عبد الباقي فرج... جمالية الألم

في مجموعته الشعرية «في مديح الخسارة»

عبد الباقي فرج... جمالية الألم
TT

عبد الباقي فرج... جمالية الألم

عبد الباقي فرج... جمالية الألم

حضرتني وأنا أقرأ مجموعة «في مديح الخسارة» للشاعر العراقي عبد الباقي فرج مقولة أوكتافيوباث التي تقول ما معناه «لكي تكون شاعراً متميزاً عليك إلغاء بلاغات السابقين عليك في قصيدتك والكتابة بلغتك»، إذ يحاول فرج أن يكون لنصه مساره الخاص ضمن مشروعه الذي بدأه منذ مجموعته «الإزار - دمشق1993» مروراً بـ«شرفات لا تطل على القلب – دار المدى – 1995»، و«ذلك البياض - البصرة – 2006»، و«قصائد آدم العراقي – البصرة 2010»، حتى «سماء تمتد - 2017». وهو في حقيقته مشروع يصلح لكي يكون أنموذجاً للدراسة رغم حجم المعاناة والألم اللذين عانى منهما، فهو إذاً كان قد وُلد في مهاده العراقي الغنيّ بالأساطير والحكايات تحت وطأة الاستبداد، إلا أنه لم يتصالح مع الأمكنة، نتيجة ارتباطه بها، رغم كل تحولاته المكانية ما بين البصرة وسوريا والدنمارك والمغرب وإسبانيا، وإن بدا في مثل هذا الحديث تناقضاً ما شأن ما يحدث لأي صاحب موقف يرغب في رفع الضيم عن مكانه، ما يضطره إلى اختيار مسار صعب يؤدي به إلى أن يغادر هذا المكان، ويحمله في لحظته، ووجدانه، وضميره، ويواصل الكتابة له في ملاذاته ومهاجره -كالجبل الذي لجأ إليه- وهو يترجم قصيدته إلى واقع، شأن المئات من المبدعين العراقيين -إن لم نقل الآلاف من مثقفي هذا المكان ذوي الموقف- ممن لم يتم حتى الآن تناول تجاربهم كما ينبغي، ضمن إطار ممارسة اللامبالاة تجاههم –وإن كان ما تعرض له هذا المبدع وذووه سيتكرر على نحو ما في أمكنة أخرى- شأن ما يدور حالياً في عناوين ثورات الربيع العربي، لتؤسس حال المبدع العراقي بداية مصطلح مأساوي في دورة منهكة، بل عدمية، مدمرة.
من هنا، يمكن قراءة مجموعة الشاعر العراقي فرج الذي نشر أولى قصائده باسم مستعار وهو «مظفر حسين» تيمناً بالشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، من دون أن يتمكن من الفكاك عن هذا الاسم إلا بعد نحو ربع قرن من الزمن، ليعود إلى ذلك اسمه الأول: عبد الباقي فرج، وما بين التسميتين الأولى والثانية، وما بينهما من تسمية مستعارة، مسافة من الثنائية التي يمكن أن تُقرأ على نحو خاص، في إطار فهم دواعي الاسم المستعار، وغواياته، ومن ثم سبب تلك النوستالجيا إلى الاسم الأول. يقول وهو يستعيد اسمه الأول، متحرراً من أبوة، أو ربما حالة التوحد الروحي مع «النواب» الاسم الذي استطاع أن يحرك الميدانين: الثقافي النخبوي والشعبوي طويلاً، قبل أن يخمد من دون أن يستخلف أحداً:
ربع قرن
وأنتَ تلازمني
بينما أغادرك الآن
محتفياً بالرحيل
يا صديقي مظفر.
أيُّ مظفر يعنيه، هنا؟ أهو صاحب الاسم المعير، أم صاحب الاسم المستعار؟ من المؤكد أن هذه الإضاءات لا تصلح لقراءة محض مجموعة شعرية لهذا الشاعر العراقي -فحسب- وإنما يمكن الانطلاق منها لقراءة تجارب كثيرين من أقرانه، أبناء ذلك المكان الذين تجرعوا علقم الهجرة أو التهجير، منقذين أرواحهم من بين فكي الزوال الوشيك، ليكونوا أمام حضور جزئي، ما دام أحدهم موزعاً بين أكثر من مكان.
ثمة قلق عارم، يعيشه الشاعر، مضافاً إلى قلقه الوجودي، وهو قلق إبداعي. قلق البحث عن ذلك النص الذي يمثله، وإن كان هو في حقيقته لا يتعامل مع الشعر كمسوغ وجودي وحيد، بل له فضاءاته، وأسئلته الأخرى التي يطرحها. إذ يقول في استهلالة مجموعته:
كلما خططت لكتابة قصيدة
أودت بها سخريتي
ولذا سأغري ذاكرتي
بفواجع أقل
وعيوني بتصفح الغبار (ص7)
في مجموعته «في مديح الخسارة» يحاول فرج أن يواصل الحفر في فضاء المرحلة الجديدة من مشروعه الإبداعي الذي تجلت ملامحه في مجموعته الثانية، إذ بدا أميل إلى القصيدة المكثفة -وليست القصيرة- إلى جانب بعض النصوص المطولة قياساً بها، لكن تلك القصائد المكثفة، وإن كانت لا تفك ارتباطها مع هيولى خيطها السردي، لنكون أمام نصوص تصل إلى حد التقطير، ويمكن تلقي نصه عبر صدمتين: أولاهما ناتجة عن تناوله لحالته، والأخرى تتجلى في خاتمتها، أو كبسولتها التي يعنى بها، وتأتي مغايرة للسياق العام غالباً:
يعتلي أريكته
يطلب شاياً
غير مكترث بدخان الزبائن
الدخان...
ينسلّ محتقناً
بينما يتحاور والجالسين الغبار (ص8)
هذه -القفلة- الصاعقة، المدوية، ترد على أشكال كثيرة، فهي قد تتناول روتين الحياة المملة، كما يلتقطه الناصّ، أو قد تبلغ ذروة حالتها الدرامية، كما في نص أمي:
لا لأنها
قوية كالرجال
بل لأنها حكيمة كالنساء
رفعت البيارق
يوم رحيلها (ص18)
كما أن هذه القفلة يستعاض بها عبر التركيب اللغوي، غير الاعتيادي، بعد أن تتوزع على امتداد هذا النص المكثف، وهو يختصر حياة بلد أو أب في أقل من عشرين مفردة:
كيف استحال رماداً
مسدس أبي
البندقجي في جيش عراق ما
أودعه الحائط
مساء الثامن من شباط
ليكتشفه البناؤون
وهم يكسرون ضلع البيت (ص26)
هذه القفلة ترد -أحياناً- قاسية، استفزازية، وإن كان هذا الاستفزاز في حقيقته أقل من الواقع الذي تعرض له مكانه:
فهنا أيضاً
أيد غريبة باردة
كالحرب الباردة
لوّثت
هذه السماء البيضاء
بسوائلها النووية
الرجال والنساء
الذين علقوا
بصنارة كوبنهاجن
بعيداً
عن جزيرة الثلج الخضراء
(ص 55)
ثمة ولع بيّن من لدن الشاعر باصطياد المباغتات، منصرفاً إلى الاشتغال على أذنابها النارية، الوامضة، أو الحارقة، إذ لا يكفّ عن ملاحقة طرائد المباغتة. طرائد الانقضاض. طرائد الضربة الأخيرة، المختلفة، يستعرضها وهو على حلبة النص. فها هو يفرد صفحة كاملة لخمس مفردات كما كان يفعل أوكتافيوباث:
وحيداً
دونك سيدة الأزهار
أنوم أشواكي (ص73)
يقول أوكتافيوباث في نص أفرد له صفحة كاملة:
دائماً عندما نلتقي
يكون موعدنا الغد
ولذلك لن نلتقي أبداً
وفرج من هؤلاء الشعراء الذين كتبوا التفعيلة، واستأثرتهم قصيدة النثر، ومن هنا، فهو يُعنى بإيقاع نصه، وقد يجمع بين الإيقاعين الداخلي والخارجي، وإن كان هذا الأخير مغيباً خلال نصوص هذه المجموعة عكس بعض مجموعاته السابقة، ومنها: ذلك البياض - قصائد آدم العراقي.
ثمة لغة مختلفة، يحاول أن يكتب بها الشاعر، ما أمكن، وإن قادته هذه اللغة -أحياناً- إلى الغرق في الجانب الآخر من السردية المهيمنة، خارج بعض عناصر قصها، إلا أن القصيدة تخلق له بعض التوازن الروحي، إزاء معادلته الحياتية التي تنهكه، وهو يجاهر بارتشافه كأس علقم الألم، وسموم المكابدة، لينسى تدريجياً دواعي الألم، تحت وطأة جمالياته. أجل جماليات الألم نفسه، وإن كان ثمنها حياة باذخة، وكاملة، بلا ريب!


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.