سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

استعار لغة اليمين المتطرف ففاز ليغدو أصغر قادة أوروبا

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا
TT

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

بوجهه الصبياني الحليق، وشعره اللامع المشدود إلى الخلف، وملامح وجهه المنحوتة، يبدو سباستيان كورتز أقرب إلى عارض أزياء وسيم منه إلى سياسي محنّك. ولكن خلف هذه الملاحم الناعمة، عزم حديدي أوصل هذا الشاب الفتِي إلى كرسي الحكم في النمسا، بعد أسابيع قليلة على احتفاله بميلاده الـ31، رحلته القصيرة لم تخل من الجدل والاتهامات بسرقة أفكار غيره، والسير في ركب «الشعبوية». ولكن الكل يجمع على امتلاكه ميزة يفتقدها كثيرون. ميزة أكسبته لقب «الفتى المعجزة» الذي أطلقته عليه الصحافة النمساوية.
نجح سباستيان كورتز بقيادة حزبه المحافظ الوسطي، حزب الشعب النمساوي، إلى الفوز بالانتخابات النيابية بعدما كان تحتل المركز الثاني في استطلاعات، خلال أقل من ثلاثة أشهر من تسلمه دفة القيادة. وفوزه، وإن لم يكن مطلقاً فإنه كاف لإيصاله لكرسي المستشارية ليغدو أصغر حاكم في أوروبا.
ولكن كيف تمكن هذا الشاب من إقناع ملايين الناخبين بمنحه كامل الثقة لقيادتهم؟ وكيف نجح في تقديم نفسه على أنه مختلف رغم تبوئه منصب وزير الخارجية طوال السنوات الأربع الماضية، ضمن حزب لم ينقطع عن المشاركة في الحكومات الائتلافية المتعاقبة منذ عام 1986؟

كورتز.. الوجه الجديد؟
تصفه الصحافية والمحللة السياسية النمساوية إيلا بيك بأنه «شديد الذكاء ومنظم جداً وبارع في التكتيكات». وتقول في اتصال مع «الشرق الأوسط» إنه لعب على نضارة شكله «لأنه كان يعلم أن الناخبين ملّوا الوجوه القديمة والساسة أنفسهم الذين يحكمونهم». ومع أنه كان جزءاً من الحكومات النمساوية منذ بضع سنوات فإنه نجح بتصوير نفسه على أنه مختلف.
خلال الأشهر القليلة التي فصلت بين تسلم كورتز قيادة الحزب والانتخابات، اتخذ خطوات شكلية حضرت لهذا الفوز. أدخل حزبه إلى عالم التواصل الاجتماعي مستهدفا شرائح جديدة أضافت 200 ألف منتسب خلال شهرين، وفق الحزب. وغيّر شعار الحزب ولونه من الأسود إلى الفيروزي. وصنع جناحاً جديداً من أتباعه الأوفياء بات يعرف بـ«جناح كورتز». ولكن الأهم، من ذلك كله، أنه بدأ يتحدث بلهجة مختلفة في قضايا اللاجئين والمسلمين.

اللاجئون.. اللاجئون.. اللاجئون
كثيرون يعتبرون أن الإجابة القاطعة على التساؤل عن سبب فوزه قد تكون أبسط من التوقعات. إنها تتلخّص بكلمة واحدة: اللاجئون. كانت هذه... «الكلمة – المفتاح».
إيلا بيك تعتقد أن جنوح كورتز من مواقع يمين الوسط إلى أقصى اليمين هو سبب فوزه. وتضيف: «كان واضحاً أنه سيفوز منذ 3 أشهر عندما بدأ يتكلّم بنفس لهجة اليمين المتطرف حول اللاجئين، وهي لهجة للأسف يتجاوب معها الناخبون». وحقاً، مَن تابع حملته الانتخابية، يروي بأنه خلال التجمّعات التي أدارها، كان اللاجئون يُلامون على كل شيء وأي شيء تقريباً: غلاء الإيجارات؟ بسبب اللاجئين.
انخفاض مستوى التعليم؟ اللاجئون لا يتحدثون الألمانية.
تقليص الخدمات العامة؟ اللاجئون.. اللاجئون.. اللاجئون…
من طروحات كورتز إبان الحملة الانتخابية لمواجهة هذه «المشاكل»، كان الحد من المعونات المقدمة للاجئين ومن هم غير نمساويين بهدف دفعهم للعمل. وتغريم الرافضين منهم أو غير القادرين على الاندماج. ومنع ارتداء النقاب... وغيرها من السياسات المتطرفة التي لاقت ترحيباً حاراً من جمهوره المتطرف. وبتكراره لوم اللاجئين كان كورتز يضرب على الأوتار الحساسة لدى مواطنيه، خاصة أنهم ما زالوا ناقمين على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لسماحها بدخول مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في صيف عام 2015، عبر دول البلقان باتجاه ألمانيا، مروراً بالنمسا بقي كثيرون منهم..

أصغر وزير الخارجية
والواقع أن كورتز من خلال توليه منصب وزير الخارجية دعم جهوداً أوروبية وداخلية أدت إلى إغلاق الحدود ووقف تدفق اللاجئين. ويذكر أن تولى هذا المنصب عام 2013 عندما كان عمره 27 سنة فقط، ويومذاك كان أصغر وزير خارجية في العالم. وكانت صوره إلى جانب جون كيري، وزير الخارجية الأميركي المخضرم والأشيب الشعر - آنذاك -، تلفت الأنظار وتضيء على صغر سنه. إلا أنه تمكن من استثمار لقاءاته المتكررة بكيري السبعيني، وبقادة آخرين بينهم الرئيس الإيراني حسن روحاني إبان استضافة فيينا المباحثات النووية، ليثبت نضجه أمام ناخبيه. ومقابل لعبه على عامل صغر سنه، فإنه لعب أيضا على خبرته التي اكتسبها من سنوات عمله في الحكومة. ودأب على تذكير ناخبيه بأن له الفضل في وقف تدفق اللاجئين بعد إغلاق الحدود بجهود قادها هو شخصياً.
طبعاً، الطبع قد يجادل، بأن السبب الرئيس لوقف تدفق اللاجئين كان الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي، عندما تعهدت بروكسل بتقديم مساعدات مالية لأنقرة مقابل منعها المهرّبين من نقل اللاجئين. ولكن لا فرق بالنسبة لكورتز. فهو روّج عمداً الزعم بأنه صاحب الفضل على أوروبا، وألمانيا تحديداً، بإعادة المارد إلى القمقم... الذين انتخبوه اقتنعوا بكلامه.
«استعارة» مفيدة
اللافت أن مواقف كورتز الشديدة التطرف تجاه اللاجئين بدرجة أولى، والمسلمين بدرجة ثانية، تعد غريبة بعض الشيء عن الحزب الذي يرأسه والأحزاب الوسطية بشكل عام، وإن كانت يمينية. وهذا لأنها بالفعل ليست أفكار حزب الشعب، بل تعود لـ«حزب الحرية» اليميني المتطرف الذي أسس على أنقاض النازية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان أول زعمائه ضابطا في وحدات الـ«إس إس» التابعة للزعيم النازي أدولف هتلر.
إلا أن كورتز عبر «استعارة» أفكار النازيين نجح في تقليص حجم الدعم المرتقب لـ«حزب الحرية» واستمال بعض ناخبيه. وهكذا، حصل حزبه على 32 في المائة من أصوات الناخبين، وحل في الطليعة بعدما كانت استطلاعات الرأي جميعها تشير إلى تقدم «حزب الحرية».
على هذا الأساس، تعتبر المحللة النمساوية بيك أن استعارة أفكار اليمين المتطرف قد لا يكون بالسوء الظاهر، «لأنه في النهاية تمكن من احتواء حزب الحرية».
إلا أن نتائج الانتخابات أظهرت أيضاً أن شعبية الحزب المتطرف (حزب الحرية) بقيت مرتفعة نسبياً، إذ فاز بـ26 في المائة من الأصوات ليتعادل تقريبا مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي اليساري الوسطي الذي لطالما اعتبر أحد عمودي الحياة السياسية في النمسا.
وبات بذلك ينافس على صناعة الحكم.
ومن ثم، على الرغم من تطمينات كورتز بأن التقاء الحزبين على نقاط مشتركة فيما يتعلق باللاجئين والإسلام، لا يعني أنهما يتفقان على كل شيء، وأن ثمة خلافات عميقة ما زالت تبعدهما، هناك مخاوف حقيقية من أن يصبح «حزب الحرية» شريكاً في الائتلاف الحكومي.

خلاف الحزبين التقليديين
ما يساهم بذلك، الخلافات الناشبة بين حزب الشعب والحزب الاشتراكي الديمقراطي اللذين يحكمان معاً منذ عام 2005، والتي تفاقمت كثيراً في الآونة الأخيرة. وبلغت الخلافات الذروة إبان الحملة الانتخابية التي شهدت الكشف عن مؤامرات سياسية مذهلة. وحسب التقارير، ضُبط الاشتراكيون الديمقراطيون وهم يحيكون مؤامرات ضد كورتز لتشويه صورته… ما ساهم بخسارتهم الكثير من الأصوات لصالح مَن كانوا يحاولون الإيقاع به.
لذا قد لا تكون علاقة الحزبين العريقين ودودة بشكل كاف للاستمرار بالحكم ضمن ائتلاف واحد، ما يعني أن المستفيد الأكبر والأوحد سيكون «حزب الحرية» المتطرف بزعامة هاينز كريستيان شتراخه.
وفي الحقيقة إذا اتفق كورتز مع شتراخه على تشكيل حكومة، فإنها لن تكون المرة الأولى التي يحكم حزباهما سويا. فهناك تجربة شبيهة عام 2000 استمرت لخمس سنوات رغم الغضب الأوروبي.. والعقوبات التي فرضها حينذاك الأوروبيون على النمسا بسبب وصول «حزب الحرية» للسلطة تحت قيادة زعيمه الراحل غيورغ هايدر الذي لم يكن يخفي إعجابه بالكثير من أفكار وأعمال هتلر.
لكن «الغضبة» الأوروبية آنذاك تجاه صعود حزب يميني شعبوي ووصوله إلى السلطة، تبدو شبه غائبة هذه المرة. ربما لأن مشاركة هذا الحزب في الحكومة لم تتأكد بعد، أو ربما لأن صعود اليمين المتطرف في أوروبا بات ظاهرة مقبولة، أو على الأقل ظاهرة ما عاد من الممكن نكرانها بعد الآن. وهو ما تفسره إيلا بيك بقولها «نحن نعيش الآن في عالم مختلف... في الماضي كان وصول اليميني المتطرف إلى السلطة يعتبر شائبة، اليوم تغير الوضع».

صعود اليمين المتطرف
فعلاً تغير الوضع. ففي فرنسا حل حزب «الجبهة الوطنية» المتطرف بقيادة مارين لوبان ثانياً في الانتخابات التي أجرت في مايو (أيار) الماضي. وتمكن هذا الحزب الذي صعد أيضا بسبب تهجمه على اللاجئين والمسلمين، من منافسة وتحييد أحزاب فرنسا التقليدية. وفي هولندا احتل «حزب الحرية» بزعامة خيرت فيلدرز المرتبة الثانية في الانتخابات التي أجرت في مارس (آذار) الماضي، علما بأن فيلدرز منع من دخول بريطانيا عام 2009 بسبب آرائه المتطرفة المجيّشة ضد الإسلام.
بالطبع الانتخابات الهولندية والفرنسية، جاءت بعد الصدمة الذي أثارها تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد حملة قادها «حزب استقلال المملكة المتحدة» اليميني المتطرف بزعامة نايجل فراج الذي نجح في إقناع البريطانيين بالخروج خلافا لإرادة الحزبين الرئيسيين (المحافظون والعمال) ورغم أن حزبه بالكاد ممثل في البرلمان.
ومع هذه الأحداث الثلاثة المتتالية، التي هزّت أوروبا بسبب صعود الأحزاب المتطرفة فيها هدأها قليلا فوز حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في الانتخابات التشريعية التي أجرت الشهر الماضي، فإن حتى هذه الانتخابات شهدت أيضا صعودا غير مسبوق لحزب «البديل لألمانيا» المتشدد في عدائه للأجانب والمسلمين، وإن لم يكن بالشكل الذي شهده صعود المتطرفين في فرنسا وهولندا.
وهكذا، فإن فوز كورتز في النمسا، ومعه المخاوف من دخول حزب شديد التطرف (الحرية) الحكم، من التطورات التي تهدد بإيقاظ مخاوف كانت قد سكنت. ولكن رغم هذه المخاوف، فإن عجز الاتحاد الأوروبي عن مواجهة حكومة فيكتور أوروبان المتطرفة في المجر - جارة النمسا -، يجعله يدرك بأنه لن يكون باستطاعته فعل الكثير أمام دخول «حزب الحرية» الحكومة النمساوية.

خيارات كورتز
في أي حال، أمام كورتز الآن خياران متاحان: الأول تشكيل الائتلاف نفسه الذي يحكم منذ عام 2005 عبر التحالف مع الاشتراكيين الديمقراطيين، بعد تخطي الخلافات الداخلية وإن كانت عميقة. والثاني التحالف مع متطرفي «حزب الحرية»، وهو السيناريو الذي يتوقعه كثيرون ويحذّرون من أن الحنكة السياسية للزعيم المتطرف شتراخه قد تحكم قبضة اليمين المتطرف تماماً على السلطة. وهنا يحذّر مراقبون من سعي «حزب الحرية» لانتزاع حقيبتي الداخلية والعدل - أو حتى الخارجية -، وهو ما سيؤدي إلى تبني النمسا مواقف أكثر تشددا وعدائية تجاه سياسات الهجرة بطبيعة الحال، والمسلمين، خاصة، لا سيما أن شتراخه دائما ما يتحدث عن ضرورة «وقف أسلمة النمسا» ويتعهد بمنع «جعل النمساويين أقلية في بلادهم».
أيضاً، يخشى المراقبون من أن يؤدي تحالف كورتز مع «حزب الحرية» إلى انتهاج سياسة أكثر تشدداً تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يعارضه اليمين المتطرف بشدة. ويقول هؤلاء أن كورتز، رغم تأييده وحدة الاتحاد الأوروبي، فإن تحالفه مع حزب يدعو للانفصال عنه سيكون له تأثير حتماً على سياسة الحكومة الائتلافية.

ماكرون أم أوروبان؟
كثيرون شبهوا كورتز بالزعيمين الشابين في فرنسا إيمانويل ماكرون (39 سنة) وفي كندا جاستين ترودو (45 سنة)... شكلا وحيوية على الأقل. إلا أن تحالفه مع اليمين المتطرف - إذا ما حصل - قد يجعل منه زعيما أقرب إلى فيكتور أوروبان رئيس المجر اليميني المتشدد، الذي يرفض استقبال أي لاجئ سوري متحديا توصيات بروكسل، وكذلك الرئيس البولندي أندري دودا. إذ إن هذين الزعيمين يحملان أفكارا معادية للاجئين المسلمين خاصة، ويشكلان فريقاً يمينياً متشدداً غالباً ما يضع نفسه في المواجهة مع الاتحاد الأوروبي.
أخيراً، قد يجد كورتز نفسه أيضا في مكان شبيه برئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، الذي عندما تعب من مواجهة المتشددين في حزبه، رضخ... وتعهد بإجراء استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي ما كان مجبراً على إجرائه ورغم معارضته الشخصية للخروج. ومن ثم، انتهى به الأمر إلى خسارة المعركة في مواجهة المتشددين واضطراره لمغادرة السلطة باكراً.

بطاقة شخصية
- سباستيان كورتز، هو الولد الوحيد لأبوين من الطبقة الوسطى، إذ إن والده مهندس ووالدته معلمة مدرسة.
- ولد يوم 27 أغسطس (آب) 1986 في العاصمة النمساوية فيينا، وما زال يعيش في حي ميدلينغ بالمدينة حيث نشأ.
- بعد إنهائه دراسته الثانوية عام 2004 أدى الخدمة العسكرية.
- عام 2011، بعد سنة من انتخابه عضواً في بلدية فيينا، أنهى سبع سنوات من الدراسة الجامعية في جامعة فيينا (حيث درس الحقوق) من دون أن يتخرّج، وتفرّغ للعمل السياسي.
- في أبريل (نيسان) تولى منصب أمين الاندماج في وزارة الداخلية.
- عام 2013 دخل البرلمان، حاصلاً على أكبر عدد من الأصوات الفردية المباشرة في المجلس كله. وفي نهاية العام نفسه تولّى منصب وزير الخارجية، وبات أصغر وزير خارجية في العالم.
- في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي قاد حزب الشعب للفوز بالانتخابات ليفوز بالمستشارية، ويغدو أصغر رئيس وزراء في أوروبا.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».