هواجس الموت تمتزج برغبات التعبير في مهرجان نوتردام اللبناني

يختتم أعماله اليوم بعد أن عرض 42 فيلماً قصيراً

«دانتيل» لبدرو حصروني
«دانتيل» لبدرو حصروني
TT

هواجس الموت تمتزج برغبات التعبير في مهرجان نوتردام اللبناني

«دانتيل» لبدرو حصروني
«دانتيل» لبدرو حصروني

تنتهي مساء اليوم، الأحد، الدورة الحادية عشرة من مهرجان «نوتردام السينمائي الدولي» التي كانت قد بدأت في الرابع من الشهر. وكما هي العادة في كل مكان، يُخصص حفل الختام لتوزيع الجوائز على الفائزين وعرض أفلامهم على من لم يشاهدها بعد أو يرغب في المزيد منها.
42 فيلماً تم عرضها طوال الأيام الفاصلة بين البداية والنهاية على جمهور غالبه من طلاب السينما والجمهور الشبابي الآتي لمؤازرة المخرجين الذين تم عرض أعمالهم. هذا يؤدي إلى مناخ من الحماس العاطفي الذي لا يمكن إلا ربطه بالاستعداد العفوي الذي يُحاذي بعض انفعالات المراهقة.
لكن الجمهور كالأفلام المعروضة، يستطيع الذهاب عمقاً فيما هو مطروح وأقل من ذلك، أحياناً، في كيف يمكن طرحه بإتقان أو بإبداع وتميّز.
من بين الأفلام التي تخفق في تلبية نهاية مناسبة «النزول هو الطريق الجديد للصعود» لكميل كبّاب، حول الرجل الذي ينوي الانتحار بحضور فريق تصوير فيلم. على قِصر مدة الفيلم (13 دقيقة) ليس هناك ما يعكس ضرورة للموضوع، وتأتي النهاية عالقة بين رغبتين أو ثلاث ليس منها ما هو فعّال في تأثيره.
في «95 أوكتين» لفرنسوا يزبك فكرة مسكوبة في إناء أكبر حجماً من المحتوى، مما يؤدي إلى فراغات في الحكاية الواردة ينجح المخرج في توريتها بأسلوب لا يخلو من بعض التجريب والترميز. وفي «شادي وزوبا» لنادر حرب تسجيل لحياة رجل يعمل ميكانيكي سيارات لكنه لا يملك منزلاً يأوي إليه سوى سيارته الصغيرة التي زوّد صندوقها الخلفي لا بأدوات العمل فقط بل بأدوات الطبخ، كونه يعيش في البرية. بعد قليل سيروي حكاية غير مقنعة عن كيف كسر ساقه، وهو أقل إقناعاً عندما يبكي لاشتياقه لأولاده.
ربما الفيلم أقرب إلى حالة اكتشاف لرجل مهمّش، لكن التصوير سريع ولا توجد فيه مشاهد تثري العمل على أي مستوى فعلي، فنياً أو أسلوبياً.
- إعجاب ونقد
«خذ يدي» لسيرج مجدلاني هو من الأعمال الأفضل، بل أحد أحسن ما تم تقديمه خلال أيام هذه الدورة. إنه عن شاب يهرع مع سكان بناية للاختباء من قصف غير معروف المصدر والفاعل. في غرفة تحتية يلحظ خوف فتاة صغيرة فيستعير دميتها الممزقة ويستخدمها كدمية ناطقة يحكي عبرها حكايات تبعث الابتسامة على محيّا الفتاة ثم يبدأ بالغناء، ما ينشر جواً من الثقة والألفة بين الرجال والنساء المتشاركين في هذا المكان.
بهذا الإنجاز يبدأ الممثل الشاب سيره نحو باب الخروج، ووراءه (كما في «الناي السحري» لموتزار) القابعون في الملجأ. هو يقود الجميع بغنائه صوب فضاء وردي. على تعدد المفادات في النهاية، فإن المعنى الأقرب إلى التجسيد هو أن السلام ينتصر على الحرب وأن هناك في فضاء الغد مستقبلاً أفضل ينتظر من يقودنا إليه.
بذات القوّة فيلم «دنتيل» لبدرو حصروني حول بائعة الورد في محل في بلدة جبلية لبنانية تعيش مع ورودها حالة وئام نفسي في الوقت الذي تحنو فيه لحب يدقّ باب حياتها. إحاطة المخرج بالمكان وطريقته بتصوير الفيلم بلون وردي يشمل الملابس ونسيج الصورة كما تجسيد الرقة المتمثلة في الموضوع برقة مماثلة في التنفيذ ما يكفي لجعل هذا الفيلم العمل الذي يستحق إحدى الجوائز المنتظرة.
على أن المسألة تتجاوز ما هو مثير للإعجاب وما هو مثير للنقد. فبينما يجد بعض المخرجين المعالجة المناسبة لما يتطرقون إليه، تستقر الموضوعات الأخرى على معالجات بدهية ونمطية وبعضها كسول في بحثه عن جمال الجهد المناسب للعمل.
التناسب بين المضمون والشكل الذي عليه أن يعبّر عنه (ويدافع عنه أيضاً) نراه، عدا الفيلمين المذكورين أعلاه، في «المجتمع»، فيلم تسجيلي تم تصويره في الهند لكريستوفر الدبس، حول تلك الجماعة من الرجال والنساء الذين وجدوا الوئام بتأسيس مجتمع صغير هم أعضاؤه يعيشون حياة كانت، قبل عقود، توصف بالهيبية. الآن لا تزال طالبة بحث وجداني وسلام. ليس أن الفيلم جدير مطلق بالإعجاب كرسالة أو كمعالجة فنية. في الناحية الأولى هو موضوع تتقبله أو تنفذه، وفي الثانية هو قائم على بضع مقابلات تفصلها حركة كاميرا سريعة ومونتاج يشبه ذلك الذي تستخدمه الإعلانات المؤفلمة لتحفيز المشاهد التلفزيوني على شراء سيارات سريعة بتسريع العرض. لكن -على الأقل- هناك تناغم ما بين الموضوع ومعالجته يشفع لما قام به المخرج الدبس من جهد.
- الموت في الميزان
إلى كل ذلك، تكشف الأفلام المعروضة عن هواجس معينة ترفع بعضها إلى مستوى النقاش، بينما يبقى البعض الآخر منها دون خط ما تطرحه.
هناك عطش واضح لمعالجة موضوعات عاطفية تخص المرأة وتتضمن، فيما تتضمن، التعبير عن وحدة المرأة للحب. في بعض الأفلام، إن لم يكن في معظمها، يأتي المشهد أقرب إلى حب استغلاله فقط. شيء مثل اكتشاف أن هناك نافذة لم تُفتح بعد يدلف منها الفيلم إلى نفس المرأة أو هكذا يتبدّى له.
هذا معبَّر عنه في مشهد مبكر من «كلمات وأضواء» لكارِل ملكون (استعرضناه في التقرير الأول) كما في فيلم عُرض في اليوم الثاني من المهرجان بعنوان «مجدولات» (Braids) لماريا غفاري.
هنا، ولجانب مشهد يأتي باكراً أيضاً، هناك هاجس الوحدة العاطفية معبّر عنه جيداً عبر حكاية أم (جوليان فرحات) وأمها (كرستين شويري) يملكان ويديران فندقاً. إليه، ذات يوم يأتي شاب (ريمي عقل) ويُغوي كل منهما على حدة. النهاية هنا، هي من تلك النهايات المفتوحة، ولو أنها تقترح أن الأم قتلت الشاب وعادت الحياة إلى طبيعتها المنعزلة.
في بعض الأفلام هواجس الموت كما الحال في «النزول هو الطريق الجديد للصعود» حول الرجل الذي يريد الإقدام على الانتحار ولو أنه لا يعرف سبباً كافياً (ولم يمنحه الفيلم سبباً من عنده أيضاً). يشمل الموت كذلك «280 كيلومتر» عند نهايته وفيلم «حاجز» لسارا حسون حول جنديين فاسدين يتم تفجير حاجزهما لتمرير الخضار من دون دفع الرشوة المعتادة.
هذا الفيلم هو واحد من تلك التي لا تعرف كيف تربط بين الموضوع وبين الشكل. صياغته جادة وغير هزلية بينما الموضوع المتمثل، والأداء والحوار، يُقصد به أن يكون ساخراً.
في المقابل، نجد «أربعة عشر» لإلياس فريفر، ينوي الحديث عن مأساة امرأة في سجن تريد أن تنجب لكنها تعاني أساساً من شيزوفرنيا تحوّلها إلى ضحية ذاتها. كل هذا يقع في سجنٍ ما، ليس سهلاً على المشاهد ربط مكانه بالموضوع ونتاجاته.
- طريق مسدود؟
على نحو أفضل جاء «الخروج من البحر كالسمكة» (Fishing Out of the Sea) لهالا الكوش، حول كاتبة مصابة بحالة من عدم القدرة على الإبداع. وهذا ما يقودها إلى خضم من المشاعر المتباينة، خصوصاً عندما تدلف إلى ذكرياتها. جمالياً وسوريالياً مشبع وأفضل من فيلم آخر حول كاتبة أخرى لديها ذات الحالة ترد في «في الوقت لصنع فيلم» لماريا زلوم.
من ناحيتها تطل كلارا عطا الله إلى عالم مختلف تماماً (وهذه ميزته الأساسية) في The Creator حول رجل لديه محل دُمى يجذب إليه الأطفال بدعوى إصلاح ألعابهم أو بجذبهم ببالون ملون. لا نرى ما يحدث بعد ذلك، إذ تترك المخرجة الموضوع مموهاً لكنها تبرز ناحية شبه مهجورة في موضوعات أفلام اليوم وعبر طريقة تشويق معنيّ بتفاصيل حياكتها.
يوحي ما سبق أيضاً بعدد طاغٍ من المخرجات الموهوبات اللواتي يأملن بتحقيق الأفلام مستقبلاً، ومن ناحية نظرية غالباً تتوجه المخرجات صوب موضوعاتهن برغبة في الاستكشاف، بينما يميل المخرجون الذكور إلى تأكيد وجهات نظرهم، لكن هذا على نحو مبدئي غير قاطع.
طبعاً ليس كل المشتركين هنا سيستطيعون الاستمرار، ونسبة أقل عن 50% من الذين قدموا أفلامهم في الدورات الماضية أكملوا طريق السينما. وهذا مردّه أن المهرجان لا يموّل. قد يوفر معدات لكن التمويل سيبقى المهمّة الأشق على الطالب.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)