أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

فاز بالرئاسة في انتخابات متنازع على صدقيتها

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»
TT

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

وصف بعض المراقبين في كينيا الجيل الأكبر سناً من السياسيين، وعلى رأسهم رايلا أودينغا (72 سنة) بأنهم قادمون من المرحلة التناظرية (ANALOGUE) إلى المرحلة الرقمية (DIGITAL)، ما قد يخلق لهم «صعوبات جمة» في التعامل مع الأجيال الشابة الجديدة. وبالتالي، أطلقت الصحافة على منافسه أوهورو كينياتا الذي فاز أخيراً - كما كان متوقعاً بعد انسحاب أقوى منافسيه وتشكيكهم بنزاهة الانتخابات - لقب «الرئيس الرقمي» (DIGITAL PRESIDENT).
يتمتع الرئيس الكيني المنتخب أوهورو كينياتا، بصفات تلقى قبولاً بين الناس، والشباب على وجه الخصوص، فهو «رجل حلو الحديث، وودود، يختار كلماته بعناية، ومتواضع، وماكر في الوقت ذاته». يقول مؤيدوه إن شعبيته نتجت عن كونه «كسر سياج الغموض» الذي ينسجه الرؤساء حولهم عادة.
في الحقيقة، يتحدر الرئيس الكيني من عائلة سياسية عريقة وثرية، فوالده جومو كينياتا هو أحد رموز حركة التحرر الأفريقية، وأول رئيس لكينيا بعد استقلالها عن الاستعمار البريطاني عام 1963. ولقد ولد أوهورو - وتعني هذه الكلمة «الحرية» باللغة السواحلية - يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1961 في العاصمة الكينية نيروبي، وتلقى تعليمه الأولي في أفضل مدارس بلاده. ثم درس العلوم السياسية وتخرّج في كلية أمهرست، بولاية ماساتشوتس الأميركية، وهي من أعرق جامعات أميركا وأرقاها.

البدايات العملية
قبل توجه أوهورو كينياتا إلى الولايات المتحدة للدراسة عمل موظفاً في أحد البنوك. وبعد عودته أسس شركة «ويلهام» للمنتجات الزراعية، ثم تولى رئاسة هيئة السياحة في 1999. بعد ذلك اقتحم حلبة السياسة عندما انتخب نائباً للبرلمان 2001، ثم عيّن وزيراً للشؤون المحلية، ثم وزيراً للاقتصاد ونائباً لرئيس الوزراء في الفترة من 2008 إلى 2013. ثم ترأس حزب «كانو» (اتحاد كينيا الوطني الأفريقي)، وتزعم «تحالف اليوبيل» (جوبيلي).
وفي ضوء ما تقدّم يتضح أن أوهورو ولج عالم السياسة متأخراً نسبياً، وذلك على الرغم من أن أبيه كان أول رئيس لكينيا. وكان الرئيس دانيال أراب - موي، نائب كينياتا الأب وخلفه، هو من فتح بوابات العمل السياسي لكينياتا الابن. وسرعان ما تولى أوهورو إدارة رئاسة فرع «كانو» في مسقط رأس أبيه 1997، ثم أصبح واحداً من 4 نواب لرئيسه.
بعد ذلك، حظي أوهورو بدعم الرئيس موي ترشّحه للانتخابات الرئاسية 2002، إلا أنه خسر أمام مواي كيباكي، الذي غدا ثالث رؤساء كينيا، وهو مثل أسرة كينياتا ينتمي إلى الكيكويو أكبر المكوّنات القبلية في البلاد. وفي عام 2005 انتخب أوهورو رئيساً لحزب «كانو»، قبل الإطاحة به من رئاسة الحزب، بيد أن المحكمة العليا أبطلت قرار إطاحته إثر احتجاجات ضخمة من مؤيديه.
ومجدداً ترشح أوهورو لانتخابات 2007، لكنه سحب ترشيحه لصالح الرئيس كيباكي ضد منافسه رايلا أودينغا، وكوفئ من ثم بتعيينه نائباً لرئيس الوزراء وولّي وزارة المالية في «حكومة الوساطة الدولية»، وذلك في أعقاب منح كيباكي رئاسة الجمهورية ومنافسه أودينغا (من قبيلة اللوو) رئاسة الوزارة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصراع بين كينياتا وأودينغا انتقل إلى الجيل الثاني، ذلك أن أوغينغا أودينغا - والد رايلا - كان في مرحلة ما بعد الاستقلال نائباً لرئيس الجمهورية جومو كينياتا - والد أوهورو - قبل أن يدب بينهما الخلاف السياسي ويتعمّق بشدة، ثم ينتقل إلى ولديهما.

المتهم... ثم الرئيس
اتهم أوهورو كينياتا، لاحقاً، من قبل المحكمة الجنائية الدولية بالتورط في تأجيج أعمال عنف، ومعه عدد من المسؤولين بينهم نائبه ويليام روتو، وذلك بعد اندلاع أحداث عنف دامية ذات طابع قبلي لازمت انتخابات عام 2007، إلا أن المحكمة برأته، بعد مثوله أمامها في 2014، وهو في سدة الرئاسة. ذلك أنه انتخب رئيساً في انتخابات 2013 ليغدو رابع رئيس كيني منذ الاستقلال. ويوم 8 أغسطس (آب) 2017، ترشح لإعادة انتخابه عن «تحالف اليوبيل». لكن إعلان النتائج الأولية الذي أظهر تقدمه على منافسه اللدود ورئيس الوزراء السابق رايلا أودينغا، تسبب في إثارة أعمال شغب، لا سيما في ضوء اتهامات من المعارضة بتزوير النتائج والتلاعب بنتائجها.
وبالفعل، ألغت المحكمة العليا الكينية مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي نتيجة الانتخابات الرئاسية تلك، وقال رئيسها ديفيد مارانغا صراحة: «إعلان فوز كينياتا باطل ولاغٍ»، ما يعني إعادتها في غضون 60 يوماً.
وبرّرت المحكمة قرارها، الذي يُعدّ سابقة أفريقية، بإلقاء اللوم على لجنة تنظيم الانتخابات، مقابل تبرئتها المتنافسين. إذ وصفت العملية الانتخابية بأنها كانت «غير شفافة ونتائجها غير قابلة للتثبت منها»، لكن كينياتا أعلن امتثاله لحكم القضاء.
ويوم 30 أكتوبر 2017، أعلنت لجنة الانتخابات الكينية فوز أوهورو كينياتا في الانتخابات التي أعيدت في 26 سبتمبر، بنسبة 98.2 من أصوات الناخبين. ولكن تقارير صحافية نقلت عن رئيس اللجنة وافولا تشيبوكاتي، قوله إن نسبة الإقبال على الاقتراع كانت في حدود 38.8 في المائة فقط من 19.6 مليون شخص يحق لهم التصويت، وهي نسبة تقل كثيراً عن نسبة الاقتراع الملغي البالغة 79 في المائة. ولقد حصل كينياتا على 7.4 مليون صوت، مقابل 73 ألف صوت فقط لمنافسه المنسحب رسمياً أودينغا، ما عُدّ مؤشراً قوياً على نجاح المقاطعة التي دعت لها المعارضة بزعامة أودينغا.
في أي حال، قال أوهورو كينياتا في كلمة لأنصاره، نشرت على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، عقب إعلان فوزه بالرئاسة للمرة الثانية: «المحكمة لم تحقق في أرقام الفوز... وهي لم تشكك بانتصاري، إنها مفارقة سياسية». ثم أضاف: «كان الخيار بالنسبة لي هو مقاومة هذه المفارقة، أو الإصرار على انتصاري الصحيح، أو أن أستأنف الحكم. كان هذا هو القرار الأكثر صعوبة والألم الذي يمكن أن يقدمه السياسي». وأوضح الرئيس المنتخب، بالتالي، أنه بعد تفكير وتأمل انتبه إلى أن القانون «أكبر منه»، وأنه التعبير المباشر عن الإرادة العامة للشعب، وأضاف: «لهذا قدمت نفسي إلى الإرادة العامة للجميع كما عبّر عنها دستورنا للمرة الثانية».

العنف «الإثني» المتجدّد
ما يستحق الإشارة، أنه شابت الانتخابات الماضية أيضاً، بدورتيها، أعمال شغب وعنف، وقتل خلالها 12 شخصاً على الأقل عقب الإعلان الأول عن فوز كينياتا، لكن الشرطة ذكرت أن معظم القتلى لقوا حتفهم برصاصها أثناء عمليات لمكافحة النهب. وللعلم، كان رايلا أودينغا، زعيم المعارضة، قد دعا مؤيديه في الجولة الانتخابية المعادة لإعلان العصيان المدني رداً على رفض المحكمة العليا تأجيل الانتخابات وفقاً لطلبه. فاندلعت اشتباكات نتج عنها إصابة مواطنين برصاص الشرطة في محيط مدينة كيسومو، في أقصى غرب البلاد.
ووفقاً لدراسة للباحثة كوثر مبارك بعنوان «تأثير الإثنية على العنف الانتخابي في كينيا، دراسة حالة الانتخابات الرئاسية 2007 - 2013»، ترجع جذور «العنف الانتخابي» في كينيا إلى أول انتخابات رئاسية شهدتها البلاد قبيل الاستقلال عام 1964. ووفقاً للباحثة مبارك، فإن التاريخ الانتخابي الكيني ظل يشهد عنفاً انتخابياً سابقاً ولاحقاً للانتخابات، لكنه ظل في حدود السيطرة حتى انتخابات 2007. هذا المفصل حمل لكينيا موجة عنف لاحقة كبيرة قتل خلالها أكثر من 1000 شخص وتشرد بسببها 600 ألف شخص، وجعل منها علامة فارقة في سيرة العنف السياسي بالبلاد.
تشرح مبارك أن أول انتخابات برلمانية في كينيا أجريت عام 1963. وفيها نال «كانو» الغالبية بزعامة كينياتا الأب، ومنذ ذلك الوقت ظل «كانو» يستأثر بالسلطة دون منافس تقريباً حتى عام 1991، حين ألغي نظام الحزب الواحد. وفي عام 2002 فاز بالانتخابات الرئاسية بغالبية ساحقة مواي كيباكي ممثلاً لما عُرف بأحزاب ائتلاف «قوس قزح». وهكذا انتقلت له السلطة سلمياً، لكن لم يدم الأمر طويلاً إذ شهدت البلاد أعمال عنف في انتخابات 2007.
لقد خاض انتخابات 2007 نحو 87 حزباً، لكن التنافس الجدي انحصر بين تحالف «الوحدة الوطنية» (يضم 7 أحزاب) بزعامة الرئيس المنتهية ولايته كيباكي، بينما تزعم أودينغا تحالف «الحركة الديمقراطية البرتقالية». ومن ثم، تفجر النزاع القبلي الشديد بين «الكيكويو» بزعامة كيباكي، و«اللوو» بزعامة أودينغا الذي أفلح من جانبه، في بناء تحالف مع زعماء غرب البلاد وقبائل الكالينجين (ينتمي إليهم الرئيس الأسبق دانيال أراب - موي) والزعماء المسلمين على الساحل، وكبرى مدنه مُمباسا.
وأسهم الخطاب السياسي العنيف، في رفع وتيرة الاحتقان السياسي والاجتماعي، ومكّن نجاح أودينغا - المحسوب على يسار الوسط - في عقد تحالفات انتخابية من تعبئة الجماهير لصالحه، فحقق تقدماً لافتاً في الانتخابات. وتقول التقارير إن النتائج الأولية كانت لصالح أودينغا بفارق يزيد على المليون شخص. بيد أن النتائج النهائية للانتخابات جاءت عكس التوقعات، ما أدى لتأخر إعلان النتيجة النهائية، وسرعان ما سرت موجة من الإشاعات والتوتر في البلاد. ومع بداية الحملات الانتخابية قتل 3 من مؤيدي «الحركة الديمقراطية البرتقالية»، واندلعت أعمال عنف وشغب أدت إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا، وتشريد أسر كثيرة.
انتخابات 2007 التي شهدت أعمال عنف استثنائية، جرت في أجواء مشحونة بالعداء والصراع القبلي بسبب سيطرة الكيكويو على الحكم والسلطة، ما أدى إلى انقسام حاد في المجتمع ومؤسسات الدولة والإعلام، انقسمت معه البلاد إلى فريقين تعزّزهما النوازع القبلية الإثنية؛ الأول حكومي، والثاني في المعارضة. إذ حين أعلن فوز كيباكي اعترض أودينغا، ولا سيما أن النتيجة النهائية خالفت التوقعات والنتائج الأولية، وفوراً اندلعت أعمال عنف قبلي وإثني ضد الكيكويو. وتصاعدت أعمال الشغب والقتل والقمع من قبل قوات الأمن، ما أدى إلى مقتل أكثر من 1200، ونزوح أكثر من 300 ألف شخص من مناطقهم.
وانعكس الصراع صراعاً سياسياً بين ائتلاف الحزب الرئاسي (حزب الوحدة الوطني) وائتلاف المعارضة «الحركة الديمقراطية البرتقالية». وفي نهاية المطاف، أفلحت تدخلات دولية وإقليمية ومن الأمم المتحدة على عهد أمينها العام كوفي عنان، في مساعدة الأفرقاء على الوصول إلى «إطار مشترك» وإيجاد حل سلمي للعنف، فيما عُرف بـ«الحوار الوطني والمصالحة» نتجت عنه صيغة تقاسم السلطة.

إصلاحات وتعديلات دستورية
عام 2010، قبل خامس انتخابات تعددية كينية 2013، أجريت بعض الإصلاحات والتعديلات الدستورية، ما أسهم في ارتفاع الإقبال على الاقتراع في تلك الانتخابات تنافس 8 مرشحين، يقف خلف كل واحد منهم «ائتلاف حزبي» بخلفيات قبلية واقتصادية تسعى لتأمين مصالحها. وانتهت انتخابات 2013 من دون عنف يذكر، واستطاع أوهورو كينياتا السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، على الرغم من المعارضة الدولية التي وجدها، باعتباره مطلوباً من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
المحللون يرون أن مثول كينياتا أمام محكمة الجنايات الدولية وهو على سدة الحكم، وقبوله بإعادة الانتخابات واحترامه لقرار المحكمة العليا في بلاده، يتضمن رسائل كثيرة للقادة الأفارقة. إذ رأى الكاتب والصحافي السوداني فيصل الباقر، في مقال نشر قبل إعلان النتيجة، أن قرار القضاء الكيني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها مرة أخرى، يعد «فتحاً جديداً في تاريخ القارّة الأفريقية»، بل «الأول من نوعه أفريقياً، والثالث عالمياً». وأوضح أن قرار القضاء الكيني التاريخي انتقل ببلدان القارة إلى «عصر جديد، في علاقة السلطات الثلاث» بين «التنظير» الذي يقر نظرياً «مبدأ فصل السلطات» و«الممارسة». ورأى الباقر في التجربة الكينية إرهاصاً ببزوغ «شمس الديمقراطية الحقّة» في أفريقيا، داعياً القادة الأفارقة للتعلم من «التجربة الكينية».
في المقابل، لئن كان كينياتا قد «ضرب مثالاً» غير معهود لاحترام مبدأ فصل السلطات بين قادة القارة السمراء، فإن هذا التحدي ليس الوحيد الذي يواجهه، ذلك أن الفساد يمثل تحدياً آخر بحاجة لقلب رجل ذهب إلى «لاهاي»، رغم ضجيج القادة الأفارقة الآخرين. وحفاظاً على صورته، فإن الرجل مطالب بالبدء بنفسه، لمعالجة «المرض الأفريقي» المعروف بـ«الفساد»، ينتصر عليه، أو يقود ضده معركة شرسة.
وهنا تنقل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن عضو في حملة مكافحة الفساد الكينية، قوله: «إدارة كينياتا تعدّ الأكثر فساداً في تاريخ كينيا». وعلى الرغم من أن القول يبدو «متحاملاً» في ظاهره، فإن منظمة الشفافية الدولية تؤكده، حين تصنف كينيا في أعلى سلم الفساد، وأنها تقع في المركز 145 من بين أصل 176 بلداً عن مؤشرها لتصورات الفساد عام 2016.
ويتابع المصدر نفسه: «الفساد ازداد سوءاً في ظل إدارة الرئيس كينياتا»، موضحاً: «عدم كفاءة وكالات مكافحة الفساد وعدم فاعليتها، هي سبب هذا التصنيف المدني لكينيا... والفشل في معاقبة الأفراد المتورّطين في الكسب غير المشروع، كان عقبة رئيسية».
من جانبه، يعترف كينياتا بفشل محاولاته لمكافحة الفساد، لكنه شن هجمة مضادة وحمّل المسؤولية عن هذا الفشل إلى «المحاكم» و«وكالة مكافحة الفساد»، قائلاً إنها أجهضت جهوده لأن إجراءاتها «بطيئة». وكان كينياتا قد أقال في 2015 خمسة وزراء ومسؤولين رفيعي المستوى بشأن مزاعم الفساد، فيما دفع وزير سادس لتقديم استقالته بسبب الضغط العام. فهل يفلح الرجل الذي تصنفه مجلة «فوربز» الأميركية بين أغنى 26 شخصاً في أفريقيا، بثروة تقدر بنحو 500 مليون دولار، وتمتلك عائلته وسائل إعلام بينها قناة تلفزيونية وصحيفة يومية ومحطات إذاعية... في ضرب النموذج مرة أخرى، أم تصبح «العائلة والقبيلة» حصينة أمام حربه المعلنة ضد الفساد؟
وفي هذا الشأن، رغم عدم إعلان ضلوع أي من أفراد أسرة كينياتا في قضايا فساد، فإنهم يملكون أعمالاً ضخمة، ويستثمرون في قطاعات البنوك، والبناء والتشييد، والألبان، والتأمين، والسياحة، وتحتكر مساحات واسعة من الأراضي حول الوادي المتصدع والمناطق الوسطى والساحلية في كينيا.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».