرطة في سيناء وخارجها، واستطاع بالفعل تنفيذ تفجير مديريات أمن شمال سيناء، والقاهرة، والدقهلية، وحاول اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، واستهدف عدداً كبيراً من مقرات الشرطة. ووُصفت هذه المرحلة بمرحلة (القوة والنفوذ)، أو بـ«ربيع الإرهابيين في مصر»، وفقاً لما قاله البحيري.
وتابع الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية حديثه عن تطور تلك التنظيمات في شمال سيناء قائلاً: «المرحلة الأخيرة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية في سيناء بدأت منذ أوائل عام 2014 واستمرت حتى الفترة الحالية، بعدما أعلن (بيت المقدس)، عن بيعة تنظيم داعش والولاء له. وعقب البيعة اتخذ تنظيم بيت المقدس أنماطاً وخصائص متنوعة في مواجهة قوات الأمن في شمال سيناء، حتى شهد انقساماً داخلياً ترتب عليه انسحاب هشام عشماوي (ضابط مصري سابق متهم بالإرهاب) لاختلافه مع قيادات التنظيم على بيعة (داعش)، وانتقل تماماً من سيناء إلى الصحراء الغربية وليبيا».
أما مرحلة «دعشنة» التنظيمات الإرهابية في شمال سيناء، فيقول عنها البحيري: «بعد انسحاب عشماوي من تنظيم بيت المقدس، اعتمد التنظيم على عناصر سيناوية وأجنبية في تنفيذ عملياته، وشكّلت نسبة الأجانب به نحو 20 في المائة فقط، كان أغلبهم من الفلسطينيين من قطاع غزة». مشيراً إلى أن «التنظيم كان يعتنق قبل عام 2014 فكر مواجهة العدو البعيد (إسرائيل)، لكن (داعش) يعتمد استراتيجية مواجهة العدو القريب (الجيش، والشرطة، والصوفيين، والأقباط). وقام بتنفيذ عمليات ذبح بشعة لمدنيين أقباط، ومسلمين بتهمة التعاون مع قوات الأمن، بعد تنفيذ محاكمات ميدانية لهم، مثل التي كانت تجري في سوريا والعراق».
ورأى مراقبون أن يوم 11 أغسطس (آب) 2013، كان فرصة تاريخية للتخلص من مئات الإرهابيين من تنظيم «بيت المقدس» دفعة واحدة، في أثناء تشييع جنازة 4 منهم، لقوا مصرعهم إثر قصف جوي، حيث كانوا يتحركون في الشوارع والطرقات بشكل استعراضي رافعين أعلام التنظيم السوداء.
بينما أكد خبراء أمن وجماعات إسلامية، أن ذروة قوة تنظيم «ولاية سيناء» التابع لـ«داعش» كانت في عام 2015، عندما حاول التنظيم السيطرة على منطقتي رفح والشيخ زويد، بنفس الطريقة التي كان يسيطر بها على مناطق الموصل، والرقة، في العراق وسوريا، من خلال تنفيذ أكثر من 15 هجوماً متزامناً على أكمنة القوات المسلحة، لكن بسالة القوات المسلحة حالت دون ذلك، وتم سحقهم بالطائرات، وبذلك فشل مشروعهم السياسي في إقامة دولة لهم في سيناء، ما دفعهم إلى الانتقال إلى الخطة الثانية، وهي الخطة الأمنية (تنفيذ عمليات إرهابية متكررة)، لاستنزاف قوات الجيش والشرطة، وبث الفوضى والخوف.



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.