سيوران.. فيلسوف الهدم وشاعر الغضب

عد الوجود كله مثيرا للسخرية والشفقة

إميل سيوران
إميل سيوران
TT

سيوران.. فيلسوف الهدم وشاعر الغضب

إميل سيوران
إميل سيوران

لم تكد تشرق شمس الثامن من أبريل (نيسان) من عام 1911 إلا وصوت غراب مشؤوم كان نعيقه أوضح من زقزقة العصافير، لتلد الأم المتمردة الشاكة بالدين والوجود ثمرة حب وزواج من كاهن أرثوذكسي محافظ.. كانت الثمرة الفيلسوف الروماني إميل سيوران، وذلك في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية، والتي كانت حينها تحت هيمنة نمساوية مجرية، كان الصراع بين النموذجين، الأم والأب، العصفورة والغراب، واضحا في فلسفته إلى أن توفي في 12 يونيو (حزيران) 1995 بباريس. رضع سيوران من أعتى الفلسفات تشاؤما. وأسس للمعنى والغضب كما يشرح حميد زنار في كتيب وضعه عنه بعنوان: «المعنى والغضب.. مدخل إلى فلسفة سيوران».
من أشهر كتبه: «مقايسات المرارة» الذي ترجم إلى العربية بعنوان مأخوذ عن شذرة له هي: «المياه كلها بلون الغرق»، كما ألف كتابه ذائع الصيت: «تاريخ ويتوبيا». تأثر بالكتابة الشذرية النيتشوية، كما جنحت فلسفته إلى الغضب والمساءلة والاحتجاج والتساؤل، لم يكن يمتلك أي أجوبة بقدر ما هو حارث في أرض الوجود على طريقة الفلاحين، والصعاليك الحائرين، وإذا غضب ارتعد وكتب شذرات هي على مستوى من القراءة المأساوية الحائرة في النظرة للوجود. استعمل النظرة الشرقية للخلاص والاستسلام لهذا العالم مع الاحتجاج عليه، والإضراب ضد العيش فيه أو الاستمتاع به، وهو بهذا إنما يعيد نظرة شبنهور لكن بصيغة شعرية أكثر منها صيغة فلسفية، ذلك أن شبنهور أقوى تشييدا للصرح الفلسفي خاصة، من شذرات سيوران التي هي مزيج من الشعر والفلسفة.
لم يكن سيوران جادا في تناوله للموضوع الفلسفي، ذلك أنه يعد الوجود كله مثيرا للسخرية والشفقة، فهو القائل: «إذا أمكن للإيمان أو السياسة أو الحيوانية النيل من اليأس، لا شيء ينال من الكآبة، لا يمكن أن تتوقف إلا مع آخر قطرة من دمنا». وفي كتابه: «تاريخ ويتوبيا» يكتب ضمن فصل: «في صنفين من المجتمعات.. رسالة إلى صديق بعيد»: «أنا إذن متعلق بأرباع أفكار، وبأضغاث أحلام، وقد وقعت على الفكر خطأ، أو بسبب هستيريا لا علاقة لها ألبتة بالحرص على الدقة، أبدو لنفسي دخيلا على المتمدنين، مثل ساكن كهوف شغوف بكل ما هو لاغ، منغمس في صلوات هدامة، فريسة هلع لا ينبثق عن رؤية للعالم، بقدر ما يعود إلى تشنج اللحم، وظلمات الدم، لقد بت في صمم تام عن نداءات الأنوار، وعن العدوى اللاتينية، حتى أنني أشعر بأسيا تتململ في شراييني».
لم تكن رؤية سيوران الفلسفية إلا «أسيانية» تبث المأساوية في العالم بوصفها أصلا، وأن أنشطة الناس اليومية ليست إلا هربا من غلطة وجودهم، وأن الوجود مثل عدم الوجود كله خلل. من هنا تكون «أسيانيات» الفلاسفة الكبار أمثال شبنهور أو حتى هيدغر الذي مهد لفوكو بإعلان «موت الإنسان» كان أكثر عقلانية وتنظيرا في مشروع «أسيانيته» كما لم يكن مضربا عن الوجود، بل عاش الحياة بتفاصيلها، ووضع لعلاقاته العاطفية مسارا نخبويا بعيدا عن خيارات الجموع، أو «الهم» كما يعبر هيدغر أيضا.
سيوران يعد نفسه «فيلسوف عواء» ولا يعتني بالقارئ بوصفه شريكا له في معنى النص، بل يبدد معانيه كالشرر، ويوزع بندقية قوله مرتجفا مثل رام مبتدئ، وإذا قرأناه وجدنا نصه الآتي: «الكتب الوحيدة التي تستحق أن تكتب، هي تلك التي يؤلفها أصحابها من دون أن يفكروا في القراء، ومن دون أن يفكروا بأي جدوى، وبأي مردود». يعد قوله وفلسفته هي عيشه، ولم يكن يحب تقليب الكلمات، بل أنى تهيأ الحرف أطلقه من دون ترتيب أو تشذيب، وهذا ما يلحظه القارئ أكثر في: «المياه كلها بلون الغرق»، ذلك أن الأسلوب كان محتشدا ضمن تكثيف العبارة، أكثر مما هو عليه في «تاريخ ويتوبيا».
لم يكن السطح العميق مغريا لسيوران الذي يصب جام غضبه على مناهج هيغل وروسو، بل يعد الرديء الجيد، والتفاهة العامة هي الملاذ والملجأ، يكتب: «الشعوب التي لا تحتفل بالتفاهات والطيش، والأمور التقريبية، الشعوب التي لا تعيش مبالغتها الكلامية، هي كارثة بالنسبة إلى نفسها، وبالنسبة إلى الشعوب الأخرى، إنها تحط بثقلها على لا شيء، وتتعامل بجد مع ما هو ثانوي، وبتراجيدية مع ما لا أهمية له، وأن تنشغل إضافة إلى ذلك بحماس فياض للوفاء، وبقرف كريه من الخيانة، فهذا يجعلنا نفتقد منها كل رجاء، باستثناء الرجاء في انهيارها التام.. لو احتل نابليون ألمانيا بجيش من مرسيليا لتغير وجه العالم».
يربط التوازن السياسي بتسيد الأشخاص عديمي الكفاءة، حيث رأى أنه «لا يمكن أن يوجد توازن سياسي، من دون أشخاص عديمي الكفاءة من النوع الجيد. من الذي يتسبب في الكوارث؟ إنهم المسكونون بداء الحركة العنينون، المصابون بالأرق، الفنانون الفاشلون الذين حملوا التيجان أو السيوف والأزياء العسكرية، وأكثر منهم جميعا المتفائلون، أولئك الذين يقترفون الأمل على حساب الآخرين».
بقي سيوران من طينة الشعراء والفلاسفة الكبار، أولئك الذين نحبهم في قلوبنا، لكن عقولنا تأبى الإضراب عن الحياة أو الاحتجاج المستديم أو الكآبة التامة، غير أن وجود شيء من الأسى على ما يحيط بهذا المحيط من كوارث إنما هو من صميم رقابة الفيلسوف على تصرفات البشر، ذلك أنه مراقب بمشارطه لسوءات الأحداث والتصرفات، ولمستجدات العاهات، وإلا لكان العالم مجرد طاولة طعام ضخمة تصعد فيها أصوات التجشؤ.
وأختم هذه الشخصية بمقولة له: «في عالم لا كآبة فيه لن يكون أمام العنادل غير التجشؤ» (العنادل: جمع عندليب، وهو طائر صغير الجثة، سريع الحركة، كثير الألحان، يسكن البساتين، ويظهر في أيام الربيع).



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.