إبراهيم الحسين: الفضاء الإلكتروني يوفر للشاعر القارئ الذي يريد

كتب في الـ«فيسبوك» خلال سنة واحدة ما يعادل كتابته في ربع قرن

إبراهيم الحسين
إبراهيم الحسين
TT

إبراهيم الحسين: الفضاء الإلكتروني يوفر للشاعر القارئ الذي يريد

إبراهيم الحسين
إبراهيم الحسين

يقول الناقد والشاعر عبد الله السفر عن إبراهيم الحسين إنه «كائن مثالي للعزلة والانقطاع». وهو كذلك فعلا. وأكثر من ذلك، إنه يعشق حياة المتصوفين ويكتب بلغتهم. عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الـ«فيسبوك»، يمارس كتابة نصوصه الشعرية التي تعبر الحدود، وتخلق له بيئة من محبين تتجاوز ما تجمعه أمامه أي أمسية شعرية يحييها. وخلال سنة، كتب أكثر من 400 نص شعري، وهو ما يعادل ما نشره في خمس مجموعات شعرية على مدى ربع قرن.. صدر كتابه الأخير متضمنا منها 142 نصا، وهي مجموعة: «على حافة لوحة في المنعطف الموسيقي».
قبل هذه المجموعة، أصدر إبراهيم الحسين أربع مجموعات شعرية، يعود تاريخ كتابة النصوص الأولى بها إلى عام 1989. وقد جمعها في إصداره الأول: «خرجت من الأرض الضيقة» (1992)، يليه «خشب يتمسح بالمارة»، ثم «انزلاق كعوبهم»، وأعقبه بـ«رغوة تباغت ريش الأوراق» (2011).
عن هذه التجربة، جاء هذا الحوار الذي أجري معه في الدمام حيث يقيم:
* أصبحت تكتب القصيدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هل تشعر بأن المدونات تمنحك فضاء أكثر حرية فعلا؟
- لنتفق في البدء مع الشاعر الكبير صلاح فائق على أن «في مثل هذه اللقاءات مجالا كبيرا للادعاءات»، التي من السهل انجراف المرء إليها. لكن، ﻻ بأس في أن أقول لك إن هذه النافذة «الفيسبوكية» تعطيني مساحة كبيرة من الحرية؛ من ناحية سرعة النشر، وسرعة تلقي الانطباع ممن يتابعني من خلال بعض التعليقات التي كثيرا ما تفرحني، فنحن نحتاج أحيانا لمن يصفق لنا، نحتاج لمن يمدحنا بين وقت وآخر، نحتاج لمن يدفعنا إذا ساخت أقدامنا في رمل الإحباطات لننطلق مسافة أبعد، ونحتاج لمن يجعلنا نرتفع قليلا لنشعر بجدوى ما نكتب، كما قال سليم بركات في واحد من لقاءاته النادرة.
باختصار، نحتاج إلى قارئ حقيقي. وكلام الشاعر الرائع قاسم حداد حول مثل هذا القارئ في جريدة «الشرق»، قبل وقت قصير، يمكن أن يضيء شيئا مما أردت قوله.
* ماذا تمنحك الكتابة في الوسائط الإلكترونية؟
- أنت لست في معزل عما يكتب وينشر في هذه الوسائط، ولست منفصلا عما يقترح فيها؛ فهي متاحة لك. بذلك، أنت تتصل بأشياء جميلة ورائعة كانت غائبة عنك بشكل أو بآخر، فبين حين وآخر ترتفع الصخرة فيضيء داخلك وترى بأي مدخرات تكتنز روحك وقد كانت مغطاة ومتروكة، تجد فجأة جسرا لتعبر إليها وتتحسسها، تحملها وتجري بها في لحظة تكون أنت جاهزا بأدواتك وتكون معداتك تقريبا مكتملة.
* ألا تشعر بأن الفضاء الإلكتروني يسلبك بهجة التواصل مع الجمهور؟
- الأمر على العكس من ذلك؛ في ظل ما ترى من عزوف الجمهور عن حضور الأمسيات إﻻ ما ندر، ﻷسباب عدة ليس هنا مجال ذكرها أو الخوض فيها. ولن أذهب في هذه اللحظة مع بول شاوول في أن الشعر ليس جماهيريا، ولكن أعيد هنا ما سبق أن قلته: أنت بحاجة إلى قارئ حقيقي يقدر على التنبؤ بمواقفك قبل أن تتخذها، على حد قول قاسم حداد، هذا القارئ بت أعثر عليه في هذا الفضاء من خلال أسماء معروفة أحبها وأجلها وأجد رد فعلها أيضا على ما أجترحه وأقترحه من نصوص، وبشكل سريع.

* القصيدة الحديثة والرقمية
* هل يمكن أن يمنح الفضاء الإلكتروني مساحة أوسع لكتاب القصيدة الحديثة في المملكة تحديدا، ويوفر لهم قنوات اتصال سالكة مع الجمهور؟
- هذا كلام يعيدنا إلى ما قاله عبد الله السفر عن الحرية التي يوفرها ويمنحك إياها الفضاء الإلكتروني، أنت اﻵن في هذا الفضاء تجد السائد هو هذه القصيدة الجديدة، ولا تكاد تجد القصيدة القديمة أو كما تسمى أحيانا التقليدية أو العمودية. تجد المهتمين بهذه القصيدة وتشعر بتقبلها والتفاعل معها. هو فضاء افتراضي يوفر لك ما تريد، يوفر لك القارئ الذي تبحث عنه، القارئ الذي يحييك ويصفق لك، ويقدم لك درعا افتراضية هي في الحقيقة أفضل من الدرع التي تقدم لك في ختام كل أمسية، تتسلمها وأنت تضحك في داخلك من النهاية التي آلت إليها اﻷمور؛ وميض كاميرات ودرع ليست معها دليل إرشادي للكيفية التي توضع بها على الصدر.. تكتشف في النهاية أنك صنديد، يخجل من الدخول بدرعه إلى بيته.
* ما شروط القصيدة الرقمية (إن صحت العبارة)؟
- أي قصيدة، سواء أكانت رقمية أم غير ذلك، ما من شروط لها سوى أن تكون قصيدة تحمل حالة شعرية، تحمل شحنة شعرية تجفل منها يدك حين تلمسها؛ لغة وتراكيب جديدة وتأويلات تسلك من أجلها طرق الخيال الحي والحار، لغة تتنفس بكل عنفوان..
أنت حين تكتب القصيدة ﻻ تفكر فيما إذا كانت رقمية أو ﻻ، أنت تحاول أو تسعى لأن تقول، لأن تتخلص وأن تكتب قصيدة.
* هناك تدافع هائل تشهده الساحة الثقافية في السعودية نحو النشر الرقمي تحديدا.. هل ترى ثمة فوائد لهذا الفائض الكبير من ممارسة التعبير؟
- ما تسميه أنت فائضا هو في الواقع عملية غربلة مستمرة، غير مرئية لكنها موجودة، ﻷن ما سيبقى هو اﻷقدر على الصمود ومقاومة الظروف وعوامل الوقت، ما سيبقى هو اﻷقدر على تجديد نفسه، أما الضحل الذي بلا عمق فسيجرف ويلقى به بعيدا، هذا من فوائد التدافع الهائل الذي ذكرت. دع الكل يكتب، دع الجميع يتدافع.. يجرب، ويقترح، فثمة مصفاة تقف بالمرصاد.
* عبر وسائل الإعلام الرقمية؛ كتبت ما يزيد على 400 نص في سنة واحدة، وهو ما يعادل ما نشرته في خمس مجموعات شعرية على مدى ربع قرن.. إلى أي شيء تعزو هذا الثراء الشعري؟
- ما حدث هو أن هناك من جاء وأخذك في زيارة إلى الفنانة «فريدا كاهلو» وأجلسك عند سريرها، من نبهك إلى مرآتها المعلقة فوق ذاك السرير، من أخذ عينك ووضعها عند ما ينز منها..
ما حدث هو أن هناك من أدخلك في لوحة غزالتها وجعلك الغزالة المطاردة، من جعلك تئن مما ينغرز فيك من السهام، من منحك الدم ذاته الذي كان يبلل الهواء كلما انغرز سهم جديد فيك..
ما حدث هو أن هناك من أعارك ملابس وعيون وقلق شخوص لوحات هنري تولوز..
من جعلك تسمع نعيب غربان فان غوخ وجعلك تشم فجيعته في حقوله الصفراء، ومن جعلك مصبا ومرمى لعيونه..
ما حدث هو أن هناك من جعلك تصاحب «ياني» اليوناني وفتح لك فتحة على جنونه وعلى كمنجاته وعلى صفير موسيقاه الحاد الذي كان يغرزه في أكياس كانت مخبأة في نفسك، وجعل ما بداخلها يخرج وينسكب على الأرض، فتحة على «أورجه» و«غيتاره» الذي كانت أوتاره تكسر جرارك فيسيل ما فيك، جعلك تقف عاريا تحت مطره..
وهناك من جعلك ترافق عود نزار روحانا وعود أنور أبراهام، من صيرك فراشة هناك..
من وضعك في أعواد الثلاثي جبران وجعلك تفتتح بها صباحاتك وغيرهم وغيرهم..
هناك من جعلك تعشق كاميليا جبران في «صوت في سكون الليل يناديني»، فادية طنب الحاج في أغنيتها «أيها الساقي إليك المشتكى»، ودنيا مسعود ومروان عبادو وريم البنا وغادة شبير وهبة القواس وجاهدة وهبة وغيرهم وغيرهم..
من جعل رائحة الجرائد اللبنانية: «السفير» و«النهار» و«المستقبل» تخرج من ثيابك فتبريك كتابات أحمد بزون، ونديم جرجورة، وصفوان حيدر، وعناية جابر، وسمر دياب، وعارف حمزة، وعقل عويط، وعباس بيضون وغيرهم وغيرهم.. وجرائد أخرى وأخرى..
هناك من جعلك تتنشق الغاز الذي خنقت به نفسها في مطبخها «سيلفيا بلاث» وجعلك تتحسس خيط حذاء الممثلة المسرحية «سارة كين» الذي شنقت به نفسها دائما في جيبك..
ما جعلك تعاني عذابات وجنون النحاتة العاشقة «كاميل كلوديل»..
هناك من غسلك ونظفك وصهرك يا صديقي..
لغة أخرى.. لغة أخرى.. يا صديقي..
أردت أن أقول إني كنت مصدوما، أو لنقل على اﻷصح: كنت مفجوعا، فعن أي 400 نص تتحدث، تلك كانت بكاءات.
فماذا كنت تنتظر بعد كل هذا، ضع نفسك أنت أو غيرك في مكاني، حاول أن تخلص في صحبتك للبيانو أو الناي أو الكمنجة أو التشللو وانظر ما يحدث لك.

* تسلق اللغة
* لديك علاقة وثيقة باللغة تتسم بالحفر والمداومة والحضور في شتى الفنون، حيث يمكنك الحديث عن الفن التشكيلي والموسيقى من خلال الشعر.. كيف أثرت هذه اللغة في إثراء تجربتك الشعرية؟
- اللغة قصتنا، واللغة شجرتنا التي نتسلقها لنسد جوعنا، واللغة نخلتنا التي ما نبرح نهزها.. منذ أمد بعيد، تحدث الشاعر قاسم حداد عن ذلك وأشار إليه، كنا متنبهين إذن منذ البدء إلى وجوب الاعتناء بها، متنبهين إلى أهمية سقايتها وتربيتها..
أنت تكتب قصيدة نثر، تحتاج إلى مهارة عالية. أو لنقل إنك تكتب نصا، إذا لم تكن لديك لغة، إذا لم تهتم بما يرن ويلمع من المفردات، لما ينقل حالتك ويكون أمينا عليها، فسيسقط نصك أمامك، ويفلت من يدك وتراه شظايا على الأرض..
الحالة الشعرية، أو لنقل حالة الكتابة، ﻻ يمكن أن تنهض وحدها دون لغة ترفدها، تمسك يدها وترفعها؛ أنت ماذا لديك هنا غير اللغة؟
قرأنا القرآن الكريم، وقرأنا الأحاديث ومنها القدسية ذات اللغة العالية التي تبهرك.. قرأنا لغة المتصوفة: النفري والحلاج والتوحيدي وجلال الدين الرومي وغيرهم، قرأنا للغيطاني وبسام حجار وإدوار الخراط.. كل هؤلاء كانوا يصقلون لغتك ويزيلون عنها الشوائب، حد أنك تستطيع أن تصب شيئا منها وتجعله قرطا أو سوارا وتهديه لمن تحب.. من هنا، جاءت اللغة إذا كنت ترى أن لدي لغة..
فاللوحات والمنحوتات والقصائد وأنواع الموسيقى كلها موجودة فيك، لكنها تحتاج إلى ممر، تحتاج إلى جسر.
* هناك من يرى أن هذه العلاقة الوطيدة باللغة ساهمت في إحداث (عزلة) بينك وبين الناس، مما أضعف تجربتك في العلاقات الإنسانية؟
- الأمر ليس كما تسميه «عزلة»، وليس للغة علاقة به، كل ما في الأمر هو أنك ﻻ تجيد عرض نفسك، أو بالأحرى هو الكسل.. فلم يحدث في أي أمسية لي أن قمت بإرسال رسالة واحدة عنها لأي كان، أو أعلنت عنها في أي قناة تواصل.. أما العلاقات الإنسانية، فأمرها هو أنك تبحث عمن يثريك، عمن يعينك، عمن تشم فيه رائحة الشعر من مسافة بعيدة.
* هل يتعين على أي شاعر طليعي أن تكون لديه مواقف متميزة عن بقية الناس؟ لماذا أنت تتحاشى اتخاذ مثل هذه المواقف؟
- عن أي مواقف تتحدث؟ اذكر لي موقفا واحدا لم أكن فيه واضحا مثل قصيدة، وإذا أردت فاسأل الوردة، فأوراقي كلها بين أصابعها وأغاني ﻻ تخرج إلا من بوابتها.. ثم، هل تريد مني أن أكون شعاراتيا، هل تريد صراخا!
نصوصي هي مواقفي، بكائي أمام اللوحات ودخولها ثم عدم الخروج منها أو التخلص من ألوانها. بسهولة، أليس هذا موقفا..
استغراقي وذهابي بكليتي في الموسيقى الجميلة، أليس هذا موقفا؟ ملازمتي للوردة، ألا تعده موقفا؟ ألا يعجبك؟
* أنت أحد شعراء قصيدة النثر في السعودية، وتتجلى تجربتك في ديوانك (خشب يتمسح بالمارة) مثلا، كيف تجد مستقبل هذه القصيدة محليا؟
- في البدايات، أذكر أني أعطيت بعض نصوصي للشاعر قاسم حداد، لتجيئني بعد فترة، رسالة منه، حجرها: «أبشرك برفض كبير لكتابتك ممن حولك، وهذا الرفض لن يزيدك إلا مجدا ومكابرات». وقد ثبت أن كلامه كان صحيحا، فلا شك في أن هناك رفضا للقصيدة الجديدة - إن لم يكن محاربة، يقابله تكريس للقصيدة التقليدية، تكريس للنظم، ومع كل ذلك النبذ وإغلاق الأبواب في وجهها ومع ما يصب عليها من خرسانة إلا أنها كما ترى تدفع الإسمنت وتكسر الأبواب.. تخرج وترفع جذعها، تفتح أوراقها وتبرعم زهورها.
فانظر إلى ما يطرح من أعمال، سواء كانت ورقية أو رقمية، وأنت تعرف.. جل ما يطرح الآن هو قصيدة نثر أو ما يشبهها أو هو محاولة لكتابتها..
ثم إنك تكتب القصيدة ليس لأن فلانا أو علانا يكتبها، لكن لأنك تشعر بأنها تلبي حاجتك وهي الأقدر على قولك..
أنت ﻻ ترفض الوزن ولا القافية، أنت ﻻ ترفض القصيدة العمودية، لكن شرط أن تكون قصيدة.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.