أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

فاز بالرئاسة في انتخابات متنازع على صدقيتها

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»
TT

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

وصف بعض المراقبين في كينيا الجيل الأكبر سناً من السياسيين، وعلى رأسهم رايلا أودينغا (72 سنة) بأنهم قادمون من المرحلة التناظرية (ANALOGUE) إلى المرحلة الرقمية (DIGITAL)، ما قد يخلق لهم «صعوبات جمة» في التعامل مع الأجيال الشابة الجديدة. وبالتالي، أطلقت الصحافة على منافسه أوهورو كينياتا الذي فاز أخيراً - كما كان متوقعاً بعد انسحاب أقوى منافسيه وتشكيكهم بنزاهة الانتخابات - لقب «الرئيس الرقمي» (DIGITAL PRESIDENT).
يتمتع الرئيس الكيني المنتخب أوهورو كينياتا، بصفات تلقى قبولاً بين الناس، والشباب على وجه الخصوص، فهو «رجل حلو الحديث، وودود، يختار كلماته بعناية، ومتواضع، وماكر في الوقت ذاته». يقول مؤيدوه إن شعبيته نتجت عن كونه «كسر سياج الغموض» الذي ينسجه الرؤساء حولهم عادة.
في الحقيقة، يتحدر الرئيس الكيني من عائلة سياسية عريقة وثرية، فوالده جومو كينياتا هو أحد رموز حركة التحرر الأفريقية، وأول رئيس لكينيا بعد استقلالها عن الاستعمار البريطاني عام 1963. ولقد ولد أوهورو - وتعني هذه الكلمة «الحرية» باللغة السواحلية - يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1961 في العاصمة الكينية نيروبي، وتلقى تعليمه الأولي في أفضل مدارس بلاده. ثم درس العلوم السياسية وتخرّج في كلية أمهرست، بولاية ماساتشوتس الأميركية، وهي من أعرق جامعات أميركا وأرقاها.

البدايات العملية
قبل توجه أوهورو كينياتا إلى الولايات المتحدة للدراسة عمل موظفاً في أحد البنوك. وبعد عودته أسس شركة «ويلهام» للمنتجات الزراعية، ثم تولى رئاسة هيئة السياحة في 1999. بعد ذلك اقتحم حلبة السياسة عندما انتخب نائباً للبرلمان 2001، ثم عيّن وزيراً للشؤون المحلية، ثم وزيراً للاقتصاد ونائباً لرئيس الوزراء في الفترة من 2008 إلى 2013. ثم ترأس حزب «كانو» (اتحاد كينيا الوطني الأفريقي)، وتزعم «تحالف اليوبيل» (جوبيلي).
وفي ضوء ما تقدّم يتضح أن أوهورو ولج عالم السياسة متأخراً نسبياً، وذلك على الرغم من أن أبيه كان أول رئيس لكينيا. وكان الرئيس دانيال أراب - موي، نائب كينياتا الأب وخلفه، هو من فتح بوابات العمل السياسي لكينياتا الابن. وسرعان ما تولى أوهورو إدارة رئاسة فرع «كانو» في مسقط رأس أبيه 1997، ثم أصبح واحداً من 4 نواب لرئيسه.
بعد ذلك، حظي أوهورو بدعم الرئيس موي ترشّحه للانتخابات الرئاسية 2002، إلا أنه خسر أمام مواي كيباكي، الذي غدا ثالث رؤساء كينيا، وهو مثل أسرة كينياتا ينتمي إلى الكيكويو أكبر المكوّنات القبلية في البلاد. وفي عام 2005 انتخب أوهورو رئيساً لحزب «كانو»، قبل الإطاحة به من رئاسة الحزب، بيد أن المحكمة العليا أبطلت قرار إطاحته إثر احتجاجات ضخمة من مؤيديه.
ومجدداً ترشح أوهورو لانتخابات 2007، لكنه سحب ترشيحه لصالح الرئيس كيباكي ضد منافسه رايلا أودينغا، وكوفئ من ثم بتعيينه نائباً لرئيس الوزراء وولّي وزارة المالية في «حكومة الوساطة الدولية»، وذلك في أعقاب منح كيباكي رئاسة الجمهورية ومنافسه أودينغا (من قبيلة اللوو) رئاسة الوزارة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصراع بين كينياتا وأودينغا انتقل إلى الجيل الثاني، ذلك أن أوغينغا أودينغا - والد رايلا - كان في مرحلة ما بعد الاستقلال نائباً لرئيس الجمهورية جومو كينياتا - والد أوهورو - قبل أن يدب بينهما الخلاف السياسي ويتعمّق بشدة، ثم ينتقل إلى ولديهما.

المتهم... ثم الرئيس
اتهم أوهورو كينياتا، لاحقاً، من قبل المحكمة الجنائية الدولية بالتورط في تأجيج أعمال عنف، ومعه عدد من المسؤولين بينهم نائبه ويليام روتو، وذلك بعد اندلاع أحداث عنف دامية ذات طابع قبلي لازمت انتخابات عام 2007، إلا أن المحكمة برأته، بعد مثوله أمامها في 2014، وهو في سدة الرئاسة. ذلك أنه انتخب رئيساً في انتخابات 2013 ليغدو رابع رئيس كيني منذ الاستقلال. ويوم 8 أغسطس (آب) 2017، ترشح لإعادة انتخابه عن «تحالف اليوبيل». لكن إعلان النتائج الأولية الذي أظهر تقدمه على منافسه اللدود ورئيس الوزراء السابق رايلا أودينغا، تسبب في إثارة أعمال شغب، لا سيما في ضوء اتهامات من المعارضة بتزوير النتائج والتلاعب بنتائجها.
وبالفعل، ألغت المحكمة العليا الكينية مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي نتيجة الانتخابات الرئاسية تلك، وقال رئيسها ديفيد مارانغا صراحة: «إعلان فوز كينياتا باطل ولاغٍ»، ما يعني إعادتها في غضون 60 يوماً.
وبرّرت المحكمة قرارها، الذي يُعدّ سابقة أفريقية، بإلقاء اللوم على لجنة تنظيم الانتخابات، مقابل تبرئتها المتنافسين. إذ وصفت العملية الانتخابية بأنها كانت «غير شفافة ونتائجها غير قابلة للتثبت منها»، لكن كينياتا أعلن امتثاله لحكم القضاء.
ويوم 30 أكتوبر 2017، أعلنت لجنة الانتخابات الكينية فوز أوهورو كينياتا في الانتخابات التي أعيدت في 26 سبتمبر، بنسبة 98.2 من أصوات الناخبين. ولكن تقارير صحافية نقلت عن رئيس اللجنة وافولا تشيبوكاتي، قوله إن نسبة الإقبال على الاقتراع كانت في حدود 38.8 في المائة فقط من 19.6 مليون شخص يحق لهم التصويت، وهي نسبة تقل كثيراً عن نسبة الاقتراع الملغي البالغة 79 في المائة. ولقد حصل كينياتا على 7.4 مليون صوت، مقابل 73 ألف صوت فقط لمنافسه المنسحب رسمياً أودينغا، ما عُدّ مؤشراً قوياً على نجاح المقاطعة التي دعت لها المعارضة بزعامة أودينغا.
في أي حال، قال أوهورو كينياتا في كلمة لأنصاره، نشرت على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، عقب إعلان فوزه بالرئاسة للمرة الثانية: «المحكمة لم تحقق في أرقام الفوز... وهي لم تشكك بانتصاري، إنها مفارقة سياسية». ثم أضاف: «كان الخيار بالنسبة لي هو مقاومة هذه المفارقة، أو الإصرار على انتصاري الصحيح، أو أن أستأنف الحكم. كان هذا هو القرار الأكثر صعوبة والألم الذي يمكن أن يقدمه السياسي». وأوضح الرئيس المنتخب، بالتالي، أنه بعد تفكير وتأمل انتبه إلى أن القانون «أكبر منه»، وأنه التعبير المباشر عن الإرادة العامة للشعب، وأضاف: «لهذا قدمت نفسي إلى الإرادة العامة للجميع كما عبّر عنها دستورنا للمرة الثانية».

العنف «الإثني» المتجدّد
ما يستحق الإشارة، أنه شابت الانتخابات الماضية أيضاً، بدورتيها، أعمال شغب وعنف، وقتل خلالها 12 شخصاً على الأقل عقب الإعلان الأول عن فوز كينياتا، لكن الشرطة ذكرت أن معظم القتلى لقوا حتفهم برصاصها أثناء عمليات لمكافحة النهب. وللعلم، كان رايلا أودينغا، زعيم المعارضة، قد دعا مؤيديه في الجولة الانتخابية المعادة لإعلان العصيان المدني رداً على رفض المحكمة العليا تأجيل الانتخابات وفقاً لطلبه. فاندلعت اشتباكات نتج عنها إصابة مواطنين برصاص الشرطة في محيط مدينة كيسومو، في أقصى غرب البلاد.
ووفقاً لدراسة للباحثة كوثر مبارك بعنوان «تأثير الإثنية على العنف الانتخابي في كينيا، دراسة حالة الانتخابات الرئاسية 2007 - 2013»، ترجع جذور «العنف الانتخابي» في كينيا إلى أول انتخابات رئاسية شهدتها البلاد قبيل الاستقلال عام 1964. ووفقاً للباحثة مبارك، فإن التاريخ الانتخابي الكيني ظل يشهد عنفاً انتخابياً سابقاً ولاحقاً للانتخابات، لكنه ظل في حدود السيطرة حتى انتخابات 2007. هذا المفصل حمل لكينيا موجة عنف لاحقة كبيرة قتل خلالها أكثر من 1000 شخص وتشرد بسببها 600 ألف شخص، وجعل منها علامة فارقة في سيرة العنف السياسي بالبلاد.
تشرح مبارك أن أول انتخابات برلمانية في كينيا أجريت عام 1963. وفيها نال «كانو» الغالبية بزعامة كينياتا الأب، ومنذ ذلك الوقت ظل «كانو» يستأثر بالسلطة دون منافس تقريباً حتى عام 1991، حين ألغي نظام الحزب الواحد. وفي عام 2002 فاز بالانتخابات الرئاسية بغالبية ساحقة مواي كيباكي ممثلاً لما عُرف بأحزاب ائتلاف «قوس قزح». وهكذا انتقلت له السلطة سلمياً، لكن لم يدم الأمر طويلاً إذ شهدت البلاد أعمال عنف في انتخابات 2007.
لقد خاض انتخابات 2007 نحو 87 حزباً، لكن التنافس الجدي انحصر بين تحالف «الوحدة الوطنية» (يضم 7 أحزاب) بزعامة الرئيس المنتهية ولايته كيباكي، بينما تزعم أودينغا تحالف «الحركة الديمقراطية البرتقالية». ومن ثم، تفجر النزاع القبلي الشديد بين «الكيكويو» بزعامة كيباكي، و«اللوو» بزعامة أودينغا الذي أفلح من جانبه، في بناء تحالف مع زعماء غرب البلاد وقبائل الكالينجين (ينتمي إليهم الرئيس الأسبق دانيال أراب - موي) والزعماء المسلمين على الساحل، وكبرى مدنه مُمباسا.
وأسهم الخطاب السياسي العنيف، في رفع وتيرة الاحتقان السياسي والاجتماعي، ومكّن نجاح أودينغا - المحسوب على يسار الوسط - في عقد تحالفات انتخابية من تعبئة الجماهير لصالحه، فحقق تقدماً لافتاً في الانتخابات. وتقول التقارير إن النتائج الأولية كانت لصالح أودينغا بفارق يزيد على المليون شخص. بيد أن النتائج النهائية للانتخابات جاءت عكس التوقعات، ما أدى لتأخر إعلان النتيجة النهائية، وسرعان ما سرت موجة من الإشاعات والتوتر في البلاد. ومع بداية الحملات الانتخابية قتل 3 من مؤيدي «الحركة الديمقراطية البرتقالية»، واندلعت أعمال عنف وشغب أدت إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا، وتشريد أسر كثيرة.
انتخابات 2007 التي شهدت أعمال عنف استثنائية، جرت في أجواء مشحونة بالعداء والصراع القبلي بسبب سيطرة الكيكويو على الحكم والسلطة، ما أدى إلى انقسام حاد في المجتمع ومؤسسات الدولة والإعلام، انقسمت معه البلاد إلى فريقين تعزّزهما النوازع القبلية الإثنية؛ الأول حكومي، والثاني في المعارضة. إذ حين أعلن فوز كيباكي اعترض أودينغا، ولا سيما أن النتيجة النهائية خالفت التوقعات والنتائج الأولية، وفوراً اندلعت أعمال عنف قبلي وإثني ضد الكيكويو. وتصاعدت أعمال الشغب والقتل والقمع من قبل قوات الأمن، ما أدى إلى مقتل أكثر من 1200، ونزوح أكثر من 300 ألف شخص من مناطقهم.
وانعكس الصراع صراعاً سياسياً بين ائتلاف الحزب الرئاسي (حزب الوحدة الوطني) وائتلاف المعارضة «الحركة الديمقراطية البرتقالية». وفي نهاية المطاف، أفلحت تدخلات دولية وإقليمية ومن الأمم المتحدة على عهد أمينها العام كوفي عنان، في مساعدة الأفرقاء على الوصول إلى «إطار مشترك» وإيجاد حل سلمي للعنف، فيما عُرف بـ«الحوار الوطني والمصالحة» نتجت عنه صيغة تقاسم السلطة.

إصلاحات وتعديلات دستورية
عام 2010، قبل خامس انتخابات تعددية كينية 2013، أجريت بعض الإصلاحات والتعديلات الدستورية، ما أسهم في ارتفاع الإقبال على الاقتراع في تلك الانتخابات تنافس 8 مرشحين، يقف خلف كل واحد منهم «ائتلاف حزبي» بخلفيات قبلية واقتصادية تسعى لتأمين مصالحها. وانتهت انتخابات 2013 من دون عنف يذكر، واستطاع أوهورو كينياتا السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، على الرغم من المعارضة الدولية التي وجدها، باعتباره مطلوباً من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
المحللون يرون أن مثول كينياتا أمام محكمة الجنايات الدولية وهو على سدة الحكم، وقبوله بإعادة الانتخابات واحترامه لقرار المحكمة العليا في بلاده، يتضمن رسائل كثيرة للقادة الأفارقة. إذ رأى الكاتب والصحافي السوداني فيصل الباقر، في مقال نشر قبل إعلان النتيجة، أن قرار القضاء الكيني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها مرة أخرى، يعد «فتحاً جديداً في تاريخ القارّة الأفريقية»، بل «الأول من نوعه أفريقياً، والثالث عالمياً». وأوضح أن قرار القضاء الكيني التاريخي انتقل ببلدان القارة إلى «عصر جديد، في علاقة السلطات الثلاث» بين «التنظير» الذي يقر نظرياً «مبدأ فصل السلطات» و«الممارسة». ورأى الباقر في التجربة الكينية إرهاصاً ببزوغ «شمس الديمقراطية الحقّة» في أفريقيا، داعياً القادة الأفارقة للتعلم من «التجربة الكينية».
في المقابل، لئن كان كينياتا قد «ضرب مثالاً» غير معهود لاحترام مبدأ فصل السلطات بين قادة القارة السمراء، فإن هذا التحدي ليس الوحيد الذي يواجهه، ذلك أن الفساد يمثل تحدياً آخر بحاجة لقلب رجل ذهب إلى «لاهاي»، رغم ضجيج القادة الأفارقة الآخرين. وحفاظاً على صورته، فإن الرجل مطالب بالبدء بنفسه، لمعالجة «المرض الأفريقي» المعروف بـ«الفساد»، ينتصر عليه، أو يقود ضده معركة شرسة.
وهنا تنقل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن عضو في حملة مكافحة الفساد الكينية، قوله: «إدارة كينياتا تعدّ الأكثر فساداً في تاريخ كينيا». وعلى الرغم من أن القول يبدو «متحاملاً» في ظاهره، فإن منظمة الشفافية الدولية تؤكده، حين تصنف كينيا في أعلى سلم الفساد، وأنها تقع في المركز 145 من بين أصل 176 بلداً عن مؤشرها لتصورات الفساد عام 2016.
ويتابع المصدر نفسه: «الفساد ازداد سوءاً في ظل إدارة الرئيس كينياتا»، موضحاً: «عدم كفاءة وكالات مكافحة الفساد وعدم فاعليتها، هي سبب هذا التصنيف المدني لكينيا... والفشل في معاقبة الأفراد المتورّطين في الكسب غير المشروع، كان عقبة رئيسية».
من جانبه، يعترف كينياتا بفشل محاولاته لمكافحة الفساد، لكنه شن هجمة مضادة وحمّل المسؤولية عن هذا الفشل إلى «المحاكم» و«وكالة مكافحة الفساد»، قائلاً إنها أجهضت جهوده لأن إجراءاتها «بطيئة». وكان كينياتا قد أقال في 2015 خمسة وزراء ومسؤولين رفيعي المستوى بشأن مزاعم الفساد، فيما دفع وزير سادس لتقديم استقالته بسبب الضغط العام. فهل يفلح الرجل الذي تصنفه مجلة «فوربز» الأميركية بين أغنى 26 شخصاً في أفريقيا، بثروة تقدر بنحو 500 مليون دولار، وتمتلك عائلته وسائل إعلام بينها قناة تلفزيونية وصحيفة يومية ومحطات إذاعية... في ضرب النموذج مرة أخرى، أم تصبح «العائلة والقبيلة» حصينة أمام حربه المعلنة ضد الفساد؟
وفي هذا الشأن، رغم عدم إعلان ضلوع أي من أفراد أسرة كينياتا في قضايا فساد، فإنهم يملكون أعمالاً ضخمة، ويستثمرون في قطاعات البنوك، والبناء والتشييد، والألبان، والتأمين، والسياحة، وتحتكر مساحات واسعة من الأراضي حول الوادي المتصدع والمناطق الوسطى والساحلية في كينيا.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.