العودة إلى الرقة... قرار يؤجله الدمار وألغام «داعش»

المجلس المدني للمدينة يحدد أولويات لعودة النازحين وتعليمهم

TT

العودة إلى الرقة... قرار يؤجله الدمار وألغام «داعش»

يحول الدمار الهائل الذي خلفته نيران الحرب المستعرة بين عناصر تنظيم داعش و«قوات سوريا الديمقراطية» في محافظة الرقة (شمال سوريا) دون عودة أبناء المدينة التي قد تتأخر أشهرًا عدة.
لدى التجول في الشوارع والأحياء، تبدو مظاهر الدمار الذي حل بها شاهدة على شراسة المعارك القتالية، حيث يمكن رؤية كثير من المنازل والمحال التجارية التي أصبحت أثراً بعد عين، ولم يتبق منها سوى الأطلال، أما التي نجت من القصف؛ فلم تسلم أبوابها ونوافذها جراء ضغط الانفجارات في المناطق المحيطة بها.
وقدّرت الأمم المتحدة أن 80 في المائة من مساحة الرقة باتت غير قابلة للسكن، وتعاني المدينة حالياً من غياب كامل للبنية التحتية الأساسية، في حين تقول مجموعة «Airwars» المتخصصة في مراقبة الضحايا المدنيين للقصف الجوي، الذي تقوم به القوات الروسية وقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق وسوريا، إن قوات التحالف ألقت 5775 قنبلة وقذيفة وصاروخاً على الرقة، في شهر أغسطس (آب) فقط، ما أدى إلى سقوط 433 قتيلاً مدنياً على الأقل. وبحسب المجموعة نفسها، يرجح أن طائرات التحالف وجهت نحو عشرين ألف ضربة للرقة، خلال شهور القتال التي استمرت نحو 4 أشهر، بين يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول).
وتقع مدينة الرقة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وتبلغ مساحتها نحو 27 ألف كيلومتر مربع، كان يسكنها نحو 300 ألف نسمة من سكانها، إضافة إلى نزوح نحو مائة ألف من المناطق المجاورة للمدينة حتى نهاية 2013، وبعد سيطرة عناصر تنظيم داعش في يناير (كانون الثاني) 2014؛ فرَّ غالبيتهم إلى مخيمات عين عيسى (غرباً) والمبروكة (شمال غرب) والمناطق المجاورة، وتحتاج المدينة إلى بنية تحتية وجهاز شرطة، وغيرهما من الأمور الأساسية، ليتمكن هؤلاء من العودة إلى ديارهم.

ثلاث مهمات رئيسية
يستعد مجلس الرقة المدني لتسلم إدارة مدينة الرقة (شمال سوريا) شبه المدمرة، من «قوات سوريا الديمقراطية» التي طردت تنظيم داعش المتطرف في 17 الشهر الجاري، من معقله الأبرز سابقاً في سوريا.
وتشكل المجلس منتصف شهر أبريل (نيسان) العام الجاري، في اجتماع ضم مائة شخصية اجتماعية وعشائرية من أبناء المدينة، في بلدة عين عيسى التابعة للرقة، أسسوا مجلساً مدنياً لإدارة المحافظة، وانتخبوا الشيخ محمود شواخ البرسان، والمهندسة ليلى مصطفى، للرئاسة المشتركة، إلى جانب 3 نواب و10 شخصيات في عضويته الرئاسية، ثمانية منهم عرب، واثنان من الأكراد.
كما يتألف المجلس من 14 لجنة تخصصية، ومن بين أبرز التحديات التي ستواجه عمله خلال الفترة القادمة، إزالة الألغام وتفكيك المفخخات التي زرعها عناصر التنظيم بكثافة، وكذلك رفع الأنقاض والركام جراء الحرب المحتدمة في شوارع المدينة، أما المهمة الثالثة فهي إعادة عملية التربية والتعليم بعد 3 سنوات من الانقطاع.
«تم وضع برامج تقييمية لدراسة كافة المناطق المتضررة من الناحية الخدمية والصحية والتعليمية والإدارية، وقمنا بمسح جميع النواحي التي تخص جوانب الحياة في الرقة، وبناءً على تلك الدراسات تم وضع خطة بعنوان خطة الاستجابة السريعة»، بحسب المهندسة ليلى مصطفى الرئيسة المشتركة لمجلس الرقة المدني. وكشفت أن هذه الخطة تتألف من ثلاث نقاط رئيسية، وتضيف: «أولى النقاط إزالة الألغام، ولن تتم إلا عبر منظمات متخصصة وشركات دولية، فعودة الأهالي مشروطة بتنظيف مدينتهم من مخلفات تنظيم (داعش)، بعدها ستبدأ ورش المجلس الفنية في رفع الأنقاض وجبال الركام المنتشرة في جميع أنحاء الرقة، وفتح الشوارع والمداخل الرئيسية، ليتمكن سكان الرقة من العودة والمساعدة في عمليات إعادة الإعمار».
وتتوقع رئيسة المجلس المدني للرقة، أن يتطلب تنظيف الرقة وإعادة إعمارها جهوداً ضخمة، وشهوراً عدة قبل أن تعود الحياة الطبيعية إلى شوارعها، وبحسب خطة الاستجابة السريعة، وبعد إزالة الألغام ورفع النفايات، ستبدأ عمليات إعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي.
وتابعت المهندسة ليلى كلامها لتقول: «أما النقطة الثالثة في الخطة فتتمحور حول عملية التربية والتعليم التي توقفت لمدة ثلاث سنوات ونصف، فقد طلبنا من الأمم المتحدة ودول التحالف مساعدتنا؛ لأن جيلاً كاملاً من الطلاب حرموا من التعليم، وتجب متابعة دراستهم».
وفي نهاية الشهر الماضي، سافر أعضاء من المجلس المدني، بينهم رئيسة المجلس ليلى مصطفى، إلى العاصمة الإيطالية روما، وعقدوا اجتماعات مع دول التحالف الدولي، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكشفت مصطفى: «لمسنا من هذه الدول جدية في التعامل مع المجلس المدني، وتعهدوا بتقديم المساعدة، وخصصت هولندا مليوناً ونصف مليون يورو لعمليات إزالة الألغام، وقدم الاتحاد الأوروبي منحة مالية قيمتها مليونا يورو لإزالة الألغام أيضاً».
وزار الأسبوع الماضي بريت ماكغورك ممثل الرئيس الأميركي، ووفد من التحالف الدولي، بلدة عين عيسى، واجتمع مع أعضاء المجلس المدني، ونقل استعداد بلاده للخطوات القادمة، ومواصلة العمل مع دول التحالف لتقديم المساعدة الإنسانية للمحتاجين، ودعم جهود إرساء الاستقرار في الرقة، وإنشاء «صندوق دعم الاستقرار بالرقة» والذي يتبع وزارة الخارجية الأميركية، لجمع الأموال والهبات المالية لعملية الإعمار في الرقة.

تحدي إزالة الألغام
بدت آثار الدمار وحدها مسيطرة على المشهد في الأحياء الواقعة على أطراف المدينة، حيث تمت استعادتها بداية الهجوم قبل 4 أشهر، وانهارت أسقف كثير من المنازل أو خلعت أبوابها، أما المحال التجارية فتعرضت للدمار وسويت بالأرض، لكن المشهد بدا صادماً أكثر في وسط المدينة، وتحديداً في ساحة الساعة ومركز المحافظة ودوار النعيم، حيث جرت معارك عنيفة جداً للسيطرة على أبنية استراتيجية، وبات من الصعب التفريق بين منزل ومتجر، إذ تحول معظمها إلى جبال من الركام، وتناثرت الحجارة وأنابيب المياه وأسلاك الكهرباء، ولم تعد صالحة لتشغيلها مرة ثانية.
في مبنى مؤلف من طابق واحد وسط بلدة عين عيسى الواقعة غرب مدينة الرقة، تعمل لجنة إعادة الإعمار التابعة للمجلس المدني، توسط مدخلها لوحة كتب عليها كثير من الإعلانات، أحدها يعلن عن مسابقة لتوظيف عمال فنيين ذوي خبرة في قطاعي الكهرباء والمياه، وحاجة اللجنة إلى حملة الشهادات، وثانٍ يطلب من أصحاب الجرافات الثقيلة والجرارات استئجار آلياتهم، وتوظيفها في عمليات رفع الأنقاض والركام في مدينة الرقة.
يقف رئيس لجنة الإعمار إبراهيم الحسن أمام خريطة قسمت الرقة إلى مجموعة من الدوائر والألوان، ويشير بإصبعه إلى أن مركز المدينة نال القسم الأكبر من الدمار والخراب، أما أطراف المدينة فنسبة الدمار فيها أقل ضرراً، ويقول: «قسمنا الرقة إلى 16 قطاعاً للعمل؛ لأن هناك مناطق تصل نسبة الدمار فيها إلى أكثر من 90 في المائة، وهي الأحياء التي بقي عناصر (داعش) يقاتلون فيها حتى النهاية، مثل حارة البدو، ودوار النعيم، والملعب الأسود، والمشفى الوطني».
وتضم لجنة الإعمار ورشة للكهرباء، وثانية للمياه، وفريقاً خاصاً للطوارئ مهمته انتشال الجثث العائدة لعناصر التنظيم، ترافقه هيئة من الطب الشرعي، ويزيد الحسن: «إزالة الألغام تشكل تحدياً كبيراً بالنسبة لنا، لا نستطيع القيام بأي عمل قبل نزعها من المنطقة»، مضيفاً أن اللجنة حددت 45 يوماً مدة زمنية لإنجاز أول خطوة ضمن خطة الاستجابة السريعة برفع الأنقاض والنفايات، لتتم بعدها إعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، منوهاً بأن: «مدة شهر ونصف غير كافية لرفع الركام، بتصوري الشخصي سنحتاج إلى 3 أشهر كحد أدنى، حتى تفتح الشوارع والمداخل الرئيسية ليتمكن الأهالي من العودة إلى منازلهم».
والخطة تقوم على فتح الشوارع الرئيسية، وعددها 23 شارعاً، ثم الانتقال إلى المداخل الخارجية والتي عددها 10. ولقد حددت اللجنة مكبين لتجميع الركام والأنقاض، أحدهما في المدخل الشرقي، والثاني في الجهة الغربية، وكانا قبل الحرب مخصصين للنفايات والقمامة.
وتعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم 3.5 مليون يورو لعمليات إعادة الإعمار، فيما تعهدت دول التحالف الدولي بدعم مشروعات قصيرة المدى وسريعة الأثر. ويقول رئيس لجنة الإعمار إبراهيم الحسن، إن الاجتماعات بين الممولين والمسؤولين المحليين والمنظمات غير الحكومية متواصلة يومياً؛ لكن «لم يتم حتى الآن تحديد الكلفة النهائية لإعادة الإعمار، وليس واضحاً من هي الجهة التي ستتولى تأمين الجزء الأكبر من الأموال، ولم تحدد موازنة مالية حتى تاريخه».

تضرر البنية التحتية
وتغيب المياه عن الرقة منذ أشهر عدة، ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الآبار للاستخدام قبل بدء الهجوم الأخير على المدينة في يونيو الماضي. ويشرح المهندس ياسر الخلف من لجنة المياه، أن المجلس انتهى من تجهيز محطة مياه الكسرات الأساسية (غرباً) والتي توجد فيها مضختان عموديتان واثنتان أفقيتان، وطاقة كل منها 500 متر مكعب في الساعة، لتضخ نحو ألفي متر مكعب في الساعة وستعمل بحدودها الدنيا، وتبلغ طاقتها الإنتاجية نحو 8500 متر مكعب في الساعة، وأضاف: «أما محطة مياه المسلخ وبئر الهشم فهما محطتان داعمتان، تروي الأولى منطقة الرقة السمرا والحمرات وربيعات والجهة الشمالية الشرقية للرقة، واستطاعتها الإنتاجية ألف متر مكعب في الساعة، أما الثانية فتروي مركز المدينة».
ولا يوجد تيار كهربائي في المدينة نتيجة الأضرار الكبيرة التي طالت خطوط الإمدادات وشبكات الكهرباء، وأوضح مهندس الكهرباء وائل الشيخ من لجنة الكهرباء، أن الدمار طال معظم شبكات الكهرباء، وتضرر عدد كبير من الأبراج والمحولات الرئيسية، وقال: «أكثر شبكة تعرضت للدمار هي الكهرباء، كون خطوطها خارجية، ثم تأتي بعدها المياه، وأخيراً الصرف الصحي، اللجنة تعمل على تجهيز محطة الرقة الكهربائية الرئيسية الواقعة شرق المدينة، أما محطة تحويل الفروسية فتحوي محطتين لتحويل الطاقة، كل منهما طاقته الاستيعابية 125 ميغاواط، وتتغذيان من سد الفرات».
ويقع سد الفرات غرب الرقة، ويبعد نحو 50 كيلومترا، ويبلغ طوله 4.5 كيلومتر، وارتفاعه أكثر من 60 متراً، وتبلغ كميات المياه المخزنة أكثر من 14 مليار متر مكعب. وتعتبر المحطة الكهرومائية جزءاً أساسياً من سد الفرات، وهي من أكبر المحطات التي تولد الطاقة الكهربائية في سوريا، وتنتج سنوياً من الطاقة نحو مليارين ونصف كيلوواط ساعي.‏
وأكد المهندس وائل الشيخ، أن «السد عبارة عن 8 بوابات تصريف مياه، كل بوابة مزودة بعنفة توليد الطاقة الكهربائية، وتولد 880 ميغاواط بالساعة إذا عملت كل عنفاته التي تبلغ طاقة كل واحدة منها نحو 110 ميغاواط، لكن بعدما انسحب عناصر (داعش) ألحقوا أضراراً جسيمة بخمس عنفات، ولا تعمل سوى عنفتين، أما الثامنة فقيد الصيانة والتجهيز».
ولا تزال كتابات التنظيم الكثيرة منتشرة على جدران المنازل والمرافق العامة في الرقة، تذكِّر أبناءها بحقبة سوداء، فيما يسود شعور بين الأهالي بأنَّ إعادة الاستقرار والأمن إلى المناطق التي تخرج عن سيطرة «داعش» ونشر الطمأنينة والسلام بين الأهالي؛ يتوقفان إلى حد بعيد على انضباط قوات الأمن الداخلي، ومدى قدرتها على الدفاع عن هذه المناطق، إلى جانب وجود إدارة مدنية تحظى بقبول أبنائها.
وأشرفت الأردن بالتنسيق مع التحالف الدولي والقوات الأميركية على تدريب قوات الأمن الداخلي التابعة للمجلس المدني، لتنتشر في الرقة. وذكر المحامي إبراهيم الفرج رئيس لجنة العدالة في المجلس، أن الأردن «دربت ثلاثة آلاف شرطي من أبناء الرقة وريفها لحفظ الأمن والسلام في المحافظة، وتسلمت هذه القوات ريف المدينة، وهي على استعداد للعمل داخل مركز المدينة».

مرحلة بناء الإنسان
وقد بدأ الجهاز عمله بشكل فعلي، وانتشرت عناصر الشرطة في معظم القرى والبلدات والمناطق المحررة، حيث تلعب دوراً رئيسياً في عملية إعادة الأمان والاستقرار، وبات بالإمكان مشاهدة عناصر الشرطة يلبسون زياً مختلفاً عن «قوات سوريا الديمقراطية» في نواحي وبلدات الرقة. وأضاف الحسن: «يجري تدريب نحو 75 شاباً بمعدل أسبوعي لهذا الغرض، إلى أن يتم الانتهاء من تدريب العدد المطلوب وفق الخطة المعتمدة للمجلس. الأسبوع الماضي مثلاً تم تخريج دفعة قوامها 170 شرطياً، وتم تأسيس هيئات قضائية في بلدات الطبقة وعين عيسى والكرامة، ويجري العمل على تأسيس دور القضاء في باقي المناطق المحررة».
ومنذ سيطرة تنظيم داعش على مدينة الرقة بداية عام 2014، عمد إلى تحويل المدارس والأبنية العامة لمقرّات أو سجون له، كما منع التلاميذ من الدراسة والتعليم وفق المنهاج الرسمي المعتمد في سوريا، وفرض على الطلاب والشباب الخضوع إلى دورات تعليم دينية.
عبد الفتاح ناصر عكر، المنحدر من عشيرة الولدة، وهي عشيرة عربية كبيرة في الرقة، بقي يعمل في القطاع التربوي بمدينة الرقة مدة 27 سنة، وفي بداية شهر أبريل 2015، استدعي إلى المكتب الأمني التابع لتنظيم داعش الذي كانت المدينة خاضعة لسيطرته آنذاك، ووجهت له تهمة «رفض تطبيق أوامر الخليفة البغدادي» بسبب رفضه التدريس في المعاهد الشرعية التابعة للتنظيم وقتذاك.
أما اليوم فيشغل رئيس لجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المدني، وقد افتتحت اللجنة مدرسة «حطين» في منطقة الأسدية التي تبعد نحو كيلومترين غرب الرقة. وعلى الرغم من القصف والحرب الدائرة في المناطق المجاورة أثناء الهجوم الأخير، بقيت الهيئة تتابع عملها. ويقول التربوي عبد الفتاح: «لم تكن المعركة تبعد عنا سوى أمتار، وبقينا نتابع عملنا»، حيث يبلغ عدد التلاميذ بمدرسة «حطين» 1050، والمنهاج المعتمد هو الكتاب المدرسي السوري الصادر عن مديرية التربية والتعليم في دمشق، بعد حذف الدروس التي تمجد الأشخاص والأحزاب، والتي تدعو إلى التطرف الديني، في إشارة إلى دروس مادة القومية والتاريخ في المرحلتين الإعدادية والثانوية، التي تمجد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وابنه رئيس النظام الحالي بشار الأسد، وحزب البعث الحاكم، على حد تعبير عبد الفتاح العكر.
وبين أبرز العقبات التي تواجه قطاع التعليم في الرقة، اعتماد منهاج دراسي وتأمين الكتب المدرسية، وتشكو لجنة التربية من قلة الخبرات والكادر التعليمي، ونوه العكر بأن «المعلمين والموجهين التربويين السابقين يرفضون ارتياد مدارس الإدارة، خشية من غضب النظام؛ لأنه يهددهم بالفصل تارة أو بقطع الرواتب عنهم تارة ثانية، فالنظام لا يزال يستخدم هذه الورقة لتهديد أبناء مدينة الرقة».
ويكشف مصدر مطلع على مفاوضات عقدت قبل شهرين، عبر وسطاء بين مجلس الرقة المدني، ووزارة التربية السورية، أنَّ الطرفين اختلفا حول أحقية رفع العلم السوري فوق المدارس والمجمعات التربوية، وطالب مجلس الرقة مراراً حكومة النظام بتزويد الرقة بالكتب المدرسية، إلا أن الوزارة لم توافق على الطب بعد.
وبحسب عبد الفتاح عكر، افتتحت لجنة التربية بالمجلس المدني جميع المدارس في ريف الرقة كاملاً، وتوجد 75 مدرسة، يداوم فيها أكثر من 25 ألف تلميذ، وبلغ عدد الكادر التدريسي نحو 600 معلم، وبلغ عدد المدارس التي خرجت عن الخدمة في ريف الرقة 20 مدرسة؛ لأنها تعرضت للدمار.
يتابع العكر كلامه ليقول: «أما داخل مدينة الرقة فهناك 25 مدرسة في المراحل التعليمية الثلاث؛ لكنها خرجت عن الخدمة بسبب الدمار والخراب، وإعادة تأهيلها تتوقف على المنظمات الدولية، والأمم المتحدة التي وعدت بمساعدة المجلس في إعادة العملية التربوية إلى الرقة».
ومنع تنظيم داعش على مدار ثلاث سنوات ونصف التلاميذ في الرقة من ارتياد المدارس. ويلفت العكر إلى أن «الهيئة اعتمدت منهاجاً مكثفاً، وسيخضع الطالب لامتحان فصلي كل ثلاثة أشهر مع دورة استثنائية، والطالب الذي ينجح في الامتحان يرتفع إلى الصف التالي لسد الفجوة التعليمية، ومزامنة عمر التلميذ مع مرحلته الدراسية».
وأكد أن الهيئة طلبت من المجمعات التربوية وإدارة المدارس، تخصيص حصص للدعم النفسي، ودروس ترفيهية وتكثيف الأنشطة والرحلات المدرسية، لإخراج التلميذ من دائرة الحرب، ومحو حقبة «داعش» من ذهنية الطلاب. ولفت في ختام حديثه إلى أنَّ «مرحلة الحرب العسكرية في الرقة انتهت، وبدأت معركة بناء الإنسان، وعودة الأجيال إلى العلم والمعرفة».



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية