الغولف في لبنان... لعبة متوافرة للجميع لتعزيز التنمية السياحية والاقتصادية

نادي الغولف اللبناني يستقطب محبي اللعبة من مختلف الأعمار
نادي الغولف اللبناني يستقطب محبي اللعبة من مختلف الأعمار
TT

الغولف في لبنان... لعبة متوافرة للجميع لتعزيز التنمية السياحية والاقتصادية

نادي الغولف اللبناني يستقطب محبي اللعبة من مختلف الأعمار
نادي الغولف اللبناني يستقطب محبي اللعبة من مختلف الأعمار

لن يبقى ضرب الطابات في نادي الغولف، محدوداً. فصوت المضرب لدى ملامسة الطابات البيضاء، سيتردد بكثرة في سائر أركان النادي الذي يعد أكبر المساحات الخضراء في العاصمة اللبنانية، في ظل خطة وضعها «اتحاد نادي الغولف اللبناني» لتحويل اللعبة إلى لعبة مفتوحة، لا تقتصر ممارستها على الميسورين.
ثمة تصوّر سابق بأن لعبة الغولف في لبنان، هي لعبة بورجوازية، وأن النادي لا يرتاده إلا الميسورون. هذا الاعتقاد الخاطئ، تناقضه الوقائع، ولو أن تكلفة ممارسة هذه اللعبة تتخطى ألعاباً أخرى تتسم بالشعبوية، مثل كرة القدم وكرة السلة... وعليه، لن يكون رواد الغولف، كما النادي، خارج الضوء من الآن فصاعدا، في ظل العمل الدؤوب على تغيير الصورة النمطية بداية، والتأكيد أن الملعب مفتوح للهواة، وفتح باب التدريب لطلاب المدارس بهدف خلق جيل من اللاعبين؛ تمهيداً لحصد بطولات عالمية، ما يساهم بالتنمية السياحية، ويعزز الفائدة الاقتصادية الناتجة منه.
لكن رغم ذلك، بقي لبنان على خريطة الغولف السياحية؛ إذ يستضيف النادي عمالاً أجانب يقيمون في لبنان، كما يقصده السائحون، ما يعني أن الغولف السياحي يعتمد على العمال الأجانب المقيمين والدبلوماسيين وقوات اليونيفل.
ولا يخفي رئيس اتحاد نادي الغولف اللبناني كريم سلام، أن هناك تصوراً لدى الناس بأن لعبة الغولف محصورة بفئة معينة من المجتمع ومكلفة: «مع العلم أن هذا الأمر بدأ يتغير مع وصول (تايغر وودز) في منتصف التسعينات، ودخول شركات جديدة على ميدان صناعة أدوات ومعدات لعبة الغولف؛ ما أدى إلى انخفاض كلفة المعدات، من 800 دولار إلى نحو 200 دولار».
ويقول سلام لـ«الشرق الأوسط»: إن خطة العمل تنقسم شقين، داخلي وخارجي، لافتاً إلى أنه تم استهلالها بتواصل فريق العمل لمعرفة نقاط الضعف والقوى: «وقمنا بتحليل النتائج، وقاربنا مسألة الاتحاد من زاوية رياضية ومن منطق التعاطي كمؤسسة».
ويضيف: «لدينا علاقة مميزة مع نادي الغولف فوقعنا وثيقة تعاون تنص على أن أي شخص، وخصوصاً الناشئ، يأتي من برنامج المدارس، له الحق في أن يدخل نادي الغولف مجاناً»، لافتاً إلى أن أياً من نوادي العالم لم يأخذ هذه الخطوة؛ كون أغلبية الأندية العالمية تجارية، بينما «نادي الغولف اللبناني لا يبغي الربح». ويشير إلى أنه من منطلق إيمان نادي الغولف بمشاركة المجتمع اللبناني: «لم يتردد رئيس إدارة نادي الغولف رياض مكاوي عن مساعدة الاتحاد لتحقيق أهدافه الإنمائية والتربوية والاجتماعية». كما قدم النادي خدمات الجهاز الفني لديه مجاناً للاتحاد.
ويؤكد سلام أن «التغيير الذي نقوم به يتمثل بمشاركة جميع شرائح المجتمع اللبناني في هذه اللعبة، عدا عن المساعدة التربوية التنموية واجتماعية لأن الرياضة تصبّ بهذا المجال».
يحاول نادي الغولف تعميم التجربة منذ 11 عاماً حين أنشأ أكاديمية للناشئين، وساهم التعاون مع الاتحاد في وضع خطة رفد الأكاديمية بطلاب المدارس، على أن يكون التدريب مجانياً، بعد التواصل مع الاتحاد الدولي والنادي الملكي واتحادات الأردن والإمارات وكل المؤسسات التي يمكن الاستفادة من خبرتها.
شجع الاتحاد الدولي فكرة الغولف في المدارس وقدم لنا مساعدات، عبارة عن عينة من المعدات لاستعمالها بالمدرسة، وكانت معدات مخصصة لطول الأولاد، ولا تسبب أي أذى ولا تعرضهم لضرر جسدي بحال حصول أي خطأ.
ويقول سلام: «راسلنا المدارس، وحسب الخطة قررنا أن نبدأ بمدرسة واحدة لنرى ردة الفعل والإقبال، لكنّنا فوجئنا بتشجيع المدارس، حيث شاركت 6 منها من مختلف المناطق والطبقات الاجتماعية، وكان الجهاز الفني يذهب ويدرس كل أسبوع ليس فقط نظرية لعبة الغولف، بل أيضاً تطبيقها بهذه المعدات وأصبح هناك أكثر من 1500 طالب وطالبة تتراوح أعمارهم بين 8 و12 سنة». ويشير إلى أن 81 طالباً منهم «شاركوا بأول بطولة مدرسية بالبلاد العربية وفازت فيها إحدى المدارس اللبنانية». بالتعاون مع وزارة التربية، تشارك 12 مدرسة، بينها مدرستان رسميتان في البرنامج في العام الدراسي الحالي.

قرن من عمر الغولف اللبناني

سبق لبنان الكثير من الدول المحيطة، بإيجاد لعبة الغولف في لبنان، فقد بدأ الغولف اللبناني عام 1923، وأقيمت أربعة ملاعب حتى العام 1975 تتوزع في بيروت والمناطق، قبل أن تنال الحرب اللبنانية من ثلاثة منها، وبقي نادي غولف بيروت صامداً. ويمتد اليوم على مساحة تقارب الـ425 ألف مترمربع، لتكون أكبر المساحات الخضراء الباقية في جنوب بيروت قرب المطار الدولي.
وبعدما كان ارتياد النادي بمثابة هواية، سلكت اللعبة في السبعينات طريق المأسسة؛ إذ تأسس اتحاد لاعبي الغولف في بداية السبعينات. ومن بيروت كان علم الدورة الأولى للبطولة العربية؛ إذ تأسس الاتحاد العربي للغولف وبدأت المراسلات مع الدول العربية لتشجيعهم على المشاركة بهدف رياضي والانصهار العربي، فأصبحت هناك دورة عربية، حيث تلتقي كل الأندية العربية سنوياً في بلد محدد. وفي حين قلصت الحرب اللبنانية فرص ارتياد النادي، كانت اللعبة تزدهر في دول عربية كون اللعبة لها أبعاد سياحية وبيئية وعقارية، إذ تؤثر في ارتفاع مؤشرات البلد الاقتصادية، وأنشئت الملاعب في البحرين، ولحقت بها الإمارات العربية المتحدة وقطر، وغيرها.
واستثمرت البلدان العربية بلعبة الغولف عبر نشر أكثر من ملعب واستقطاب سياح ليكون مقصداً سياحيا، وهو ما تتيحه اللعبة بعكس الرياضات الأخرى التي يكون فيها الملعب محدد القياس والحجم؛ ذلك أن ملعب الغولف فريد من نوعه ويختلف عن غيره بالمساحة.
ويعد لبنان من أول البلدان العربية التي شاركت بالبطولات، سواء العربية بتأسيس الاتحاد العربي، أو بدول البحر المتوسط من خلال المشاركة بألعاب البحر الأبيض المتوسط أو الآسيوية و«بطولة الغولف العالمية». وبعدما كانت اللعبة مغيبة عن الألعاب الأولمبية نحو 100 سنة، أدرجت على القائمة في عام 2016. ويضع لبنان خطة عمل على 4 سنوات لإعادة لبنان على الخريطة الدولية بالمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية في طوكيو 2020.

خطط تطوير

لا تقتصر خطط التطوير على الجانب التقني. فنادي الغولف في لبنان، واتحاد اللعبة، يوسعان آفاق مشاركة كثيرين في اللعبة، حيث قدم الاتحاد مشروعا للاتحاد الأوروبي للاحتياجات الخاصة، وانضم لبنان في يونيو (حزيران) 2017 كأول بلد عربي إلى الاتحاد الأوروبي للاحتياجات الخاصة، وهو ما «يدل على جديتنا كاتحاد غولف ولا نحصر الغولف بالرياضة بل نرى أبعادا أكثر من ذلك»، كما يقول سلام، مشدداً على أنه «لا يمكن أن تكون رياضياً صالحاً إلا إذا نشأت في مجتمع صالح، ولكي تقوم بإنشاء مجتمع صالح عليك أن تكوّن مجتمعاً يتحاور مع بعضه ويتقبل بعضه».
وعلى صعيد العلاقة مع الاتحاد العربي، فإن لبنان يعتبر أحد المؤسسين للاتحاد العربي وهو موجود اليوم في المكتب التنفيذي لهذا الاتحاد منذ 4 سنوات. ويؤكد سلام أن العلاقة مميزة واستراتيجية مع كل البلدان العربية «ونضع كل خبرتنا وتاريخنا بمساعدة الاتحاد العربي لتحقيق الأهداف»، بينها البحرين التي بدأت تستفيد من هذه التجربة وتتّجه إلى الناشئين لتعليمهم الغولف.
أما على صعيد الاتحاد الدولي، فقد تم تأمين برنامج دعم للجهاز الفني في لبنان من خلال أهم المدربين في العالم الذين حطوا في لبنان 3 مرات خلال العام الماضي لتطوير الجهاز الفني اللبناني، وكتبوا تقارير مشجعة عن تقدم لبنان.
في زحمة تلك المهام والطموحات، يعمل الاتحاد ونادي الغولف على الإعداد لمشروع «لبنان العالم» الذي يسعى لجمع اللاعبين اللبنانيين المنتشرين في العالم ودعوتهم إلى لبنان للمشاركة في مهرجان كبير جداً تحت اسم «كأس لبنان العالم» وذلك برعاية رسمية. ويقول سلام: «نتمنى أن تكون برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية لأن هذا الحدث سيطال اللبنانيين على مستوى البلد، ونأمل أن يُفتتح السنة المقبلة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)