عودة مهرجان قرطاج إلى ينبوعه الأصلي

يُحسب لمهرجان «أيام قرطاج السينمائية» أنّه ثابر على تقديم السينما العربية والسينما الأفريقية بمنوال فريد من نوعه عبر سنواته الماضية جميعاً. الدورة الـ28 التي تنطلق يوم غد السبت في تونس العاصمة، تؤكد على أنّ المتغيرات السياسية داخل تونس البلد وخارجها، لم تنل من عضد وأهمية هذا اللقاء المتخصص والفاعل.
صحيح أنّ المهرجان غطس في الأعوام السابقة في بعض تلك المتاهات وحولها والتي صاحبت السنوات القريبة الصعبة للبلاد وأنّ آثار ذلك بدت على محياه. وصحيح أيضاً أنّ بعض المتعاقبين عليه عملوا على أساس نفض كل تاريخه وتوجيهه ليخدم غايات وبدائل غير واقعية، إلا أنّ ذلك ما يجعل الدورة الحالية تعد بأن تكون أفضل دوراته في السنوات العشر الأخيرة على الأقل.
إن لم يكن ذلك الوعد مطروحاً بسبب يقين التونسيين بأهميته، فإنه بالتأكيد مرتبط، وعلى نحو وثيق، برئاسة السينمائي المثقف نجيب عياد له. ليس فقط لأنّه خَبِر جوانبه عندما عمل فيه سابقاً، قبل أن ينطلق ويؤسس مهرجانه الخاص لاحقاً، بل لأنّ منهجه المعلن هو إعادة المهرجان لما كان يمثله ويجسده من طموحات السنوات الذهبية له، تلك التي امتدت طوال السبعينات والثمانينات عندما كان الأهم هو حشد الأفلام ومخرجيها العرب والأفارقة على نحو متكافئ وتقديم المهرجان كحدث مزدوج الطابع: هو محلي بصفته تونسياً يهدف لتعزيز كل ما تنضح به الثقافة والسينما من محاور ونقاشات ولقاءات، ودولي كونه الوحيد من نوعه بين مهرجانات العالم لإقامته مسابقة آسيوية - أفريقية مع الأخذ بعين الاعتبار أفلام من أميركا اللاتينية تعرض خارج المسابقتين الطويلة والقصيرة.
آباء وأبناء

يبدو نجيب عياد حذراً حين ينتقي تعريفه للمهرجان. هو مهرجان يضم أفلاما عربية - أفريقية كما كان دأبه دوماً، لكنّ التقسيم الجغرافي واضح في دلالاته، فنصف السينما العربية هي أفريقية تضم المغرب وتونس والجزائر ومصر. أمّا النصف الآخر فهو شرق آسيوي يمتد من لبنان وسوريا والأردن إلى الكويت والإمارات والمملكة العربية السعودية وسواها. لذلك فإن التعبير الشائع بأنّ مهرجان «أيام قرطاجة السينمائي» (الذي تُشرف عليه وزارة الثقافة التونسية)، هو مهرجان - عربي أفريقي وهو نصف واقعي بسبب وقوع تلك البلدان العربية في شمال القارة الأفريقية.
هذا العام هناك ثمانية أفلام عربية وستة من أفريقيا الداخل.
بعض الأفلام العربية شوهد في مناسبات أخرى مثل «الشيخ جاكسون» (مصر)، و«في انتظار عودة الخطاطيف» (الجزائر)، و«ضربة في الرأس» (المغرب)، و«قضية رقم 23» (لبنان)، و«على كف عفريت» (تونس)؛ لكنّ المهرجان هو العرض العالمي الأول للفيلم السوري «مطر حمص» ولفيلمين تونسيين هما «شرش» و«مصطفى زاد».
بالنسبة للفيلم السوري الذي انتهى العمل منه مطلع هذه السنة، فإنّ ما حدا بالمنتجة رحاب أيوب لتأجيله إلى حيث يعرض هذا العام في تونس، قام على أساسين كما تقول. الأول أنّ عدداً من الموزّعين الأجانب أرادوا إلقاء نظرة على هذا العمل ما توجب الانتظار قبل الإقدام على بدء عروضه، والثاني أنّ الفيلم الذي صوّر في العام الماضي دخل المونتاج مرّة أخرى لاختيار نسخة من 100 دقيقة عوض نسخته الأولى التي زادت قليلاً عن الساعتين.
وكانت المنتجة استقلّت بفيلمها هذا عن الانتماءات المعهودة. في الواقع كانت بدأته بشراكة مع مؤسسة السينما السورية، وهي مؤسسة حكومية، ثم اشترت حصة المؤسسة لتنفرد به كما تريد. والفيلم هو أفضل ما أخرجه جود سعيد من أعمال ويتميّز بحس شعري واضح خلال طرح أحداثه التي تدور، كأفلام أخرى سوريا حديثة، عن الواقع المعاش.
الفيلمان التونسيان غير المعروضين سابقاً يتداولان قضيتين اجتماعيتين. في «شرش» لوليد مطّار حكاية أب وابنه عاطلين عن العمل (قدّم الأول استقالته والثاني لا يعمل)، ويشتركان في حب صيد السمك. في الفيلم الثاني «مصطفى زاد» لنضال شطا حكاية أب يعايش التغيرات السياسية التي حدثت في تونس خلال مطلع سنوات الأمس القريبة، لكنّه على انفصام مع المواقف المعلنة والتيارات المختلفة كما مع ابنه وزوجته التي تلومه بسبب ما تراه من شخصية انهزامية لا تسعى لكي تلعب دوراً ما.
والعلاقة بين الأب وابنه، وهي عادة ما تكون متدهورة وتتبع نظاماً من القطيعة، متوفرة كذلك في الفيلم الآتي من بوركينا فاسو بعنوان «ولاي» لبيرني دبلات بينما تنتشر المواضيع المختلفة في عموم الأفلام الأفريقية، فهي عن ثلاث نساء وسجين في «الأسلحة الخارقة» (الكاميرون)، وعن مغنية حانات وضيعة تحاول إنقاذ ابنها من الموت في «فيليسيتي» (السنغال)، ثمّ عن رحلة تركبها المخاطر في «قطار الملح والسكر» (موزمبيق).
لكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ مخرجي الأفلام الأفريقية غير العربية، هم من ذوي البشرة الأفريقية، إذ أنّ ثلاثة منهم هم من البيض ولو كانوا يعيشون ويعملون في دول أفريقية: بيرني غولدبلات، مخرج «ولاي» سويسري الأصل وجون ترينغوف، صاحب فيلم بعنوان «المتعلمون» أبيض من جنوب أفريقيا ونجد أنّ مخرج «قطار الملح والسكر» من تحقيق البرازيلي ليسينيو أزيفيدو.
تظاهرات موازية

واقع الحال أنّ السينما الأفريقية لا تعيش فترة مزدهرة على صعيد الأفلام الفنية. تلك التي من شأنها إعلاء اسم المخرج والبلد المنتِـج. وما نسمعه من نيجيريا مثلاً هو أنّ نتاجها السينمائي عبارة عن كتل من أفلام الفيديو السريعة التي تشبه، في أفضل حالاتها، موضة سينما المقاولات في الثمانينات في مصر.
الحال أفضل بالنسبة للسينما العربية في مختلف أرجائها واختيارات نجيب عياد تدل على وعيه الفني الجيد. لجانب الأفلام التونسية الثلاثة والفيلم السوري، فإنّ نطاق الفيلم المصري محدود بفيلم واحد هو «الشيخ جاكسون» لعمرو سلامة، واللبناني واحد أيضا («القضية 23»)، وهناك فيلمان مغربيان هما «ضربة في الرأس» لهشام العسري، و«ليلي» لفوزي بن سعيد.
فيلم الافتتاح هو للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي. جديده بعنوان «كتابة على الثلج» ويتناول أحداث الحرب في غزة قبل بضع سنوات مبيناً في اتجاهات الفلسطينيين المتناقضة. إنّه المشروع الذي كتبه المخرج متأنياً. عجنه وخبزه ثم أعاد عجنه وخبزه حتى حققه على النحو الذي يرضيه. وهو الفيلم الذي، بناءً على حوار سابق، يريد عبره فتح صفحة جديدة من صفحات مهنته.
هناك فيلم فلسطيني آخر عنوانه «خارج الإطار أو ثورة حتى النصر» لمهند اليعقوبي، وهو تسجيلي كحال الفيلم اللبناني خارج المسابقة «ميل يا غزيل» لإيليان الراهب. كلاهما يتحدث عن التاريخ. فيلم اليعقوبي هو أرشيفي عن الفترة الثورجية التي صاحبت العمل الفلسطيني في السبعينات. «ميل يا غزيل» هو عن لبنان المرتبط بالحرب الأهلية في الذاكرة وبالحرب السورية في الواقع الحاضر.
فيلم مصري آخر في هذه العروض هو «أخضر يابس» لمحمد حماد، كما يعرض فيلم مغربي (ثالث) هو «عرق الشتا» لحكيم بلعباس.
في هذه الدورة الـ28. العدد الكافي من التظاهرات الأخرى. هناك ثلاث مسابقات أخرى: مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة (14 فيلماً)، ومسابقة الأفلام الروائية القصيرة (15 فيلماً)، ومسابقة الأفلام الروائية المتوسطة (ثمانية أفلام).
كذلك يزدان المهرجان بعروض أخرى في تظاهرات موازية أهمّها، كما يبدو، تظاهرة «السينما الواعدة» المخصصة للأعمال الأولى لمخرجيها. هنا نجد فيلماً للعراقي أمير البصري بعنوان «كابتن عادل»، و«رحلة سيئة» للبناني جورج حازم، و«ندى» للمصري عادل يحيى، والمغربي «يوميات السفاح» لوليد أيوب، وثلاثة أفلام تونسية هي «أكواريوم» ليوسف صنهاجي، و«كاتم الصمت» لأسامة عزي، و«1999» لهيثم سكوحي.