الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

مساق طويل من دعم الإنجيليين لها مالياً وأدبياً

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
TT

الأصوليون المسيحيون... وإسرائيل

أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)
أصوليون مسيحيون موالون لإسرائيل في إحدى مظاهراتهم بأميركا («الشرق الأوسط»)

وسط زحام مثير لأحداث الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة، جرت ملامحه ومعالمه في القدس الشريف المغتصب خلال احتفالات اليهود بأحد أعيادهم المهمة «عيد العرش» أو «عيد المظال»، امتلأت شوارع البلدة العتيقة بآلاف المسيحيين الإنجيليين، ذلك التيار الأصولي المسيحي المغرق في حب إسرائيل.
قصة الإنجيليين الداعمين لدولة إسرائيل ليست حديثة، ومع تولي دونالد ترمب الرئاسة الأميركية، يبدو أن البعض يعود لذلك الاتجاه الذي يخلط بين السياسة والدين خلطاً مقصوداً يؤثر على اتجاهات العملية السلمية بنوع خاص بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

القدس تغص بالأصوليين الإنجيليين
أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري يوافق حسب التقليد اليهودي «عيد العرش» أو «عيد المظال» والأصل في فكرة هذا الاحتفال –حسب التقويم اليهودي- هو تقديم الشكر لله الذي أعان بني إسرائيل على الخروج من أرض مصر، حيث لم يتسنّ لهم بناء بيوت حقيقية بالطريق، بيوت من الأحجار والقش، بل اكتفوا بالمظال والبيوت المؤقتة التي فوقها مظلة.
الذين قُدِّر لهم مشاهدة احتفالات العيد هذا العام تابعوا وصول الآلاف من المسيحيين الإنجيليين الأصوليين لا من الولايات المتحدة الأميركية فحسب بل من عدد كبير من الدول ومن قارات الأرض، حيث يوجد هذا التوجه المسيحي الخارج فكرياً عن أطر الكنائس التقليدية كالكاثوليكية والأرثوذكسية ومفاهيمها عن اليهود قديماً وحديثاً، والعيد بلا شك عيد يهودي، وعليه يصح التساؤل عن سبب احتفال المسيحيين الإنجيليين به؟
الجواب في حقيقة الأمر يحتاج إلى مؤلَّف مطوَّل، لكن باختصار نشير إلى أن «قائد» الانشقاق المسيحي الذي جرت به المقادير في القرن السادس عشر، الألماني مارتن لوثر كان هو مَن بذر بذور العودة المسيحية إلى الأحضان اليهودية عبر كتابه المعنون «عيسى وُلد يهودياً» والذي أصدره عام 1523 قبل أن يعود عام 1543، أي بعد عقدين تقريباً، ليكتب كتابه الآخر «اليهود وأكاذيبهم» وفيه يمحو أي إثر إيجابي لكتابه الأول من نفوس المسيحيين الذين اتبعوا طريقه الفكري.
لكن كان من الواضح أن الموعد قد فات، وأن تعميق اليهودية بشكلها الأصولي في قلوب المسيحيين البروتستانت قد تجاوزه الزمن.

المؤتمر المسيحي الصهيوني
في مؤلفه «الاختراق الصهيوني للمسيحية» يحدثنا القس الدكتور إكرام لمعي المنتمي إلى الكنيسة الإنجيلية المصرية، عن المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول الذي جرت وقائعه في إسرائيل عام 1988 شهر أبريل (نيسان)، وفي العاشر منه تحديداً، حين ألقى إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل، كلمة افتتاحية اتسمت بالعاطفة والحماسة دعا فيها مسيحيي العالم لتعضيد دولة إسرائيل، انطلاقاً من فكرتين رئيسيتين هما «علاقة إسرائيل الخاصة بالله كشعب» والثانية «أن عودة اليهود إلى فلسطين وتأسيس الدولة -حسب فكر هؤلاء الأصوليين من المسيحيين الإنجيليين- يعجّل بالمجيء الثاني للمسيح، الذي أحد شروط مجيئه تأسيس دولة إسرائيل، ليحكم من أورشليم العالم ولمدة ألف سنة».
والثابت أن هذا الطرح استغلته إسرائيل عنصرياً، الأمر الذي نبّه إليه عدد بالغ من المفكرين الغربيين أمثال مالكولم هيدنغ وجون وليم فان دي هوفن، ومن العالم العربي العلامة المصري الراحل الأب متّى المسكين، وجميع هؤلاء توقفوا أمام التلاعب اليهودي الإسرائيلي بالمقدرات الإيمانية للمسيحية حول العالم، في حين يبقى السؤال: كيف استطاعت تل أبيب استقطاب الآلاف، بل وربما الملايين، إلى هذا الفكر غير الخلاق؟ والأخطر هو: كيف انطلت تلك الخدعة وجاز ذلك الاختراق على عقول المسيحيين الغربيين وباتوا كأنهم منقادون انقياداً أعمى؟

مسيحيون يدعمون إسرائيل
المؤكد أن العمل الذي جرى لاكتساب هؤلاء، كان عملاً منظماً وكبيراً وأخذ عقوداً طوالاً لكي نصل إلى صورة المسيحيين الإنجيليين الذي يحملون أغصان السعف في شوارع إسرائيل احتفالاً بعيد العرش، وقد كان الاهتمام بهذا العيد قليلاً فيما سبق ولكن طرأ تغيير مهم بعد أن بدأت السفارة المسيحية العالمية في القدس «إقامة مؤتمر للمسيحيين هناك في فترة عيد العرش». كان المؤتمر الأول الذي عُقد عام 1980 يحفل بنحو 400 مسيحي من 45 دولة، والآن بلغ العدد الآلاف.
أما تلك «السفارة» فهي هيئة غير كنسية، مركزها القدس وتتبنى الآراء المتطرفة التي تدعو لزخم الشعب اليهودي، وقد جرى اختراقها فكرياً وروحياً بالمطلق إلى درجة اتباعها أنه من دون المساهمة اليهودية لم تكن لتنشأ المسيحية، وعليه فإن اليهودية لا تحتاج إلى المسيحية لتوضيح وجودها، بل العكس هو الصحيح، وهذا ما يعطينا فكرة أولية جذرية عن شكل العلاقة بين الطرفين ومن له اليد العليا في المشهد.
غير أن «السفارة» هذه في واقع الحال ليست الجماعة الأصولية المسيحية الوحيدة التي تدعم يهود إسرائيل، بل هناك العديد منها، أشارت إلى بعضها الكاتبة الأميركية أليكس هالسل في كتابها الشهير «النبوءة والسياسة»، ويبلغ عددها نحو 250 منظمة نشير باختصار إلى بعضها:
> ؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل: والذي رأسه في فترة سابقة البروفسور فرانكلين ليتل، المسيحي الأصولي الصهيوني الذي يؤمن إيماناً لا يطاوله شك بأن «كون المرء مسيحياً يعني أنه يهودي، وأن الواجب الأول لكل مسيحي هو أن يضع دعم أرض إسرائيل فوق كل وأي اعتبار آخر».
> المؤتمر المسيحي الوطني: ولقد وُلد ذلك المؤتمر من رحم «مؤتمر القيادات المسيحية الوطني لإسرائيل» أيام الهياج الذي أحدثته المنظمات الموالية لإسرائيل بشأن بيع طيارات الأواكس للمملكة العربية السعودية، وكانت الذريعة يومذاك أن تلك الطائرات تشكل تهديداً خطيراً لأمن إسرائيل، ووقتها انبرى القس المنهجي فرانكلين ليتل الذي أعلن أن تشكيل «المؤتمر المسيحي الوطني» استهدف توحيد الطوائف المسيحية ومنظماتها في سياق انشغالها بأمن إسرائيل وسلامة الوطن اليهودي، فقرر أن بيع تلك الطائرات «شكّل أخطر لحظة في تقويم البقاء الإسرائيلي».
> منظمة «تاف» لقساوسة الإنجيليين: «تاف» هو الحرف الأخير من الأبجدية العبرية، وربما اختاره القساوسة الإنجيليون اسماً لمنظمتهم إفصاحاً عن وضعهم كـ«ذيل» تحركه الصهيونية بعقلية لوثر الذي يرى أن اليهود هم أصحاب المائدة وبقية شعوب العالم -مسيحيين وغير مسيحيين- ليسوا أكثر من كلاب قابعة تحت تلك المائدة تنتظر الفتات المتساقط من الأرباب.
وفي أساس الإيمان الذي تروجه المنظمة ويعظ به أعضاؤها نجد هذه الأهداف التي أوجزها أحد كبار المنظّرين الآيديولوجيين للحركة الأصولية الأميركية «هال ليندسي» صاحب الكتاب الذي خلب لب رونالد ريغان الرئيس الأميركي الأسبق، وعنوانه «الراحل كوكب الأرض 1980»، ولقد حفظه ريغان عن ظهر قلب، كما خلب ألباب عشرات الأميركيين الذين جعلهم ريغان يمشون طوالاً رافعي الرؤوس.
يقول هال: «إننا يجب أن نكون محددين تماماً فيما نقوله عن إسرائيل بوصفها من علامات الساعة، ففيما يخص دور إسرائيل في المصير المحدد للأرض هناك 3 أشياء ينبغي أن تحدث:
أولها، أن تولد الأمة اليهودية من جديد على أرض فلسطين. وثانيها، أن يستعيد اليهود كل أورشليم وكل المواقع المقدسة فيها وأولها «جبل الهيكل». وثالثها، أن يعيد اليهود بناء هيكلهم المقدس على موقعه التاريخي «الأرض المقام عليها المسجد الأقصى». ويضيف: «وأياً كانت العقبات، من المقطوع به أن الهيكل سيعاد بناؤه» حيث يجب أن يقام.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن ذكر تلك المنظمات، لكن شفيق مقار في مؤلفه العمدة «المسيحية والتوراة... بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط»، يحدثنا عن العديد من المنظمات الأخرى المسيحية المتخصصة في دعم إسرائيل والترويج لها بين المؤمنين الأميركيين، مثل منظمة «المائدة المستديرة الدينية»، ومنظمة «الصوت المسيحي»، ومنظمة «الإذاعيين الدينيين» وعشرات غيرها.
والذي لا شك فيه هنا أمران:
الأول، أن الإيمان الديني قد أضحى سلاحاً ماضياً، وبخاصة في تشكيل مواقف واعتقادات شعب «طيب» كالشعب الأميركي شديد الاعتداد بسموه الروحي وقوي الإيمان بـ«رسالته» التي وضعتها العناية الإلهية على كاهله، ولقد كانت هذه دائماً حقائق أميركية عرفها وأجاد استخدامها الساسة ورجال الأعمال وصناع الرأي الأميركيون.
الآخر، أن تيار الأصولية المسيحية الأميركية بات وبالاً على شعوب وسكان الشرق الأوسط عامة، وعلى أصحاب الأرض الحقيقيين في فلسطين من مسلمين ومسيحيين عرب تعود جذورهم لعدة آلاف من السنين، ويبقى دعم هؤلاء لإسرائيل عاملاً مثبطاً لكل الجهود السلمية التي تسعى للتوصل إلى حلول عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية أو لإحلال السلام في الشرق الأوسط.

طوق نجاة لإسرائيل
عن أبعاد الدور الخدمي الذي لا يقدَّر بثمن والذي يقدمه الأصوليون الإنجيليون لدولة إسرائيل، نقول: إنه في أواخر العام 2014 أجرت مؤسسة «بيو» للأبحاث في واشنطن، وهي أحد أهم مراكز الأبحاث الموثوقة، استطلاعاً للرأي أشارت نتائجه إلى أن 82 في المائة من الإنجيليين البيض في أميركا يعتقدون أن إسرائيل عطية من الله للشعب اليهودي مقابل 40 في المائة، وقال نحو 60 في المائة منهم -وفقاً لاستطلاع آخر أجرته وكالة «نورمبرغ» عام 2015- إنهم «سيدعمون إسرائيل بغض النظر عن المصالح الاقتصادية لبلادهم...». هل يقدم هؤلاء دعماً مالياً لإسرائيل؟
وتقول الوكالة الأخيرة إن المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة وحدها يقدمون دعماً سنوياً لإسرائيل يقدَّر بنحو نصف مليار دولار من خلال المساعدات المباشرة والجولات السياحية التي ينظمونها.
على أن المسألة في واقع الأمر تتجاوز الدعم المالي بكثير، فإسرائيل، حكماً، وإن كانت تهتم بالأموال إلا أن حاجتها الرئيسية في الداخل الأميركي هي إلى الدعم الآيديولوجي والفكري والسياسي والعسكري، وهذه هي العناصر التي كفلت للدولة العبرية بقاءها حتى الساعة.
إسرائيل اليوم في حاجة إلى الدعم الأدبي من الأصوليين الإنجيليين، سيما أنها تواجَه برفض كبير من قبل جماعات مسيحية أخرى داخل أميركا ترفض وحشيتها في التعاطي مع الفلسطينيين، وتأبى بقاء الاحتلال إلى أمد طويل على النحو الذي نراه، بل وصل أمر بعضها إلى سحب استثماراتها من داخل إسرائيل وحث مؤمنيها على مقاطعتها. يخدم الأصوليون الإنجيليون إسرائيل من خلال العمل على وقف نمو الجماعات المساندة للفلسطينيين في الداخل الأميركي، سواء من طلاب الجامعات أو أساتذتها وبقية المراكز البحثية والأكاديمية. بل إن الناظر إلى جماعة الضغط المساندة لإسرائيل اليوم في أميركا يجد أن نسبة معتبرة من الـ«أيباك» من هؤلاء الأصوليين وليست من يهود أميركا الذين انشقوا على أنفسهم وأسسوا لاحقاً جماعة أخرى تعرف بـ«جي ستريت».
في هذا السياق يمكننا فهم حرص نتنياهو في ختام جولته في أوروبا الشرقية، في يوليو (تموز) الماضي، على مخاطبة مؤتمر نظمته جماعة القس الإنجيلي جون هاغي «المسيحيون المتحدون لدعم إسرائيل» في الولايات المتحدة، حيث ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي على شاشتين عملاقتين يخاطب المجتمعين من العاصمة المجرية (بودابست) ويقول لهم «ليس لدينا أصدقاء أفضل منكم».

مفارقة دينية ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
من ناحية أخرى تلفت النظر هنا المفارقة العجيبة في النظرة اليهودية إلى هؤلاء الأصوليين، ويبدو أن كل ما يهم حكومة تل أبيب هو الحصول على أكبر عدد من الحلفاء في ظل تنامي الأصوات المنادية أوروبياً وأميركياً بإنهاء سياساتها العنصرية في الأراضي الفلسطينية... هل يعني ذلك أن يهود إسرائيل لا يثقون بالنيات النهائية للإنجيليين الأميركيين ومن لفّ لفّهم؟
يبدو أن ذلك كذلك، فالشك يبقى مسيطراً على العقلية اليهودية دائماً أبداً... إنهم يفهمون جيداً أن الدعم الأصولي المسيحي لإسرائيل، ليست الدولة العبرية هي المقصودة به تحديداً، وإنما الأصل أنها معبر وجسر لتحقيق النبوءات المسيحية عن المجيء الثاني ونهاية الأزمنة وخلاص العالم.

هذا التحليل يستقيم مع تصريحات الحاخام شلومو أفنير «من بيت آيل» قرب القدس، وهو حاخام نافذ، فقد قال مؤخراً: «ليس هناك شيء يُدعى (مسيحيون يحبون إسرائيل)»، ويضيف: «لسوء حظنا فإن المسيحيين لا يتركوننا وإنما يبحثون باستمرار عن طرق مبتكرة لإدخال دينهم (المسيحية) إلى إسرائيل... إنهم ينظمون شعائر مسيحية جماعية مفتوحة لليهود في حائط المبكى... أضم صوتي إلى دعوات الحاخامات الرئيسيين لمنع أي نشاط لهم».
لكن هذه الأصوات غير مؤثرة، إذ تستمر السفارة المسيحية الدولية في إسرائيل في دعم المنتجات الإسرائيلية على خلفية المقاطعة الأوروبية لاستيراد المنتجات الإسرائيلية من جميع أنحاء العالم. كارثة الأصولية الدينية الإنجيلية أنها دوغمائية مطلقة، تتطلع إلى الأخرويات، وتتجاوز حسابات السياسة والجغرافيا ومن هنا ينشأ ارتباطها العضوي بإسرائيل في الحال والاستقبال، حتى وإن رفضها اليهود موضوعاً وقبِلها بعضهم مثل نتنياهو شكلاً.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.