إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة 2): «الإخوان».. من طهران إلى القاهرة وبالعكس

استغلتهم الدول الاستعمارية مبكرا في لعب أدوار سياسية توافق مصالحها

إيرانيون بساحة مسجد فاطمة الزهراء بقم في طريقهم إلى أداء الصلاة
إيرانيون بساحة مسجد فاطمة الزهراء بقم في طريقهم إلى أداء الصلاة
TT

إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة 2): «الإخوان».. من طهران إلى القاهرة وبالعكس

إيرانيون بساحة مسجد فاطمة الزهراء بقم في طريقهم إلى أداء الصلاة
إيرانيون بساحة مسجد فاطمة الزهراء بقم في طريقهم إلى أداء الصلاة

في عشرينات القرن الماضي، وجدت تركيا وإيران ومصر - الأمم الثلاث التي كانت لقرون عدة، بيئة خصبة لإنتاج الجدل والتمرد الإسلاميين، بما في ذلك الترويج للعديد من البدع - نفسها تمضي في مسارات تفضي إلى المجهول.
ففي تركيا، أي ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، حاولت القيادة الجديدة وضع أكبر مسافة ممكنة بين الدولة والإسلام؛ حين تأسس النظام الكمالي على مفهوم العلمانية، الذي يعني - وفقا للتفسير التركي - أن تهيمن الدولة على الدين، ومن ثم فقد أصبح الدين هو ما تقره الدولة في الجمهورية التركية الجديدة.
وفي إيران، لم تكن الدولة البهلوية تشعر بالقدر نفسه من الالتزام بالعلمانية الذي كانت تشعر به الدولة التركية. لكنها حاولت بناء نظام لا يتجاوز فيه الإسلام كونه دينا وجزءا من حقيقة أكبر وأكثر تعقيدا. وأكدت الدولة الجديدة، على «مجد» إيران ما قبل الإسلام، وروجت للوطنية الجديدة التي تعتمد على «الهوية الآرية» لإيران، بدلا من صلتها بالدين العربي.

كانت مصر تمر بأزمة أكثر عمقا فيما يتعلق بدور الدين في المجتمع؛ ولم يلق المؤرخون القدر الكافي من الانتباه للدور الذي لعبته الآيديولوجيات الغربية، سواء في معسكر اليسار أو اليمين الليبرالي، في إعادة تشكيل الروح السياسية المصرية الجديدة في العقود الأولى من القرن العشرين. ومع ذلك، سوف يكشف إلقاء نظرة أكثر قربا على المشهد النخبوي في مصر، في تلك الفترة، تنوعا سياسيا وآيديولوجيا هائلا، حيث كان لكل من القومية العربية، والعروبة، والوطنية المصرية، والاشتراكية، والشيوعية، والفاشية، والتيار الليبرالي المحافظ، جماهيرها الانتخابية. والمثير للانتباه، وكان واضحا، هو أن الدين بالنسبة للنخب المصرية، كان يبدو وكأنه شأن من شؤون الماضي، ومجموعة من المعتقدات العاجزة عن تقديم إجابات للتحديات التي تواجهها أمة تعيش تحت الهيمنة الأجنبية.
وإذا ما نظر البعض للمشهد السياسي في تلك البلدان الإسلامية المحورية، في بداية العشرينات من القرن الماضي، ربما يستنتج أن الإسلام، كقوة سياسية، كان يتراجع تاريخيا. لكن مثل تلك التحليلات يعتمد على خطأ أساسي؛ حيث اتخذ الإسلام في الدول الثلاث، رد فعل دفاعيا من خلال تنظيم صفوفه والسعي للحصول على دور جديد. ففي تركيا، انسحب الإسلام إلى أخويات صوفية، عادة ما كان يجري تنظيمها في جماعات سرية أو حركات دينية اجتماعية شعبوية، اعتادت تقديم نفسها باعتبارها جمعيات خيرية (وتعد الحركة التي يقودها حاليا فتح الله غولن أحد النماذج على ذلك).
وفي إيران، ونظرا لأن النسخة الإيرانية من الإسلام، الشيعية، كانت لديها دائما، تنظيماتها الخاصة، كان بإمكان رجال الدين الانسحاب إلى المساحة التي خلقوها لأنفسهم على مدار قرون طويلة؛ حيث انتقل آيات الله ببساطة إلى النجف، التي نشأت حديثا في العراق للتخلص من الضغوط التي كان الشاه يفرضها عليهم في طهران. وكما كان الحال في تركيا، شهدت الأخويات الصوفية ازدهارا خاصا في المدن الكبرى. وأثبتت الحشود الهائلة من الحجاج التي كانت تزور الأضرحة الشيعية «المقدسة» في «مشهد» و«قم»، أن الدين لا يمكن إقصاؤه ببساطة من الحياة الإيرانية.
وفي مصر، حاول الأزهر، الاحتفاظ بدور خاص لنفسه ولكن غياب طبقة رجال دين منظمة ذات قواعد شعبية، كما كان الحال في إيران، ترك فراغا ملأته، لاحقا، جماعة الإخوان المسلمين. كما كانت مصر تفتقر للحركات الصوفية القوية التي ازدهرت في تركيا وإيران. ومع ذلك، كان للإسلام السياسي ميزة أساسية في مصر؛ وهي حركات النهضة الحديثة التي ركزت على إجراء إصلاحات دينية في القرن التاسع عشر.

* رجل من الشرق

* كان الشخص الرئيس الذي يقع في قلب ذلك الجدل هو جمال الدين الأفغاني، وهو ناشط سياسي إيراني كان يحلم بإنشاء دولة عصرية قوية على النموذج الأوروبي بقيادة «ديكتاتور تنويري».
ولد الأفغاني في أسعد آباد، غرب طهران. في البداية كتب جمال الدين، الذي لم يزر أفغانستان أبدا، سيرته الذاتية كأفغاني، وأطلق على نفسه اسم الأفغاني لإخفاء عقيدته الشيعية أثناء عمله في البلدان التي يهيمن عليها السنة مثل الإمبراطورية العثمانية ومصر. وإحقاقا للحق، لم يزعم جمال الدين أبدا أنه سني مسلم، ولكنه كان يمارس التقية. وتزعم بعض المصادر أن القيادات الشيعية في «قم»، أرسلت جمال الدين إلى إسطنبول ثم إلى القاهرة في عام 1871، لفحص إمكانية نشر المذهب الشيعي في الإمبراطورية العثمانية، فيما زعم آخرون أن جمال الدين أرسل في مهمة لمواجهة النفوذ المتنامي للحركة الإسلامية المحافظة التي يتزعمها محمد عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية.
وأكد محمد محيط الطباطبائي، وهو أحد كاتبي السيرة الذاتية لجمال الدين، ذلك جزئيا، حين قال: «لم يحصل جمال الدين أبدا على تدريب أو إقرار بكونه رجل دين، وكان يقدم نفسه إلى المرجع بـ(قم) باعتباره مبلغا. ولكن على أية حال، هناك شكوك حول تكليفه بأية مهام خاصة من قبل آيات الله، حيث كان جمال الدين أقرب إلى كونه رجل سياسة، وكان أكثر اعتدادا بذاته من أن يتلقى الأوامر من أحد». كما يذكر الكاتب أيضا، أن جمال الدين خلال سفرياته إلى الإمبراطورية العثمانية، ولاحقا إلى فرنسا وبريطانيا، كان متأثرا، إلى حد كبير، بالأفكار الغربية الليبرالية. ويضيف الطباطبائي: «لقد كان هدفه هو جلب المسلمين إلى العالم المعاصر». ويقول: «لقد أراد أن ينشئ المسلمون دولا على الغرار الأوروبي فيما يحافظون على إيمانهم».
ويمكن تعزيز ذلك التحليل، عندما نضع في اعتبارنا علاقة جمال الدين بعدد من السياسيين الإصلاحيين الإيرانيين، خاصة ميرا ملكم خان، والأمير منوشهر ميرزا. ولاحقا، ذكر اسم جمال الدين أيضا في واقعة اغتيال ناصر الدين شاه قاجار، ملك إيران، على يد ميرزا رضا كيرماني في مايو (أيار) 1896. ومن المؤكد أيضا، أن جمال الدين كان من أوائل مؤسسي المحافل الماسونية في مصر وتركيا وإيران. ويؤكد كاتب سيرة جمال الدين، أن أفكاره لعبت دورا محوريا في الحث على الثورة الدستورية في إيران في عام 1905. وبمعني آخر، فإن جمال الدين، أو السيد جمال، كما يحب المصريون أن يطلقوا عليه، كان ينظر للدين كأداة في خدمة السياسة وليس العكس.
وسوف تصبح بعد ذلك فكرة الإسلام كأداة سياسية، مكونا حيويا للإسلام الحديث بأشكاله المختلفة – بداية من الإخوان المسلمين والخمينية وصولا إلى «القاعدة».
ومن جهة أخرى، تضمن المشهد السياسي في عشرينات القرن الماضي، في العالم الإسلامي، الدراما الموازية للنزاع بين القوى الأوروبية. فقد كانت القوة المهيمنة في المنطقة هي بريطانيا العظمى، ولكنها كانت تواجه تحديا متناميا من النظام السوفياتي في روسيا بآيديولوجيته الشيوعية الراديكالية المناهضة للإمبريالية والساعية إلى تحقيق العدالة للأمم الفقيرة. كما شهد أواخر العشرينات أيضا، بزوغ تحدي آيديولوجيا جديد للهيمنة البريطانية، وهو الفاشية التي نشأت، في البداية، في شكلها المخفف، على يد بنيتو موسوليني في إيطاليا في الثلاثينات وما بعدها، ثم في نسخة أكثر حدة على يد أدولف هتلر في ألمانيا. وسرعان ما اكتسبت الفاشية، بنسخها المختلفة، جمهورا خاصا بها في قلب العالم الإسلامي خاصة في تركيا وإيران ومصر.
وفي مواجهة آيديولوجيتين راديكاليتين؛ الفاشية والشيوعية، لم يكن بوسع البريطانيين الاعتماد على الديمقراطية الليبرالية التي تبدو أكثر اتساقا مع المنطق من المشاعر.
ونظرا لأن الديمقراطية الليبرالية تعتمد على مفهوم أن تحيا وتدع الآخرين يحيون، فإنها تصبح مثيرة للشكوك بالنسبة لمن تتمركز عقيدتهم حول مفهوم «إما أن تقتل أو تقتل»، خاصة فيما يتعلق بالدين أو القومية القمعية.

* الدين كسلاح سياسي

* لقد ظهرت فكرة استخدام الإسلام كسلاح في النزاعات والحروب ضد القوى الأوروبية، لأول مرة، في القرن الثامن عشر، عندما غزا نابليون بونابارت مصر. فخلال تلك الفترة، أشاع الجنرال الفرنسي أنه اعتنق الإسلام، وأنه يسعى «لتحرير» المسلمين الرازحين تحت حكم «الكفار»، قاصدا البريطانيين. ولاحقا، استخدمت بريطانيا أساليب مشابهة ترددت أصداؤها في العديد من الروايات، بما في ذلك رواية بنيامين دزرائيلي «كوننيجسباي». وخلال الحرب العالمية الأولى، انتشرت شائعات، بأن قيصر ألمانيا اعتنق الإسلام. ورد البريطانيون على تلك الشائعة، بنشر أخرى تفيد بأن شخصية إسلامية مقدسة كانت تختبئ لقرون عدة، على وشك العودة وقيادة الجيوش الإسلامية في حربها ضد الألمان. وأصبحت تلك الفانتازيا هي محور رواية جون بوشان الباهرة «غرينامنتل» التي نشرت في عام 1916. ولاحقا، عندما حاول الكولونيل توماس إدوارد لورانس تبني تلك الرواية في العالم الحقيقي، استحوذ ما أطلق عليه «الانتفاضة العربية» على الخيال البريطاني.
وبعد ذلك، ظهرت فائدة جديدة لفكرة «غرينامانتل» في أواخر العشرينات، عندما واجهت الشركة الأنجلوفرنسية التي تمتلك قناة السويس، أزمات متكررة من قبل العاملين المصريين المتأثرين بالشيوعية و/ أو القومية العربية. وكانت إحدى طرق مواجهة تلك الآيديولوجيات «غير الإلهية» من الشيوعية والقومية، هي الاستعانة بالديانات ذات الشعبية الواسعة التي كانت في تلك الحالة هي الإسلام. ومن ثم، فعندما أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين، سارعت الشركة بالإعلان عن اهتمامها بتلك الحركة. كما كان استخدام مصطلح «الإخوان» مطمئنا، إذ إنه كان يشبه المصطلحات الماسونية التي يقوم أعضاؤها بحلف قسم الولاء، وينظرون لبعضهم البعض باعتبارهم «إخوة».
ويصر بعض منتقدي جماعة الإخوان المسلمين، على أن الحركة كانت من اختراع الاستعمار البريطاني من بدايتها. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة قوية على مثل تلك المزاعم، فإن المؤكد أن شركة القنال وحركة البنا الجديدة، كان لديهما العديد من المصالح المشتركة. وأن الشركة دعمت الجماعة، على الأقل، في المراحل الأولية لنشأتها في الإسماعيلية. وتبرز حقيقة وقوف الجماعة، بعد ذلك، ضد بريطانيا حقيقتين:
أولا، أن الإخوان المسلمين أصبحوا في موقف قوي بما يكفي لأن يجعلهم غير محتاجين للدعم الأنجلوفرنسي.
ثانيا، بعدما أسست الحركة شبكة خاصة بها من الدعم، أصبح بإمكانها وضع الأجندة الخاصة بها. وفي الوقت نفسه، كان التهديد الذي مثله الشيوعيون والجماعات الفاشية بالنسبة للقنال قد تراجع، ولم يعد للظهور في المشهد مرة أخرى، إلا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ورفع الضباط الأحرار راية القومية العربية.
مما لا شك فيه، أن استخدام القوى الغربية العظمى للدين كأداة لسياستها الإمبريالية ليس خفيا؛ فمن أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك، الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة للجماعات الإسلامية الراديكالية في أفغانستان كجزء من النزاع الأوسع ضد الإمبراطورية السوفياتية.
وخلال الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، واجهت بريطانيا تهديدا مماثلا في إيران. ففي مصر، هدد الشيوعيون والقوميون المصالح البريطانية في القنال. وفي إيران، جاء التهديد من الجماعات نفسها لشركة البترول الأنجلوإيرانية، التي كانت تمارس احتكارا كاملا لإنتاج البترول الإيراني ومبيعاته. وعندما اندلعت الحرب الأوروبية الكبرى في 1939، كان الإيرانيون موالين للألمان إلى حد كبير. وكان هناك نحو 4000 عميل ألماني يشار إليهم باعتبارهم «خبراء فنيين» يعملون في إيران، وهم من أشاع أن هتلر تشيع، وأن اسمه الجديد هو «حيدر»، وهو أحد الألقاب التي تطلق على علي بن أبي طالب، أول أئمة الشيعة.
وجرى تفسير الصليب المعقوف، رمز الحزب النازي، باعتباره «صليبا مكسورا»، ومن ثم دليلا على أن «حيدر» حطم الرمز الذي كان «الكفار» بمقتضاه يحاربون الإسلام. وقد أبدى بعض الملالي، خاصة أبو القاسم كاشاني، تعاطفا مع النازيين نظرا لكراهيتهم للبريطانيين. فيما كان البعض الآخر، مثل آية الله العظمى محمد حسين بروجردي، يؤمن بأن بريطانيا وألمانيا النازية يمثلان «السيئ»، و«الأسوأ» ومن ثم فإنه كان حريصا على الوقوف إلى جانب أهون الشرين. كما كانت هناك حالة واسعة من التعاطف مع الألمان بين صفوف الجيش الإيراني، حيث كانت الآيديولوجية الآرية تشير إلى أن الألمان والإيرانيين ينتمون إلى العائلة الثقافية العرقية المعروفة باسم العائلة الهندوأوروبية نفسها. وكان أقوى رجلين في الجيش، وهما العمداء زاهدي والشاه بختي، من الموالين الأقوياء لألمانيا.
ومع ذلك فإن المثير للدهشة، هو أن العديد من جماعات النازية الإيرانية أخفقت في جذب الجماهير. فقد كانت إحدى الجماعات التي كان يتزعمها محمد نخشاب، تتكون من عشرات النشطاء، فيما لم يتمكن حزب العمال الاشتراكي المعروف باسم «سومكا»، الذي كان بقيادة داود مونشي زاده أبدا، من أن يصبح تنظيما على مستوى البلاد. ومن جهة أخرى، جذبت نسخة أقل حدة من النظرية الآرية، روج لها حزب «بان إيرانيست»، نسبة من الجماهير ولكن لفترة محدودة.
وعلى النقيض، انجذب عدد كبير من الإيرانيين، على نحو مثير للدهشة، للآيديولوجيات اليسارية، خاصة نسخة الاتحاد السوفياتي من الشيوعية، حيث أصبح حزب توده الإيراني، الذي أنشئ في أعقاب الغزو السوفياتي لإيران في عام 1941، حركة شعبية حقيقية. وفي مرحلة ما، كان الحزب والتنظيمات التابعة له ينشر نحو 11 صحيفة يومية ويهيمن على المشهد النخبوي الإيراني. وفي ذروة نشاطه، كان يزعم أن لديه نحو 50 ألفا من حاملي بطاقات العضوية.
وبحلول عام 1944، أصبح واضحا، أن دول المحور بقيادة ألمانيا سوف تخسر الحرب، وهو ما يعني نهاية التهديد الذي تمثله النازية بالنسبة للمصالح البريطانية في إيران. ومع ذلك، ظل التهديد الشيوعي، الذي كان الاتحاد السوفياتي يعززه، قائما. فقد كانت كل من بريطانيا وروسيا تتصارعان على الهيمنة في إيران منذ القرن التاسع عشر، وقد توقف هذا النزاع لفترة قصيرة أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية، عندما اضطرتا للتحالف معا. ومع اقتراب انتهاء الحرب، كان من المؤكد أن روسيا سوف تسعى، مرة أخرى، لتحقيق حلمها في الوصول إلى «المياه الدافئة»، من خلال الهيمنة إن لم يكن ضم الدولة الإيرانية الضعيفة. هل كانت هناك قوى إيرانية يمكنها مقاومة مثل تلك النتيجة؟
حتى قبل انتهاء الحرب، طرح السفير البريطاني، السير ريدر بولارد، المعروف بمعاداته الشديدة لإيران، والمؤرخة آن لامبتون ذلك السؤال. وكان كلاهما مقتنعا بأن الاعتماد على القومية الإيرانية أمر شبه مستحيل. فقد كانت نسختهم الآرية، التي كان مفكرون من أمثال کاظم‌ زاده ایرانشهر، يعبرون عنها، معادية تماما لبريطانيا، وتميل للثأر التاريخي. وفي نسختها الأقل حدة، والتي كان يمثلها أشخاص مثل الشاعر الشهير، محمد تقي بهار، كانت تميل للانحياز إلى السوفيات في مواجهة الإمبريالية البريطانية.
ولم يكن كل من بولارد ولامبتون مخطئين في النظر إلى الشيوعية باعتبارها تهديدا خطيرا للنفوذ البريطاني في إيران. فقد كان حزب توده يلقى رواجا بين طوائف المجتمع المدني الإيراني كافة. وكان العديد من المثقفين إما أعضاء فعليين فيه أو متعاطفين معه. والأهم من ذلك، هو أن تودة كان يجذب حتى قطاعا من رجال الدين الشيعة، بما في ذلك بعض الملالي ذوو الشعبية، مثل مصطفى لنكوراني وعلي أكبر البرقعي. وفي عام 1945، فاز حزب توده بمكانة أعلى، بعدما شارك في الحكومة الائتلافية بثلاثة وزراء. وكانت لامبتون تؤمن بأن الإيرانيين لن يتمكنوا من تطوير آيديولوجيا قومية قادرة على مقاومة تحديات الشيوعية، والحفاظ على مصالح بريطانيا، وأن أي شكل من أشكال القومية الإيرانية العلمانية، سوف يصبح مناهضا لبريطانيا. وكان الخيار الوحيد الباقي، هو ترويج «الحل الإسلامي» لإيران. وأصبح ذلك موضوع البحث الذي نشرته لامبتون بعد انتهاء الحرب. في هذا البحث، طورت فكرة حكم السلطة الدينية، وهو المفهوم الموجود في الشيعية تحت عنوان «ولاية الفقيه»، ولكنه يفتقر للدلالة السياسية. وتحدثت عن وضع الأفراد المعرضين للخطر، مثل الأرامل والأيتام، تحت رعاية رجل دين محل ثقة ليحميهم من أي شخص يحاول استغلال وضعهم. وعلى الرغم من أن لامبتون كانت أول شخص يحاول ترجمة تطبيق «ولاية الفقيه» إلى مصطلحات سياسية، طور الإخوان المسلمون في مصر، أيضا، معتقداتهم السياسية إلى حكومة دينية.
فهل يمكن جمع التجربتين المصرية والإيرانية معا وتطوير آيديولوجيا إسلامية جديدة قادرة على مواجهة تحديات العلمانية من خلال آيديولوجيا مناهضة للإمبريالية؟
حاول شاب طموح من أصفهان، تقديم إجابة على هذا السؤال، وهو مجتبى مير لوحي، الذي سيصبح مؤسس النسخة الإيرانية من الإخوان المسلمين ثم بعد ذلك بعقود، الأب الروحي للجمهورية الإسلامية التي أسسها آية الله روح الله الخميني.



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.