«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

مع اختتام مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ
TT

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

«العم شي»... على خطى ماو ودينغ

أصدر الرئيس الصيني شي جينبينغ - أو «العم شي» كما بات يُعرف في الصين - «دليل عمل» يعبّد الطريق لإصلاح نظام بلاده الاقتصادي واستعادة مكانتها الدولية، في الوقت الذي رسّخ فكره ميثاق الحزب الشيوعي في مؤتمره الـ19، ضامناً بهذا مكانه في مصاف أبرز قائدين في تاريخ الصين الحديث: ماو تسي تونغ ودينغ هسياو بينغ.
وتشمل خطة شي جينبينغ الهادفة إلى استعادة الصين مكانتها في الساحة الدولية، وبناء جيش قوي وتحسين نظام الرعاية الاجتماعية والطبية وفق دولة قانون «اشتراكية»، إلى جانب ضمان «تعايش منسجم بين الإنسان والطبيعة». وفي حين يشكّك مراقبون دوليون في مدى جدية القيادات الصينية بتحسين أوضاع حقوق الإنسان وتوسيع مجال الحريات السياسية، تعهد شي «بقطع رؤوس الفساد» داخل الحزب وفي المؤسسات التعليمية والشركات العامة، مع الحفاظ على أسس الحزب الشيوعي ومبادئه.

بشهادة في الهندسة الكيميائية من جامعة شينخوا العريقة في العاصمة بكين، دخل شي جينبينغ جهاز الحزب الشيوعي الصيني شاباً لم يتجاوز 21 سنة. وتقلب في مناصب المسؤولية في إقليم فوجيان عام 2000 ثم إقليم جيجيانغ بعد سنتين من ذلك، قبل أن ينتقل إلى مدينة شنغهاي كبرى مدن الصين و«عاصمتها الاقتصادية».
والواقع أن القيادي الشاب قاد بنجاح برنامج إصلاحات اقتصادية واسعة في الإقليمين الساحليين، ما شجّع هو جينتاو، الرئيس الصيني - آنذاك -، على «الاستعانة» به لقيادة برنامج إصلاحات في شنغهاي. وانضمّ شي إلى المكتب السياسي الدائم للحزب الشيوعي خلال العام نفسه، وتولّى مهامه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012.
واليوم، بعد ترأسه الحزب والبلاد لمدة خمس سنوات وإعادة انتخابه على رأس الحزب الشيوعي الصيني لنصف عقد آخر، يعتزم شي جينبينغ أن يقود أكبر تحوّل تشهده الصين في القرن الـ21 وأن يغدو رمز «التجديد الصيني» على طريق استعادة مكانة إمبراطورية تداعت قوتها بعد حروب الأفيون والاستعمار الأوروبي والعدوان الياباني.

الإصلاح الاقتصادي
لعلّ أبرز إنجاز حققه شي خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه هو إصلاح اقتصاد الصين، التي حازت في هذه سمعة «ورشة العالم» لاعتمادها على تصنيع مواد رخيصة الثمن وتصديرها عبر العالم. وساعد الرئيس تشي جينبينغ خلال فترته الرئاسية الأولى، وفق تقرير نشره مركز «ستراتتفور» الأميركي للدراسات الاستراتيجية والأمنية، في نقل الصين من نموذج اقتصادي يقوم على السلع المصنعة المنخفضة التكلفة وذات القيمة المضافة إلى نموذج اقتصادي يركّز على الصناعات والخدمات المتقدمة والاستهلاك المحلي. كذلك أشرف شي على تغيير الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية لبلاده، فخرجت الصين من الإطار التقليدي لسياستها الخارجية، واتجهت نحو توسيع نطاق مصالحها في الخارج.
أما ثالث أهم بصمة لحكم شي، فهي الحرب على الفساد. إذ شنّ الرئيس الصيني حملة كبيرة ضد الفساد والفاسدين، وغيّر مسؤولين في الحزب وإدارته؛ ما ساعده في ترسيخ قوته داخل المؤسسات الحزبية.

الحزب من النشأة إلى عصر التجديد
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 1921، أسّس نحو عشرة حركيين ثوريين الحزب الشيوعي الصيني سراً في شنغهاي، ليصبح اليوم أضخم منظمة سياسية في العالم تعد 89.4 مليون عضو، أي ما يوازي 6.5 في المائة من إجمالي السكان.
ووصل الحزب إلى السلطة في 1949، ثم نجا من العقد الكارثي لـ«الثورة الثقافية» (1966 - 1976) التي أطلقها مؤسس النظام ماو تسي تونغ مستهدفاً قيادييه. ورغم ذلك، ما زال الحزب الشيوعي الصيني يتمتع بشعبية هائلة بين أكثر من مليار صيني.
ومنذ الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في أواخر السبعينات، انضمّ الصينيون بأعداد كبرى إلى الحزب الشيوعي. إلا أن العضوية ليست مفتوحة للجميع، بل تستهدف المتفوقين في الدراسة أو مجال الأعمال. ويتطلب تقديم طلب عضوية في الحزب الحصول على توصية، غالبا ما تكون من طرف خلية في الحزب في مكان العمل أو من لدن محاضر جامعي، وفق ليسلي هوك الكاتبة في صحيفة «الفاينانشال تايمز» البريطانية. وبعدها يخوض المرشّح عملية طويلة تشمل دروساً وأطروحات وامتحانات ومقابلات. وفي النهاية، يختار الحزب المرشحين الذين يعتبرهم جديرين بالثقة سياسيا والقادرين على إغنائه. لكن الحزب قصر طلبات، في المقابل، الترشح على المواطنين الصينيين منذ عام 1956، بعدما كان في السابق يضمن أميركيين ونيوزيلنديين وغيرهم، وفق هوك.

مؤتمر كل 5 سنوات
يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمراً كل خمس سنوات، يحتفي فيه بالإنجازات السابقة ويحدّد التحديات المقبلة. ويتيح المؤتمر الـ19 الذي انعقد الأسبوع الماضي في العاصمة بكين وأعاد تنصيب شي زعيماً لفترة ثانية، والذي تزامن هذا العام مع مرور قرن تقريباً على تأسيس الحزب عام 1921، فرصة للنظر في أداء الحزب خلال السنوات الخمس الماضية، والتخطيط لنصف العقد المقبل.
ولقد استغل شي هذا المؤتمر، فخاطب مئات المندوبين الذين يمثّلون «أكبر حزب في العالم» بأعضائه الـ89 مليونا وقد ارتدوا بدلات قاتمة وربطات عنق حمراء، ليشدّد على ضرورة الحفاظ على مكتسبات الحزب الفكرية والأخلاقية. وقال مخاطبا مندوبي الحزب: «على كلّ منا أن يبذل المزيد دفاعا عن سلطة الحزب والنظام الاشتراكي الصيني، والتصدي بحزم لأي أقوال أو أفعال من شأنها أن تقوّضهما».
وأضاف شي أن «الوضع في الداخل والخارج على السواء يشهد تبدلات عميقة ومعقدة (...) تطور الصين ما زال في مرحلة الفرص الاستراتيجية المهمة. الآفاق واعدة، لكن التحديات أيضا جسيمة». ولئن كان شي لم يعترض على الانتقال إلى «حكومة السوق الاشتراكية»، فإن رئاسته ترافقت مع عودة إلى الآيديولوجيا الماركسية وقمع معمم استهدف المحامين والمنشقين والمتدينين والإنترنت.

انفتاح على العالم
وشدد الرئيس الصيني في افتتاح المؤتمر الـ19 بـ«مزيد من الانفتاح» ومعاملة «منصفة» للشركات الأجنبية وتعزيز دور السوق»، استعار شي أثناء خطاب ألقاه الأسبوع الماضي وطال لـ3 ساعات، عبارات غالبا ما يستخدمها قادة «العالم الحر»، مؤكّدا أن «الانفتاح يجلب التطور، والانغلاق يعيدنا إلى الخلف. ولن تغلق الصين أبوابها، بل ستضاعف الانفتاح».
ووعد شي أمام حضور المؤتمر الذي استضافته قاعة الشعب الكبرى ببكين قائلا: «سنضيف مرونة كبرى إلى شروط الدخول إلى السوق (...) وسنحمي الحقوق والمصالح المشروعة للمستثمرين الأجانب. وستجري معاملة جميع الشركات المسجلة في الصين على قدم المساواة». ومن تعهد، وسط تصفيق نحو 2330 مندوباً حزبياً، مواصلة تحرير سوق العملات رغم أن تصريف اليوان ما زال يخضع للضوابط إلى حد كبير، من دون الكشف عن جدول زمني، كما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية. ويهدف كل ذلك حسب قوله، إلى تعزيز الانتقال من «نمو سريع» إلى تطور اقتصادي «يتمحور حول النوعية» وتخفيض الفوارق.
ويشار إلى أن عملية التحول الاقتصادي والسياسي التي شهدتها الصين، وما زالت تشهدها، قد بدأت قبل تولي تشي السلطة، إلا أنه ساهم في تسريع وتيرتها وتكريس بكين عاصمة أساسية في ملفات دولية معقّدة، على غرار الأزمة الكورية الشمالية. وفي المقابل، تواجه عملية التحول هذه تحدّيات كبيرة،، وفق تقرير مركز «ستراتفور» الأميركي، من بينها انعدام المساواة الاجتماعية والإقليمية، وزيادة حجم الديون، فضلا عن المشاكل البيئية المتفاقمة التي أصبحت تهدّد سلامة المواطنين في المدن الكبيرة والمناطق الصناعية.
من جهة ثانية، رغم وعود شي الطموحة، تشكك بعض الشركات الأجنبية في مدى جدية بكين في تحسين أوضاع المستثمرين الأجانب. وندّد بعضها بتعرضه لتمييز متزايد أمام المنافسين المحليين والمجموعات التي تحظى بنفوذ والتابعة للدولة. ذلك أنها ممنوعة من الوصول إلى بعض القطاعات أو ملزمة في قطاعات أخرى بمشاركة مؤسسة محلية يتخللها أحيانا نواقص تكنولوجية وتقنية وتشغيلية. وفي المقابل، رحّب آخرون بدعوة الرئيس الصيني إلى «دعم وتطوير المؤسسات الخاصة»، وتأييده لـ«إبطال» القوانين التي تحول دون «منافسة مشروعة»، ومطالبته بـ«تعزيز وتطوير القطاع العام بلا انقطاع».
وفي هذه الأثناء، يواصل شي سياسة تعزيز الشركات الوطنية عبر دمج بعضها لبلورة أقطاب وطنية، ودعم تلك التي تواجه الصعوبات ولو أنه يفرض تعديلات عليها تعزز فعاليتها وتقلص قدراتها الزائدة. كما تعزّز الدولة نفوذها على القطاع الخاص، إذ سعت بكين مؤخرا - كما ذكرت «أ.ف.ب» - إلى الحد من استثمارات المجموعات الخاصة الكبرى المدينة، على غرار «واندا» و«فوسون» و«انبانغ» للتأمين وغيرها.

«الحزام والطريق»
وعلى صعيد آخر، أدرج شي مبادرة البنية التحتية الدولية الكبيرة، المعروفة باسم مشروع «الحزام والطريق»، في لائحة الحزب بشكل رسمي، في خطوة نادرة. وقال أبراهام دنمارك، مدير برنامج آسيا في مركز «ويلسون» لمجلّة «دي أتلانتيك» الأميركية إنه من غير المعتاد أن ذكر مشروع خاص بالسياسة الخارجية، مثل مبادرة مشروع «الحزام والطريق» بشكل صريح في لائحة حزب. وأردف: «يشير هذا إلى أنهم يرونه في إطار جهود طويلة المدى ستبذلها الصين لعقود مقبلة» لتعزيز نفوذها في آسيا.
ورغم تبني بعض دول جوار الصين لتلك المبادرة، التي أنفقت الصين بموجبها مئات المليارات في هيئة قروض على مشاريع بنية تحتية في منطقتها وخارجها، وصفت الولايات المتحدة الأميركية تلك المبادرة ب«الاقتصاد المفترس». وفي الكثير من الحالات، تنتظر الصين استرداد تلك القروض، ويمكنها أيضاً الاستحواذ على المشروعات التي قامت بتمويلها، مثل موانئ في باكستان أو طرق في سريلانكا، في حال عدم تسديد الديون وتعويضها.
ويجوز اعتبار مبادرة «الحزام والطريق»، إلى جانب محاولة وسائل الإعلام التابعة للدولة الواضحة تصدير نموذج الحكم في الصين، محاولة بكين لممارسة نفوذها في الدول النامية. ووصف دنمارك تغطية وسائل الإعلام التابعة للدولة للمؤتمر العام باللغة الإنجليزية بالـ«مبالغة في تصوير الإنجازات» بشكل ملحوظ، وتمثل ابتعادا عن الماضي. وأضاف قائلا: «يشير هذا حقاً إلى رؤيتهم للحقبة الجديدة للصين تحت حكم شي جينبينغ كفترة تقوم خلالها الصين بترجمة الرخاء، الذي حققته في حقبة دينغ هسياو بينغ، إلى قوة جيوسياسية حقيقية... في آسيا وربما في أنحاء العالم».

«صين تقدمية»
على الصعيد الدولي، فاجأ شي جينبينغ العالم في العام الماضي من على منبر «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس (سويسرا) بخطاب دافع فيه عن العولمة وفوائدها، وشدّد عبره على أهمية المضي قدما لتطويرها؛ وهذا بعدما كانت بكين أشرس المقاومين على مدار السنوات الماضية للعولمة. ومن ثم قدّم شي نفسه زعيما مستعدا لملء الفراغ الذي يبدو أن الولايات المتحدة قد تتركه في الساحة الدولية.
وحذر الرئيس الصيني الدول من العودة إلى «سياسات الحماية التجارية»، في هجوم واضح على خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب وشعاره «أميركا أولا». كما شبّه شي الحماية التجارية بأن «يحبس المرء نفسه في غرفة مظلمة لكي يحمي نفسه من الخطر؛ لكنه يحرم نفسه داخل الغرفة في الوقت ذاته من النور والهواء». وإلى ذلك، عمدت بكين إلى لعب دور «حليف موثوق» للدول الأوروبية في قضايا تراجع فيها دور واشنطن، أبرزها التغير المناخي وإطلاق مفاوضات مع كوريا الشمالية لحل أزمة الأسلحة النووية.
وعلى صعيد التحديات الدولية العاجلة التي تتحدّى قيادة الصين الإقليمية، فإن الأزمة الكورية الشمالية والضغوط الأميركية على بكين تشكّل التحدي الأكبر لقوة شي جينبينغ ومصداقيته داخليا وخارجيا. ففي حين دعمت الصين نظام بيونغ يانغ المعزول دوليا على مرّ عقود، بدت وكأنها تعتمد خطا أكثر تشددا تجاهه عبر موافقتها على فرض عقوبات أممية هي الأقسى على الاقتصاد الكوري الشمالي، كما وجّهت مصارفها بتعليق التعامل مع الشركات الكورية الشمالية.
وللعلم، شهدت علاقة شي بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون توترا خلال الفترة الماضية؛ إذ استغل كيم استضافة الرئيس الصيني قمتين دوليتين هذا العام، لتسليط الضوء على برنامج بلاده الصاروخي والنووي. فمع استعداد شي في مايو (أيار) للتحدث إلى قادة العالم الذين اجتمعوا في بكين عن مبادرته «حزام واحد طريق واحد»، وهو برنامج يتعلق بالتجارة والبنى التحتية تقوده الصين، أجرت بيونغ يانغ اختبارا ناجحا لصاروخ باليستي. ومن ثم في سبتمبر (أيلول)، أجرت كوريا الشمالية أقوى اختبار نووي في تاريخها، قبل ساعات فقط من اعتلاء الرئيس الصيني المنصة لإلقاء خطاب عن العالم النامي خلال قمة لدول الـ«بريكس». واعتبر التوقيت بمثابة رسالة إلى شي ومحاولة من الزعيم الكوري الشمالي لدفع جاره الصيني إلى إقناع الرئيس الأميركي ترمب بالتفاوض معه. وفي أي حال، في حين رسّخ المؤتمر الشيوعي مكانة شي بصفته أقوى زعيم يحكم الصين منذ عقود، فإن علاقته المعقّدة مع ترمب وفشل مساعيه لحل الأزمة الكورية الشمالية حتى الآن يظلان عنصرين يحظيان باهتمام العالم.

ترسيخ «فكر شي»
ثلاث كلمات تحدّد مسار الصين، البلاد العملاقة التي يتجاوز عدد سكانها مليار و400 مليون نسمة. ثلاث كلمات قد تعرّف «صين القرن الـ21» في كتب تاريخ الأجيال القادمة؛ هي «فكر شي جينبينغ». إذ صوّت مندوبو الحزب الشيوعي الصيني، الثلاثاء الماضي، لصالح إدراج «فكر شي جينبينغ عن الاشتراكية بسمات صينية للعصر الجديد»، في ميثاق الحزب.
وتفصّل هذه الكلمات الثلاث 14 مبدأ أساسيا تحدّد توجّه البلاد داخليا وخارجيا، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وتشمل هذه المبادئ إصلاح مبدأ سيادة القانون، والحاجة إلى تطبيق النسخة الصينية من الاشتراكية، والحفاظ على البيئة، مع اتجاه الصين نحو زيادة حصتها من الطاقة المتجددة، ومنح الحزب الشيوعي «سلطة مطلقة» على الجيش.
من جهة أخرى، سيدرّس «فكر» شي في المدارس الصينية، ويروّج له في وسائل الإعلام التابعة للدولة، لضمان أن تظل آيديولوجية الرئيس الصيني ذات أهمية سياسية وثقافية لسنوات، إن لم يكن لعقود مقبلة. وهنا يقول دنمارك، من معهد «ويلسون»، إن شي سيكون له «قدرة أكبر على توجيه السياسات عبر كل أجهزة الدولة الصينية، من حكومة وحزب وجيش، لكن هذا سيضع في الوقت ذاته المزيد من الضغط على من يعارضونه ويجبرهم على الخضوع ودعم مبادراته».
في المقابل، يرى كريستوفر جونسون، المستشار في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، في تصريحات له أن هذا يساعد أيضاً في ترسيخ مكانة شي كواحد من الزعماء الثلاثة البارزين للصين في العصر الحديث. ويضيف جونسون: «إنه يتبنى صيغة دينغ هسياو بينغ للاشتراكية ذات الطابع الصيني، لكن مع تعديلها بحيث تتفق مع إدراكه أن هناك حقبة جديدة، ويساعده هذا في محو كل من جيانغ زيمين وهو جيناتو اللذين سبقاه في حكم البلاد، من التاريخ السياسي، فهو يتحدث فعلياً عن ثلاث حقب في تاريخ الصين الحديث هم حقبة ماو وحقبة دينغ... وحقبته».
ويبدو أن «فكر شي» لا يسعى فقط إلى ضمان مكانته إلى جانب اثنين من مؤسسي الصين الحديثة، بل يبدو وكأنه يسعى لضمان استمراره على رأس هرم السلطة بعد تجاوزه سن التقاعد غير الرسمي المحددة بـ68 سنة، وانقضاء فترتي الرئاسة اللتين يسمح بهما القانون.
ويرى محللون أن تجنب شي ترشيح وجه سياسي بارز لتسلم قيادة الحزب عام 2022، قد يكون دليلا على اعتزامه البقاء في السلطة. ولقد نقلت صحيفة «الغارديان» البريطانية عن المحاضر في جامعة كولومبيا، أندرو نيثن، قوله في هذا الشأن إن تعزيز تشي صورته داخل الحزب خلال السنوات الخمس الماضية تنذر بأنه سيمدد فترة حكمه بعد انتهاء فترته الثانية. ولفتت الصحيفة إلى أن الرئيس الصيني الحالي برز بصفته قائدا محتملا خلال المؤتمر الـ17 للحزب عام 2007، ومن جهتها، نقلت صحيفة «التلغراف» البريطانية عن محللين أن شي قد يبقى على رأس الحزب والجيش بعد انتهاء فترته الثانية فيها يصبح منصب رئيس البلاد «صورياً».
في المقابل، كان تريستان كيندوردين، مدير الأبحاث في «فيوتشر ريسك» والخبير في السياسات الصينية التجارية والصناعية والزراعية، أكثر حذرا. وقال لـ«دي أتلانتيك» معلقاً «دائماً ما نبالغ في التكهن بهذه الأمور، لأننا ببساطة لا نعلم. إن خمس سنوات مدة طويلة في السياسة الصينية».
عموماً، يعتبر كثيرون أن الشعبية التي يحظى بها شي جينبينغ اليوم تدعم بقاءه في الحكم بعد عام 2022، إذ إن الشعب يراه قوياً ويدافع عن مصالح الصين على مستوى العالم، كما تحظى الحملة المناهضة للفساد التي يقودها بدعم شعبي. ويدعم المواطنون كذلك إنجازاته خلال الخمس سنوات الماضية قد فاقت في حجمها وقيمتها إنجازات سلفه. وبهذا الصدد، يرى دنمارك أنه «لم يتّضح بعد ما إذا كان شي سيبقى في السلطة بشكل رسمي بعد عام 2022، لكنه إذا غادر المنصب رسمياً فإنني أتوقع أن يستمر نفوذه وتأثيره على المشهد السياسي في الصين لفترة طويلة». وهنا يضيف محذراً: «قد يظل شي مسيطراً لكن من وراء الستار لمدة أطول من دينغ، فرغم تقاعد دينغ رسمياً، ظل محتفظاً فعلياً بسلطته لعدة سنوات إلى أن تدهورت صحته. لكن يعتمد الأمر على مدى قوة حلفاء شي السياسيين خلال الفترة الرئاسية المقبلة، لذا لننتظر ونر تفاعله وأداءه خلال فترته الرئاسية الحالية».



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر