الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

مساق طويل من دعم الإنجيليين لها مالياً وأدبياً

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
TT

الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)

وسط زحام مثير لأحداث الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة، جرت ملامحه ومعالمه في القدس الشريف المغتصب خلال احتفالات اليهود بأحد أعيادهم المهمة «عيد العرش» أو «عيد المظال»، امتلأت شوارع البلدة العتيقة بآلاف المسيحيين الإنجيليين، ذلك التيار الأصولي المسيحي المغرق في حب إسرائيل.
قصة الإنجيليين الداعمين لدولة إسرائيل ليست حديثة، ومع تولي دونالد ترمب الرئاسة الأميركية، يبدو أن البعض يعود لذلك الاتجاه الذي يخلط بين السياسة والدين خلطاً مقصوداً يؤثر على اتجاهات العملية السلمية بنوع خاص بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

القدس تغص بالأصوليين الإنجيليين
أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري يوافق حسب التقليد اليهودي «عيد العرش» أو «عيد المظال» والأصل في فكرة هذا الاحتفال –حسب التقويم اليهودي- هو تقديم الشكر لله الذي أعان بني إسرائيل على الخروج من أرض مصر، حيث لم يتسنّ لهم بناء بيوت حقيقية بالطريق، بيوت من الأحجار والقش، بل اكتفوا بالمظال والبيوت المؤقتة التي فوقها مظلة.
الذين قُدِّر لهم مشاهدة احتفالات العيد هذا العام تابعوا وصول الآلاف من المسيحيين الإنجيليين الأصوليين لا من الولايات المتحدة الأميركية فحسب بل من عدد كبير من الدول ومن قارات الأرض، حيث يوجد هذا التوجه المسيحي الخارج فكرياً عن أطر الكنائس التقليدية كالكاثوليكية والأرثوذكسية ومفاهيمها عن اليهود قديماً وحديثاً، والعيد بلا شك عيد يهودي، وعليه يصح التساؤل عن سبب احتفال المسيحيين الإنجيليين به؟
الجواب في حقيقة الأمر يحتاج إلى مؤلَّف مطوَّل، لكن باختصار نشير إلى أن «قائد» الانشقاق المسيحي الذي جرت به المقادير في القرن السادس عشر، الألماني مارتن لوثر كان هو مَن بذر بذور العودة المسيحية إلى الأحضان اليهودية عبر كتابه المعنون «عيسى وُلد يهودياً» والذي أصدره عام 1523 قبل أن يعود عام 1543، أي بعد عقدين تقريباً، ليكتب كتابه الآخر «اليهود وأكاذيبهم» وفيه يمحو أي إثر إيجابي لكتابه الأول من نفوس المسيحيين الذين اتبعوا طريقه الفكري.
لكن كان من الواضح أن الموعد قد فات، وأن تعميق اليهودية بشكلها الأصولي في قلوب المسيحيين البروتستانت قد تجاوزه الزمن.

المؤتمر المسيحي الصهيوني
في مؤلفه «الاختراق الصهيوني للمسيحية» يحدثنا القس الدكتور إكرام لمعي المنتمي إلى الكنيسة الإنجيلية المصرية، عن المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول الذي جرت وقائعه في إسرائيل عام 1988 شهر أبريل (نيسان)، وفي العاشر منه تحديداً، حين ألقى إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل، كلمة افتتاحية اتسمت بالعاطفة والحماسة دعا فيها مسيحيي العالم لتعضيد دولة إسرائيل، انطلاقاً من فكرتين رئيسيتين هما «علاقة إسرائيل الخاصة بالله كشعب» والثانية «أن عودة اليهود إلى فلسطين وتأسيس الدولة -حسب فكر هؤلاء الأصوليين من المسيحيين الإنجيليين- يعجّل بالمجيء الثاني للمسيح، الذي أحد شروط مجيئه تأسيس دولة إسرائيل، ليحكم من أورشليم العالم ولمدة ألف سنة».
والثابت أن هذا الطرح استغلته إسرائيل عنصرياً، الأمر الذي نبّه إليه عدد بالغ من المفكرين الغربيين أمثال مالكولم هيدنغ وجون وليم فان دي هوفن، ومن العالم العربي العلامة المصري الراحل الأب متّى المسكين، وجميع هؤلاء توقفوا أمام التلاعب اليهودي الإسرائيلي بالمقدرات الإيمانية للمسيحية حول العالم، في حين يبقى السؤال: كيف استطاعت تل أبيب استقطاب الآلاف، بل وربما الملايين، إلى هذا الفكر غير الخلاق؟ والأخطر هو: كيف انطلت تلك الخدعة وجاز ذلك الاختراق على عقول المسيحيين الغربيين وباتوا كأنهم منقادون انقياداً أعمى؟

مسيحيون يدعمون إسرائيل
المؤكد أن العمل الذي جرى لاكتساب هؤلاء، كان عملاً منظماً وكبيراً وأخذ عقوداً طوالاً لكي نصل إلى صورة المسيحيين الإنجيليين الذي يحملون أغصان السعف في شوارع إسرائيل احتفالاً بعيد العرش، وقد كان الاهتمام بهذا العيد قليلاً فيما سبق ولكن طرأ تغيير مهم بعد أن بدأت السفارة المسيحية العالمية في القدس «إقامة مؤتمر للمسيحيين هناك في فترة عيد العرش». كان المؤتمر الأول الذي عُقد عام 1980 يحفل بنحو 400 مسيحي من 45 دولة، والآن بلغ العدد الآلاف.
أما تلك «السفارة» فهي هيئة غير كنسية، مركزها القدس وتتبنى الآراء المتطرفة التي تدعو لزخم الشعب اليهودي، وقد جرى اختراقها فكرياً وروحياً بالمطلق إلى درجة اتباعها أنه من دون المساهمة اليهودية لم تكن لتنشأ المسيحية، وعليه فإن اليهودية لا تحتاج إلى المسيحية لتوضيح وجودها، بل العكس هو الصحيح، وهذا ما يعطينا فكرة أولية جذرية عن شكل العلاقة بين الطرفين ومن له اليد العليا في المشهد.
غير أن «السفارة» هذه في واقع الحال ليست الجماعة الأصولية المسيحية الوحيدة التي تدعم يهود إسرائيل، بل هناك العديد منها، أشارت إلى بعضها الكاتبة الأميركية أليكس هالسل في كتابها الشهير «النبوءة والسياسة»، ويبلغ عددها نحو 250 منظمة نشير باختصار إلى بعضها:
> ؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل: والذي رأسه في فترة سابقة البروفسور فرانكلين ليتل، المسيحي الأصولي الصهيوني الذي يؤمن إيماناً لا يطاوله شك بأن «كون المرء مسيحياً يعني أنه يهودي، وأن الواجب الأول لكل مسيحي هو أن يضع دعم أرض إسرائيل فوق كل وأي اعتبار آخر».
> المؤتمر المسيحي الوطني: ولقد وُلد ذلك المؤتمر من رحم «مؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل» أيام الهياج الذي أحدثته المنظمات الموالية لإسرائيل بشأن بيع طيارات الأواكس للمملكة العربية السعودية، وكانت الذريعة يومذاك أن تلك الطائرات تشكل تهديداً خطيراً لأمن إسرائيل، ووقتها انبرى القس المنهجي فرانكلين ليتل الذي أعلن أن تشكيل «المؤتمر المسيحي الوطني» استهدف توحيد الطوائف المسيحية ومنظماتها في سياق انشغالها بأمن إسرائيل وسلامة الوطن اليهودي، فقرر أن بيع تلك الطائرات «شكّل أخطر لحظة في تقويم البقاء الإسرائيلي».
> منظمة «تاف» لقساوسة الإنجيليين: «تاف» هو الحرف الأخير من الأبجدية العبرية، وربما اختاره القساوسة الإنجيليون اسماً لمنظمتهم إفصاحاً عن وضعهم كـ«ذيل» تحركه الصهيونية بعقلية لوثر الذي يرى أن اليهود هم أصحاب المائدة وبقية شعوب العالم -مسيحيين وغير مسيحيين- ليسوا أكثر من كلاب قابعة تحت تلك المائدة تنتظر الفتات المتساقط من الأرباب.
وفي أساس الإيمان الذي تروجه المنظمة ويعظ به أعضاؤها نجد هذه الأهداف التي أوجزها أحد كبار المنظّرين الآيديولوجيين للحركة الأصولية الأميركية «هال ليندسي» صاحب الكتاب الذي خلب لب رونالد ريغان الرئيس الأميركي الأسبق، وعنوانه «الراحل كوكب الأرض 1980»، ولقد حفظه ريغان عن ظهر قلب، كما خلب ألباب عشرات الأميركيين الذين جعلهم ريغان يمشون طوالاً رافعي الرؤوس.
يقول هال: «إننا يجب أن نكون محددين تماماً فيما نقوله عن إسرائيل بوصفها من علامات الساعة، ففيما يخص دور إسرائيل في المصير المحدد للأرض هناك 3 أشياء ينبغي أن تحدث:
أولها، أن تولد الأمة اليهودية من جديد على أرض فلسطين. وثانيها، أن يستعيد اليهود كل أورشليم وكل المواقع المقدسة فيها وأولها «جبل الهيكل». وثالثها، أن يعيد اليهود بناء هيكلهم المقدس على موقعه التاريخي «الأرض المقام عليها المسجد الأقصى». ويضيف: «وأياً كانت العقبات، من المقطوع به أن الهيكل سيعاد بناؤه» حيث يجب أن يقام.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن ذكر تلك المنظمات، لكن شفيق مقار في مؤلفه العمدة «المسيحية والتوراة... بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط»، يحدثنا عن العديد من المنظمات الأخرى المسيحية المتخصصة في دعم إسرائيل والترويج لها بين المؤمنين الأميركيين، مثل منظمة «المائدة المستديرة الدينية»، ومنظمة «الصوت المسيحي»، ومنظمة «الإذاعيين الدينيين» وعشرات غيرها.
والذي لا شك فيه هنا أمران:
الأول، أن الإيمان الديني قد أضحى سلاحاً ماضياً، وبخاصة في تشكيل مواقف واعتقادات شعب «طيب» كالشعب الأميركي شديد الاعتداد بسموه الروحي وقوي الإيمان بـ«رسالته» التي وضعتها العناية الإلهية على كاهله، ولقد كانت هذه دائماً حقائق أميركية عرفها وأجاد استخدامها الساسة ورجال الأعمال وصناع الرأي الأميركيون.
الآخر، أن تيار الأصولية المسيحية الأميركية بات وبالاً على شعوب وسكان الشرق الأوسط عامة، وعلى أصحاب الأرض الحقيقيين في فلسطين من مسلمين ومسيحيين عرب تعود جذورهم لعدة آلاف من السنين، ويبقى دعم هؤلاء لإسرائيل عاملاً مثبطاً لكل الجهود السلمية التي تسعى للتوصل إلى حلول عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية أو لإحلال السلام في الشرق الأوسط.

طوق نجاة لإسرائيل
عن أبعاد الدور الخدمي الذي لا يقدَّر بثمن والذي يقدمه الأصوليون الإنجيليون لدولة إسرائيل، نقول: إنه في أواخر العام 2014 أجرت مؤسسة «بيو» للأبحاث في واشنطن، وهي أحد أهم مراكز الأبحاث الموثوقة، استطلاعاً للرأي أشارت نتائجه إلى أن 82 في المائة من الإنجيليين البيض في أميركا يعتقدون أن إسرائيل عطية من الله للشعب اليهودي مقابل 40 في المائة، وقال نحو 60 في المائة منهم -وفقاً لاستطلاع آخر أجرته وكالة «نورمبرغ» عام 2015- إنهم «سيدعمون إسرائيل بغض النظر عن المصالح الاقتصادية لبلادهم...». هل يقدم هؤلاء دعماً مالياً لإسرائيل؟
وتقول الوكالة الأخيرة إن المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة وحدها يقدمون دعماً سنوياً لإسرائيل يقدَّر بنحو نصف مليار دولار من خلال المساعدات المباشرة والجولات السياحية التي ينظمونها.
على أن المسألة في واقع الأمر تتجاوز الدعم المالي بكثير، فإسرائيل، حكماً، وإن كانت تهتم بالأموال إلا أن حاجتها الرئيسية في الداخل الأميركي هي إلى الدعم الآيديولوجي والفكري والسياسي والعسكري، وهذه هي العناصر التي كفلت للدولة العبرية بقاءها حتى الساعة.
إسرائيل اليوم في حاجة إلى الدعم الأدبي من الأصوليين الإنجيليين، سيما أنها تواجَه برفض كبير من قبل جماعات مسيحية أخرى داخل أميركا ترفض وحشيتها في التعاطي مع الفلسطينيين، وتأبى بقاء الاحتلال إلى أمد طويل على النحو الذي نراه، بل وصل أمر بعضها إلى سحب استثماراتها من داخل إسرائيل وحث مؤمنيها على مقاطعتها. يخدم الأصوليون الإنجيليون إسرائيل من خلال العمل على وقف نمو الجماعات المساندة للفلسطينيين في الداخل الأميركي، سواء من طلاب الجامعات أو أساتذتها وبقية المراكز البحثية والأكاديمية. بل إن الناظر إلى جماعة الضغط المساندة لإسرائيل اليوم في أميركا يجد أن نسبة معتبرة من الـ«أيباك» من هؤلاء الأصوليين وليست من يهود أميركا الذين انشقوا على أنفسهم وأسسوا لاحقاً جماعة أخرى تعرف بـ«جي ستريت».
في هذا السياق يمكننا فهم حرص نتنياهو في ختام جولته في أوروبا الشرقية، في يوليو (تموز) الماضي، على مخاطبة مؤتمر نظمته جماعة القس الإنجيلي جون هاغي «المسيحيون المتحدون لدعم إسرائيل» في الولايات المتحدة، حيث ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي على شاشتين عملاقتين يخاطب المجتمعين من العاصمة المجرية (بودابست) ويقول لهم «ليس لدينا أصدقاء أفضل منكم».

مفارقة دينية ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
من ناحية أخرى تلفت النظر هنا المفارقة العجيبة في النظرة اليهودية إلى هؤلاء الأصوليين، ويبدو أن كل ما يهم حكومة تل أبيب هو الحصول على أكبر عدد من الحلفاء في ظل تنامي الأصوات المنادية أوروبياً وأميركياً بإنهاء سياساتها العنصرية في الأراضي الفلسطينية... هل يعني ذلك أن يهود إسرائيل لا يثقون بالنيات النهائية للإنجيليين الأميركيين ومن لفّ لفّهم؟
يبدو أن ذلك كذلك، فالشك يبقى مسيطراً على العقلية اليهودية دائماً أبداً... إنهم يفهمون جيداً أن الدعم الأصولي المسيحي لإسرائيل، ليست الدولة العبرية هي المقصودة به تحديداً، وإنما الأصل أنها معبر وجسر لتحقيق النبوءات المسيحية عن المجيء الثاني ونهاية الأزمنة وخلاص العالم.

هذا التحليل يستقيم مع تصريحات الحاخام شلومو أفنير «من بيت آيل» قرب القدس، وهو حاخام نافذ، فقد قال مؤخراً: «ليس هناك شيء يُدعى (مسيحيون يحبون إسرائيل)»، ويضيف: «لسوء حظنا فإن المسيحيين لا يتركوننا وإنما يبحثون باستمرار عن طرق مبتكرة لإدخال دينهم (المسيحية) إلى إسرائيل... إنهم ينظمون شعائر مسيحية جماعية مفتوحة لليهود في حائط المبكى... أضم صوتي إلى دعوات الحاخامات الرئيسيين لمنع أي نشاط لهم».
لكن هذه الأصوات غير مؤثرة، إذ تستمر السفارة المسيحية الدولية في إسرائيل في دعم المنتجات الإسرائيلية على خلفية المقاطعة الأوروبية لاستيراد المنتجات الإسرائيلية من جميع أنحاء العالم. كارثة الأصولية الدينية الإنجيلية أنها دوغمائية مطلقة، تتطلع إلى الأخرويات، وتتجاوز حسابات السياسة والجغرافيا ومن هنا ينشأ ارتباطها العضوي بإسرائيل في الحال والاستقبال، حتى وإن رفضها اليهود موضوعاً وقبِلها بعضهم مثل نتنياهو شكلاً.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».