سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

استعار لغة اليمين المتطرف ففاز ليغدو أصغر قادة أوروبا

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا
TT

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

بوجهه الصبياني الحليق، وشعره اللامع المشدود إلى الخلف، وملامح وجهه المنحوتة، يبدو سباستيان كورتز أقرب إلى عارض أزياء وسيم منه إلى سياسي محنّك. ولكن خلف هذه الملاحم الناعمة، عزم حديدي أوصل هذا الشاب الفتِي إلى كرسي الحكم في النمسا، بعد أسابيع قليلة على احتفاله بميلاده الـ31، رحلته القصيرة لم تخل من الجدل والاتهامات بسرقة أفكار غيره، والسير في ركب «الشعبوية». ولكن الكل يجمع على امتلاكه ميزة يفتقدها كثيرون. ميزة أكسبته لقب «الفتى المعجزة» الذي أطلقته عليه الصحافة النمساوية.
نجح سباستيان كورتز بقيادة حزبه المحافظ الوسطي، حزب الشعب النمساوي، إلى الفوز بالانتخابات النيابية بعدما كان تحتل المركز الثاني في استطلاعات، خلال أقل من ثلاثة أشهر من تسلمه دفة القيادة. وفوزه، وإن لم يكن مطلقاً فإنه كاف لإيصاله لكرسي المستشارية ليغدو أصغر حاكم في أوروبا.
ولكن كيف تمكن هذا الشاب من إقناع ملايين الناخبين بمنحه كامل الثقة لقيادتهم؟ وكيف نجح في تقديم نفسه على أنه مختلف رغم تبوئه منصب وزير الخارجية طوال السنوات الأربع الماضية، ضمن حزب لم ينقطع عن المشاركة في الحكومات الائتلافية المتعاقبة منذ عام 1986؟

كورتز.. الوجه الجديد؟
تصفه الصحافية والمحللة السياسية النمساوية إيلا بيك بأنه «شديد الذكاء ومنظم جداً وبارع في التكتيكات». وتقول في اتصال مع «الشرق الأوسط» إنه لعب على نضارة شكله «لأنه كان يعلم أن الناخبين ملّوا الوجوه القديمة والساسة أنفسهم الذين يحكمونهم». ومع أنه كان جزءاً من الحكومات النمساوية منذ بضع سنوات فإنه نجح بتصوير نفسه على أنه مختلف.
خلال الأشهر القليلة التي فصلت بين تسلم كورتز قيادة الحزب والانتخابات، اتخذ خطوات شكلية حضرت لهذا الفوز. أدخل حزبه إلى عالم التواصل الاجتماعي مستهدفا شرائح جديدة أضافت 200 ألف منتسب خلال شهرين، وفق الحزب. وغيّر شعار الحزب ولونه من الأسود إلى الفيروزي. وصنع جناحاً جديداً من أتباعه الأوفياء بات يعرف بـ«جناح كورتز». ولكن الأهم، من ذلك كله، أنه بدأ يتحدث بلهجة مختلفة في قضايا اللاجئين والمسلمين.

اللاجئون.. اللاجئون.. اللاجئون
كثيرون يعتبرون أن الإجابة القاطعة على التساؤل عن سبب فوزه قد تكون أبسط من التوقعات. إنها تتلخّص بكلمة واحدة: اللاجئون. كانت هذه... «الكلمة – المفتاح».
إيلا بيك تعتقد أن جنوح كورتز من مواقع يمين الوسط إلى أقصى اليمين هو سبب فوزه. وتضيف: «كان واضحاً أنه سيفوز منذ 3 أشهر عندما بدأ يتكلّم بنفس لهجة اليمين المتطرف حول اللاجئين، وهي لهجة للأسف يتجاوب معها الناخبون». وحقاً، مَن تابع حملته الانتخابية، يروي بأنه خلال التجمّعات التي أدارها، كان اللاجئون يُلامون على كل شيء وأي شيء تقريباً: غلاء الإيجارات؟ بسبب اللاجئين.
انخفاض مستوى التعليم؟ اللاجئون لا يتحدثون الألمانية.
تقليص الخدمات العامة؟ اللاجئون.. اللاجئون.. اللاجئون…
من طروحات كورتز إبان الحملة الانتخابية لمواجهة هذه «المشاكل»، كان الحد من المعونات المقدمة للاجئين ومن هم غير نمساويين بهدف دفعهم للعمل. وتغريم الرافضين منهم أو غير القادرين على الاندماج. ومنع ارتداء النقاب... وغيرها من السياسات المتطرفة التي لاقت ترحيباً حاراً من جمهوره المتطرف. وبتكراره لوم اللاجئين كان كورتز يضرب على الأوتار الحساسة لدى مواطنيه، خاصة أنهم ما زالوا ناقمين على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لسماحها بدخول مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في صيف عام 2015، عبر دول البلقان باتجاه ألمانيا، مروراً بالنمسا بقي كثيرون منهم..

أصغر وزير الخارجية
والواقع أن كورتز من خلال توليه منصب وزير الخارجية دعم جهوداً أوروبية وداخلية أدت إلى إغلاق الحدود ووقف تدفق اللاجئين. ويذكر أن تولى هذا المنصب عام 2013 عندما كان عمره 27 سنة فقط، ويومذاك كان أصغر وزير خارجية في العالم. وكانت صوره إلى جانب جون كيري، وزير الخارجية الأميركي المخضرم والأشيب الشعر - آنذاك -، تلفت الأنظار وتضيء على صغر سنه. إلا أنه تمكن من استثمار لقاءاته المتكررة بكيري السبعيني، وبقادة آخرين بينهم الرئيس الإيراني حسن روحاني إبان استضافة فيينا المباحثات النووية، ليثبت نضجه أمام ناخبيه. ومقابل لعبه على عامل صغر سنه، فإنه لعب أيضا على خبرته التي اكتسبها من سنوات عمله في الحكومة. ودأب على تذكير ناخبيه بأن له الفضل في وقف تدفق اللاجئين بعد إغلاق الحدود بجهود قادها هو شخصياً.
طبعاً، الطبع قد يجادل، بأن السبب الرئيس لوقف تدفق اللاجئين كان الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي، عندما تعهدت بروكسل بتقديم مساعدات مالية لأنقرة مقابل منعها المهرّبين من نقل اللاجئين. ولكن لا فرق بالنسبة لكورتز. فهو روّج عمداً الزعم بأنه صاحب الفضل على أوروبا، وألمانيا تحديداً، بإعادة المارد إلى القمقم... الذين انتخبوه اقتنعوا بكلامه.
«استعارة» مفيدة
اللافت أن مواقف كورتز الشديدة التطرف تجاه اللاجئين بدرجة أولى، والمسلمين بدرجة ثانية، تعد غريبة بعض الشيء عن الحزب الذي يرأسه والأحزاب الوسطية بشكل عام، وإن كانت يمينية. وهذا لأنها بالفعل ليست أفكار حزب الشعب، بل تعود لـ«حزب الحرية» اليميني المتطرف الذي أسس على أنقاض النازية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان أول زعمائه ضابطا في وحدات الـ«إس إس» التابعة للزعيم النازي أدولف هتلر.
إلا أن كورتز عبر «استعارة» أفكار النازيين نجح في تقليص حجم الدعم المرتقب لـ«حزب الحرية» واستمال بعض ناخبيه. وهكذا، حصل حزبه على 32 في المائة من أصوات الناخبين، وحل في الطليعة بعدما كانت استطلاعات الرأي جميعها تشير إلى تقدم «حزب الحرية».
على هذا الأساس، تعتبر المحللة النمساوية بيك أن استعارة أفكار اليمين المتطرف قد لا يكون بالسوء الظاهر، «لأنه في النهاية تمكن من احتواء حزب الحرية».
إلا أن نتائج الانتخابات أظهرت أيضاً أن شعبية الحزب المتطرف (حزب الحرية) بقيت مرتفعة نسبياً، إذ فاز بـ26 في المائة من الأصوات ليتعادل تقريبا مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي اليساري الوسطي الذي لطالما اعتبر أحد عمودي الحياة السياسية في النمسا.
وبات بذلك ينافس على صناعة الحكم.
ومن ثم، على الرغم من تطمينات كورتز بأن التقاء الحزبين على نقاط مشتركة فيما يتعلق باللاجئين والإسلام، لا يعني أنهما يتفقان على كل شيء، وأن ثمة خلافات عميقة ما زالت تبعدهما، هناك مخاوف حقيقية من أن يصبح «حزب الحرية» شريكاً في الائتلاف الحكومي.

خلاف الحزبين التقليديين
ما يساهم بذلك، الخلافات الناشبة بين حزب الشعب والحزب الاشتراكي الديمقراطي اللذين يحكمان معاً منذ عام 2005، والتي تفاقمت كثيراً في الآونة الأخيرة. وبلغت الخلافات الذروة إبان الحملة الانتخابية التي شهدت الكشف عن مؤامرات سياسية مذهلة. وحسب التقارير، ضُبط الاشتراكيون الديمقراطيون وهم يحيكون مؤامرات ضد كورتز لتشويه صورته… ما ساهم بخسارتهم الكثير من الأصوات لصالح مَن كانوا يحاولون الإيقاع به.
لذا قد لا تكون علاقة الحزبين العريقين ودودة بشكل كاف للاستمرار بالحكم ضمن ائتلاف واحد، ما يعني أن المستفيد الأكبر والأوحد سيكون «حزب الحرية» المتطرف بزعامة هاينز كريستيان شتراخه.
وفي الحقيقة إذا اتفق كورتز مع شتراخه على تشكيل حكومة، فإنها لن تكون المرة الأولى التي يحكم حزباهما سويا. فهناك تجربة شبيهة عام 2000 استمرت لخمس سنوات رغم الغضب الأوروبي.. والعقوبات التي فرضها حينذاك الأوروبيون على النمسا بسبب وصول «حزب الحرية» للسلطة تحت قيادة زعيمه الراحل غيورغ هايدر الذي لم يكن يخفي إعجابه بالكثير من أفكار وأعمال هتلر.
لكن «الغضبة» الأوروبية آنذاك تجاه صعود حزب يميني شعبوي ووصوله إلى السلطة، تبدو شبه غائبة هذه المرة. ربما لأن مشاركة هذا الحزب في الحكومة لم تتأكد بعد، أو ربما لأن صعود اليمين المتطرف في أوروبا بات ظاهرة مقبولة، أو على الأقل ظاهرة ما عاد من الممكن نكرانها بعد الآن. وهو ما تفسره إيلا بيك بقولها «نحن نعيش الآن في عالم مختلف... في الماضي كان وصول اليميني المتطرف إلى السلطة يعتبر شائبة، اليوم تغير الوضع».

صعود اليمين المتطرف
فعلاً تغير الوضع. ففي فرنسا حل حزب «الجبهة الوطنية» المتطرف بقيادة مارين لوبان ثانياً في الانتخابات التي أجرت في مايو (أيار) الماضي. وتمكن هذا الحزب الذي صعد أيضا بسبب تهجمه على اللاجئين والمسلمين، من منافسة وتحييد أحزاب فرنسا التقليدية. وفي هولندا احتل «حزب الحرية» بزعامة خيرت فيلدرز المرتبة الثانية في الانتخابات التي أجرت في مارس (آذار) الماضي، علما بأن فيلدرز منع من دخول بريطانيا عام 2009 بسبب آرائه المتطرفة المجيّشة ضد الإسلام.
بالطبع الانتخابات الهولندية والفرنسية، جاءت بعد الصدمة الذي أثارها تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد حملة قادها «حزب استقلال المملكة المتحدة» اليميني المتطرف بزعامة نايجل فراج الذي نجح في إقناع البريطانيين بالخروج خلافا لإرادة الحزبين الرئيسيين (المحافظون والعمال) ورغم أن حزبه بالكاد ممثل في البرلمان.
ومع هذه الأحداث الثلاثة المتتالية، التي هزّت أوروبا بسبب صعود الأحزاب المتطرفة فيها هدأها قليلا فوز حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في الانتخابات التشريعية التي أجرت الشهر الماضي، فإن حتى هذه الانتخابات شهدت أيضا صعودا غير مسبوق لحزب «البديل لألمانيا» المتشدد في عدائه للأجانب والمسلمين، وإن لم يكن بالشكل الذي شهده صعود المتطرفين في فرنسا وهولندا.
وهكذا، فإن فوز كورتز في النمسا، ومعه المخاوف من دخول حزب شديد التطرف (الحرية) الحكم، من التطورات التي تهدد بإيقاظ مخاوف كانت قد سكنت. ولكن رغم هذه المخاوف، فإن عجز الاتحاد الأوروبي عن مواجهة حكومة فيكتور أوروبان المتطرفة في المجر - جارة النمسا -، يجعله يدرك بأنه لن يكون باستطاعته فعل الكثير أمام دخول «حزب الحرية» الحكومة النمساوية.

خيارات كورتز
في أي حال، أمام كورتز الآن خياران متاحان: الأول تشكيل الائتلاف نفسه الذي يحكم منذ عام 2005 عبر التحالف مع الاشتراكيين الديمقراطيين، بعد تخطي الخلافات الداخلية وإن كانت عميقة. والثاني التحالف مع متطرفي «حزب الحرية»، وهو السيناريو الذي يتوقعه كثيرون ويحذّرون من أن الحنكة السياسية للزعيم المتطرف شتراخه قد تحكم قبضة اليمين المتطرف تماماً على السلطة. وهنا يحذّر مراقبون من سعي «حزب الحرية» لانتزاع حقيبتي الداخلية والعدل - أو حتى الخارجية -، وهو ما سيؤدي إلى تبني النمسا مواقف أكثر تشددا وعدائية تجاه سياسات الهجرة بطبيعة الحال، والمسلمين، خاصة، لا سيما أن شتراخه دائما ما يتحدث عن ضرورة «وقف أسلمة النمسا» ويتعهد بمنع «جعل النمساويين أقلية في بلادهم».
أيضاً، يخشى المراقبون من أن يؤدي تحالف كورتز مع «حزب الحرية» إلى انتهاج سياسة أكثر تشدداً تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يعارضه اليمين المتطرف بشدة. ويقول هؤلاء أن كورتز، رغم تأييده وحدة الاتحاد الأوروبي، فإن تحالفه مع حزب يدعو للانفصال عنه سيكون له تأثير حتماً على سياسة الحكومة الائتلافية.

ماكرون أم أوروبان؟
كثيرون شبهوا كورتز بالزعيمين الشابين في فرنسا إيمانويل ماكرون (39 سنة) وفي كندا جاستين ترودو (45 سنة)... شكلا وحيوية على الأقل. إلا أن تحالفه مع اليمين المتطرف - إذا ما حصل - قد يجعل منه زعيما أقرب إلى فيكتور أوروبان رئيس المجر اليميني المتشدد، الذي يرفض استقبال أي لاجئ سوري متحديا توصيات بروكسل، وكذلك الرئيس البولندي أندري دودا. إذ إن هذين الزعيمين يحملان أفكارا معادية للاجئين المسلمين خاصة، ويشكلان فريقاً يمينياً متشدداً غالباً ما يضع نفسه في المواجهة مع الاتحاد الأوروبي.
أخيراً، قد يجد كورتز نفسه أيضا في مكان شبيه برئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، الذي عندما تعب من مواجهة المتشددين في حزبه، رضخ... وتعهد بإجراء استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي ما كان مجبراً على إجرائه ورغم معارضته الشخصية للخروج. ومن ثم، انتهى به الأمر إلى خسارة المعركة في مواجهة المتشددين واضطراره لمغادرة السلطة باكراً.

بطاقة شخصية
- سباستيان كورتز، هو الولد الوحيد لأبوين من الطبقة الوسطى، إذ إن والده مهندس ووالدته معلمة مدرسة.
- ولد يوم 27 أغسطس (آب) 1986 في العاصمة النمساوية فيينا، وما زال يعيش في حي ميدلينغ بالمدينة حيث نشأ.
- بعد إنهائه دراسته الثانوية عام 2004 أدى الخدمة العسكرية.
- عام 2011، بعد سنة من انتخابه عضواً في بلدية فيينا، أنهى سبع سنوات من الدراسة الجامعية في جامعة فيينا (حيث درس الحقوق) من دون أن يتخرّج، وتفرّغ للعمل السياسي.
- في أبريل (نيسان) تولى منصب أمين الاندماج في وزارة الداخلية.
- عام 2013 دخل البرلمان، حاصلاً على أكبر عدد من الأصوات الفردية المباشرة في المجلس كله. وفي نهاية العام نفسه تولّى منصب وزير الخارجية، وبات أصغر وزير خارجية في العالم.
- في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي قاد حزب الشعب للفوز بالانتخابات ليفوز بالمستشارية، ويغدو أصغر رئيس وزراء في أوروبا.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.