من سيد قطب إلى الحازمي... منزلقات التأصيل الأصولي

قراءة في آيديولوجيات التطرف العنيف

اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي  (إ.ب.أ)
اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي (إ.ب.أ)
TT

من سيد قطب إلى الحازمي... منزلقات التأصيل الأصولي

اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي  (إ.ب.أ)
اعتقال عناصر خلية من «داعش» في ضواحي مدريد في يوليو الماضي (إ.ب.أ)

تبدو الأصوليات وآيديولوجيات التطرف العنيف تأويلات خارجة عن المستقر في وعي الأطر والمؤسسات القومية والدينية وما استقر من تراكم تاريخي وزمني في وعي الناس من حالات الصدام والتغالب في علاقتها بذاتها والعالم... لذا فهو غالباً يقطع شعورياً أو لا شعورياً مع التراث والتاريخ السالف وإن ظل جزءاً من هويته أو دعوته في الحق والعدل يرتكز عليه ويستنفر به
قطع الخوارج الأُول مع مقام وتراث وفهم الصحابة والصدر الأول الذين عاصروهم، وتجرأوا على تكفير كبارهم وهم بين ظهرانيهم لم يرحلوا بعد. وكذلك غالوا في مشادتهم في فهم الدين والإمامة حتى آمنوا بقتل المختلف والقاعد ومن لم يكفّر الكافر ولو كان عثمان وعلي بن أبي طالب (رضى الله عنهما) أو صحابياً مثل عبد الله بن خباب بن الأرت. وهم يأخذون بظاهر الآيات لغايتهم، بقطعٍ دون وصل، وطرحٍ دون جمع. وظلت متتابعة غلوهم تُخرج الأشد من الأقل شدة، حتى أكل بعضها بعضاً ولم يبقَ في التاريخ والواقع إلا أكثرها اعتدالاً.
بيد أن هؤلاء تميّزوا في اللغة وبقي أدبهم وشعرهم أمكن من فكرهم، كما كثر أدباؤهم، رجالاً ونساءً، وخلّدوا بطولاتهم في ديوانه، من عبد الرحمن بن ملجم إلى عمران بن حطّان إلى مرداس بن أدية وغيرهم.
هنا تبدو اللغة ملاذاً ومنزلقاً خطيراً لكل كلامية خارجة تأتي بسابقة، وخارجية لم تسبق إليها، فهي تحصر الفهم في النص مباشرة، منه وإليه، وتمارس عليه التأويل الذي قد ينحرف مخالفاً ما استقر في قواعد الدين وتراثه وتجربته.
كذلك، انزلقت فرق الغلو الأخرى قديماً وحديثاً، بإرادتها الآيديولوجية المسبقة في فهم النص وتطويعه وفق ما تريد، في التكفير أو الخروج أو الاستحلال أو غيرها، تيهاً باطنياً يصطنع له عمقاً ومنطلقات مختلفة حيناً، وحشوية ظاهرية تقف عند ظاهره دون ربط ودون سياقات مرة أخرى. والنص مفتوح حمّال أوجه، كما كان يقول الإمام علي (رضى الله عنه)، فيخرج الخبط عن الضبط غالباً، وينحت المؤول الأصل فرعاً والفرع أصلاً، ويصير التاريخ -كخلاف الإمامة- والمعتقد الصحيح حكراً على التصور الخطأ.

مأزق اللغة والقطيعة
إن المطالع المدقق لكتابات الراحل سيد قطب في مرحلتيه: الناقد الأدبي والمنظر الأصولي، لن يجد إلا كاتباً واحداً كان أديباً وناقداً، تعاطى مع النص بنظرته الحرة الخاصة، ثم انطلق كالناقد يكتب رؤيته الجديدة للنص بالمنهج الذي يراه. وتميُّزه سبقه في الاكتشاف والتحليل والنقد، فالإبداع والنقد في الأدب يستدعيان الخيال المفتوح. ولكنه ليس في الدين كذلك، بل يحتاج إلى الضبط احتكاماً إلى مرجعيات النص وتأصيلاته السابقة، دون قطع كامل معها، مكتفياً بنتف مقتطفات من هنا أو هناك تلتقي مع ما يريد ومقولاته الحاكمة وليس ما يريده النص واستقر عليه الفهم فيه. بل ظن -وكذلك المودودي- بما يمكن أن نسميه مصطلحية وأبجدية جديدة في فهم الدين، وبخاصة في كتاب الأخير «المصطلحات الأربعة»، أو كتابَي الأول: «هذا الدين»، و«خصائص التصور الإسلامي»، بهدف التأسيس لتفسيرهما المسيَّس للإسلام، الذي لم يتصوره وأتباعهما، إلا إمامة وحاكمية وحرباً بين فسطاطين، وانقلاباً على الحكومات وتطهيراً للصف لا يستقر معه عيش ولا مقرّ.
وهذا التفسير السياسي استقر يلهم مجموعات التطرف في مصر والعالم الإسلامي، عقوداً طويلة، رغم ما وُجه إليه من نقد من كثيرين ممن لم يدركوا هذه المخاطر في بدايتها، مثل الراحل أبو الحسن الندوي في كتابه المشهور «التفسير السياسي في الإسلام: في مرآة كتابات المودودي وسيد قطب». ولقد أقره المودودي نفسه على الأخطاء فيه في حياته وقبل رحيله، بينما كان سيد قطب قد رحل، كما يذكر الندوي في مقدمته.
تغيب، عند سيد قطب بالخصوص، كونه ناقداً أدبياً وشاعراً مقلاً، مراجع وتراث السلف. وقد أثبتنا في موضع آخر أنه لم يكن له اطلاع على كتابات ابن تيمية أو ابن القيم، أو غيرهما، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه ليس له اطلاع جيد على دعوات كدعوة وكتابات الدعوة النجدية، أو كتابات الأفغاني وعبده ومحمد رشيد رضا. وكان الرجل مدفوعاً كل الدفع بالحاكمية والإصرار الثائر على تغيير الأوضاع والانقلاب عليها، تأثراً بموجات التغيير في العالم، واستفادةً من أفكار اليسار وضداً له في الآن نفسه.

«الفريضة الغائبة»... وضعف التأصيل
هذه الغيبة للتأصيل تتكشف من مطالعة دقيقة لكتابات مجموعات «الجهاد» المصري الأولى، إذ نجد ضعف التوثيق، وضعف الارتباط بالتراث. وإذا أردنا أن نضرب مثالاً لن نجد أفضل من نصٍّ مؤسسٍ لها هو «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، على أساسه قتل الرئيس الراحل محمد أنور السادات. ولكن حين العودة إليه لن نجد إلا هامشاً على فتوى أهل ماردين لابن تيمية -رحمه الله- نقلها خطأ، ثم أسقط على هذا الأساس، واكتفى بتأويل الدار وفق ذلك على الدولة المعاصرة وصحة توجهاته. ولن نجد فروقاً كثيرة في كتابات أخرى كـ«حتمية المواجهة» الذي أصدرته «الجماعة الإسلامية المصرية»، أو «كلمة حق» لعمر عبد الرحمن، أو غيرها، إذ قطع كثيرون من منظري التطرف العنيف والغلو المعاصر مع ما استقر في تراث السلف وأهل السنة والجماعة، من عدم الخروج أو التورّع عن التكفير -وبخاصة تكفير المعيّن وعدم العذر بالجهل أو التأويل، وغيرها من المسائل الشائكة التي توقفوا فيها وكتبوا في ذلك الكثير- من مقالات الإسلاميين إلى المِلل والنِّحَل والفصل وغير ذلك. ولم يشتهر عن أحد منهم تكفيرٌ على الإمامة أو الحكم أو تكفير معين في تأويل.
كذلك نجد هذه الحالة من خديعة اللغة والتأويل حاضرة عند منظّر معاصر برز أتباع له في الساحة الشامية العامين الأخيرين، وهو أحمد بن على الحازمي، المعتقَل حالياً في المملكة العربية السعودية. هذا الرجل دخل ميدان التنظير الأصولي من باب اللغة والأدب، وولع خاص بها، فوضع الشروح لألفية ابن مالك وألفية السيوطي في النحو، وشرح ألفية أخرى له في علم الحديث، وكذلك شرح نظم الشافية للنيسابوري في الصرف، وغيرها من الكتب الشارحة التي تهتم باللغة والنحو والصرف وما شابه.
لكن، يلاحظ من يطالع كتابات ودروس أحمد بن عمر الحازمي -زعيم وملهم التيار الحازمي، الجناح المغالي في «دا»- ومن تبعه من قبيل أبو جعفر الحطاب وأبو عبد الله التونسي من زعماء الحازمية وغيرهما، الاكتفاء باللغة والبيان. وعدم الانطلاق مما استقر في علوم التوحيد، بل مخالفة أعلامه إذا ذُكروا، أو تطويعهم لما يريد. هناك اكتفاء بظاهر اللغة في تفسير أحكام خطيرة، مصراً على تكفير من لم يكفِّر الكافر، وهو لا يعرف للتوحيد مدخلاً إلا من بابٍ ضده الكفر، وأن الثاني هو الأصل في الناس وليس الأول.
ثم إنه يضع قاعدة أن كل فعل يستلزم وصفه، مما يورط في التكفير بالمعصية! حال قبل هذا، فضلاً عن التكفير كما فعل الخوارج. ونجد مثالاً على ذلك، في مسألة العذر بالجهل وعدم العذر به التي لم يلامسها قطب، الذي لم يهتم بالفقه والأصول وأحكامهما كثيراً، مكتفياً بالبيان والبلاغة من علوم المقدمات، ولكن كان يكتفي بها مصدراً أحكامه ونحت مصطلحاته في فهم «هذا الدين» وفي التأسيس لـ«الحاكمية»، واقتطف ما يلتقي مع هذا التأويل، بغض النظر عن صحته. ويعلن الحازمي في مرحلته الثانية التي اتضحت فيها توجهاته التكفيرية مخالفته لأسماء وآراء ابن تيمية -رحمه الله- الذي كان يؤكد دائماً عدم تكفير المعيّن، وعدم تكفيره أحداً من أهل القبلة، وظل يعلن ذلك ويشهد عليه حتى مات.
إن هدف أو شهوة «التكفير والتطهير» الذي تأسست عليه قضية عدم العذر به عند الحازمي، يوافق فيه الشوقيين الذين انقلبوا وانشقوا على «الجماعة الإسلامية المصرية» في ثمانينات القرن الماضي، واتخذوا من قرية كحك بمحافظة الفيوم المصرية مقراً لهم. ولقد كفّر زعيمهم شوقي مصطفى الراحل عمر عبد الرحمن قولاً واحداً في المسجد، وأمام العامة، لعدم قوله بتكفير من لم يكفِّر الكافر.
وكان هذا جزءا من إشارات وآراء عبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى قبل مراجعاته. إذ أكد عدم العذر بالجهل. وبارز ابن تيمية معارضاً ومخطِّئاً له، ورأى أن ابن تيمية وغيره من أئمة السلف أخطأوا في عذرهم بالجهل. وعذره هو والحازمي وغيره أنهم ليسوا مثلهم تمتلكهم شهوة التكفير والتطهير والتصفية التي امتلكتهم، كما أن العذر بالجهل بل العذر بالخطأ الكبير حال التوبة عنه، ثابت بنص القرآن في قصة الأسباط المشهورة وقصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كما ثبتت في الكثير من أحاديث السنة النبوية الشريفة.
وهنا، يبدو التأويل والذرائعية، ومشكلة الهوية المعرفية المضببة والغائمة لمجموعات التطرف العنيف، سُنةً وإماميةً وخوارج، والبراغماتية التي تتجاوز الثابت. فهم «طالبانيون» يلقبون أميرها بـ«خليفة المسلمين»، لكن بعضهم يرفض إمامة محمد الفاتح كونه فقط حنفياً ماتريدياً!
ورغم أنها جماعات، لكن تشظت اجتهاداتها الفردية، فعارض الزرقاوي شيخه المقدسي، في إصراره على القتل على الطائفة واللون وما شابه، كما كفر دواعش شيوخهم الظواهري وابن لادن وصولاً لبنعلي والبغدادي نفسه.
وتعتمد هذه الشظايا الفردية على تأويل لغوي منحرف منقطع عن أصوله، وعلى قطف من التاريخ حيناً ومن التراث أحياناً، وتظل شماعة الواقع المنبوذ ومؤامراته منطلقه وغايته، دون اعتماد تراث كبير وتاريخ متراكم في فهمه، شُروداً عن التأسيس والمؤسسة في آن، وبناءً في فراغ جديد بعيداً عنهما.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟