سنوات السينما

الممثل تاتسويا ناكاداي في «ران»
الممثل تاتسويا ناكاداي في «ران»
TT

سنوات السينما

الممثل تاتسويا ناكاداي في «ران»
الممثل تاتسويا ناكاداي في «ران»

Ran (1985)
تحرير الملك لير من قبضة شكسبير
معظم التصميمات السينمائية التي وضعت لمسرحية «الملك لير» استوحت ديكوراً يتماشى، منطقياً، مع الخلفية التراجيدية للموضوع ومع الشروط التي يفرضها النص على المكان واستحواذه على الرقعة المحددة التي تقع الأحداث، بفصولها المختلفة، فيه.
إخراج «الملك لير» على خشبة المسرح يتطلب عناصر أقل كما وتختلف نوعاً عن تلك التي يتطلبها اقتباس سينمائي حيث هناك قدرة أعلى على الابتكار. في بعض الأحيان يبقى الهاجس المسرحي ماثلاً كما الحال في نسختي الروسي غريغوري كوزنتسيف ونسخة البريطاني بيتر بروك (كلاهما من إنتاج 1971) هذا على الرغم من تحرر المثالين المذكورين من حدود المكان على نحو واضح. لكن لا أحد تحرر تماماً من ذلك الشرط المسرحي كما فعل المخرج الياباني أكيرا كوروساوا في نسخته من «الملك لير». هذا المخرج الملحمي الأعمال، لم يتحرر فقط من شروط المكان، بل حرر الملك لير من ثقافته البريطانية - الغربية وقام بتحويله إلى عمل ياباني كما لو أن النص كتب باليابانية أساساً.
وضع المخرج الأحداث في عهد اللوردات الذين تنازعوا رقعة الحياة فوق الجزيرة اليابانية بضراوة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. اللورد هيدتورا يقرر بعد حفلة صيد في البراري التنازل عن العرش لإبنه الأكبر تارو. يقرر أيضاًأن يعيش متنقلاً بين أولاده الثلاثة. لكن - وكما في المسرحية ذاتها - يكتشف أنه ضحّى بمكانته وأن قراره بني على تمنيات خاطئة فقد بات شريداً يلجأ في نهاية مطافه إلى قلعة إبنه الأصغر سابورو (كان هيدتورا طرده) ليحتمي من جيشي ولديه الآخرين اللذين يريدان السلطة بكاملها.
يجعل كوروساوا من السهوب والجبال ومن المعارك والقلاع، كما من الخراب والحرائق، تصاميم مبهرة وخلفيات لحالات مختلفة تبدأ مسالمة وتمر بمرحلة دموية (الهجوم على القصر وحرقه) وتنتهي تراجيدية (فقدان هيدتورا لعقله). هذا الديكور المؤلف من الألوان الفاقعة ومن السهوب والقلاع تلعب دورها في صلب الحدث الذي يدور. هي شهادات معلّق يتناول، فيما يتناوله، التاريخ والإنسان في قوته وفي ضعفه.
كورساوا دائماً ما كان محباً للثقافة الغربية. استند إليها وعبر عنها في أفلام كثيرة (خصوصاً تلك الملونة في الثمانينات وبعدها)، لكنه لم ينصرف إليها كما هي. لم يتغرّب، بل دمجها بالتراث الياباني حتى بات من الصعب فصل ما هو خاص به عما هو مستوحى من سواه. و«ران» (أو «فوضى}، كما عنوانه الياباني) مثال رائع على ذلك. من ناحية يطل شكسبير على الفيلم طوال مدة عرضه. من ناحية ثانية هو فيلم ياباني الروح والتفاصيل معاً.
الفصل الذي يتوج الفيلم بكامله هو ذلك الذي يشهد الهجوم على القلعة التي أوى العجوز هيدتورا إليها. يلتقط المخرج مئات السهام وهي تطير في سماء غاضبة ثم تحط على رجال هيدتورا. يصور العنف كما هو إنما مع سيل من الشعر المنسدل كما لو كان يقرأ شكسبير بصوت عال. وكل ذلك يأتي بشلال من الألوان الرئيسة: الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر وما قد يتفرع عنها.
في منتصف الفصل المذكور، وبينما تتصاعد الأصوات المختلفة من مهاجمين ومدافعين، يقطع كوروساوا الصوت لنرى باقي المشاهد بصمت. الصمت يصبح أعلى تأثيرا من كل صوت آخر. يشحن المشاهد بصلة مباشرة بين العين والمشهد وبشعور كبير من الحزن.
بعد أن قسّم المخرج بمهارة ما بين القوّة الغاشمة والقلة الشجاعة التي تدافع عن ملكها ينتهي الفصل بخروج هيدتورا (يقوم به الممثل المهم تاتسويا ناكاداي الذي اشتغل مع كيروساوا منذ «الساموراي السبعة» سنة 1954) مع حاشية من فرد واحد. الطبيعة الشاسعة تفرض حضورها من جديد. وإذ لا يغيب شكسبير بدوره عن هذا الحضور، يكون كوروساوا وجد الطريقة لتحرير «الملك لير» من قبضة المؤلف من دون الإساءة إليه.


مقالات ذات صلة

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
TT

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

بعد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك. «لا يهم»، تقول: «على الأفلام التي تعني لنا شيئاً أن تشقّ طريقاً للعروض ولو على مدى سنة أو أكثر».

فيلمها الأخير «حدود خضراء» نال 24 جائزة صغيرة وكبيرة واجتاز حدود نحو 30 دولة حول العالم. ترك تأثيراً قوياً منذ افتتاحه في المهرجان الإيطالي، حيث نال جائزةَ لجنة التحكيم الخاصة وفوقها 8 جوائز فرعية.

مردّ ذلك التأثير يعود إلى أن الفيلم (بالأبيض والأسود) تحدّث عن مهاجرين سوريين (ومهاجرة من أفغانستان) علِقوا على الحدود بين بروسيا وبولندا، وكلّ حرس حدود كان يسلبهم شيئاً ومن ثمّ يعيدهم إلى حيث أتوا. الحالة لفتت نظر جمعية بولندية أرادت مساعدة هؤلاء الذين تناقص عددهم بعدما اختفى بعضهم وسُجن آخرون. الدراما كما قدّمتها هولاند (75 سنة حالياً) نابعة من مواقف ونماذج حقيقية وأحداثٍ وقعت عالجتها المخرجة بأسلوب تقريري غير محايد.

نقطة حياة: «حدود خضراء» (مترو فيلمز)

لحظات إنسانية

> حال مشاهدتي لفيلم «حدود خضراء» في «مهرجان ڤينيسيا» خطر لي أنه يلتقي مع أفلام سابقة لكِ تناولت قضايا مهمّة وحادّة مثل «يوروبا، يوروبا» و«الحديقة السّرية» و«أثر» (Spoor) الذي عُرض في «برلين». كيف تُصنّفين أفلامك؟ وكيف تختارين قضاياها؟

- أفلامي السابقة تنوّعت كثيراً في موضوعاتها باستثناء أنني قصدت دوماً تناول ما اعتقدت أنه أجدى للمعالجة. والأفلام التي ذكرتها هي بالنسبة لي من بين أهم ما أخرجته. اخترتها لجانبها الإنساني أو، أُصحّح، لقضاياها الإنسانية. اخترتها لأن الأحداث وقعت في لحظات تاريخية ليست فقط مهمّة، بل هي لحظاتٌ بدت فيها الإنسانية بمنحدرٍ. هناك كثيرٌ ممّا يحدث في هذا العالم، وما حدث سابقاً يشكّل صدمة لي ولملايين الناس والفيلم هو صلتي مع هذه الأحداث. رأيي فيها.

«حدود خضراء» الفرار صوب المجهول (مترو فيلمز)

> «حدودٌ خضراء» هو واحد من أفلام أوروبية تناولت موضوع المهاجرين، لكن القليل منها انتقد السّلطات على النحو الذي ورد في فيلمك.

- أنا لست في وارد تجميل الأحداث. ولا أريد الكذب على المشاهد وأقول له إن ما تعرّض له مهاجرون مساكين على الحدود التي لجأوا إليها بحثاً عن الأمان غير صحيح، أو أنه حدث في شكل محصور. ومهنتي هذه استخدمها لقول الحقيقة، ولأفيد المشاهد بما أصوّره ولا يمكنني الكذّب عليه أو خداعه. ما شاهدته أنتَ على الشّاشة حصل وربما لا يزال يحصل في دول أوروبية أخرى.

نحو المجهول

> كيف كان رد فعل الجمهور البولندي حيال فيلمك؟

- إنها تجربة مهمّة جداً بالنسبة لي. سابقاً كان هناك حذرٌ من قبول ما أقدّمه لهم من حكايات. كثيرون قالوا إن هذا لا يمكن أن يحدث. نحن في أوروبا والعالم تغيّر عمّا كان عليه. والآن، مع هذا الفيلم، وجدتُ أن غالبية النّقاد وقراء «السوشيال ميديا» يوافقون على أن هذا يحدث. هناك من يأسف وهناك من يستنكر.

> نقدُك لحرس الحدود البولندي والبروسي في هذا الفيلم يؤكّد أن المعاملة العنصرية لا تزال حاضرة وربما نشطة. اليمين في أوروبا يجد أن طرد اللاجئين الشرعيين أو غير الشرعيين بات أولوية. صحيح؟

- نعم صحيح، لكن الاكتفاء بالقول إنه موقف عنصريّ ليس دقيقاً. نعم العنصرية موجودة ولطالما كانت، وعانت منها شعوب كثيرة في كل مكان، ولكن العنصرية هنا هي نتاج رفض بعضهم لقاء غريبٍ على أرض واحدة، هذا رفض للإنسانية التي تجمعنا. للأسف معظمنا لا يستطيع أن يمدّ يده إلى الآخر في معاملة متساوية. الحروب تقع وتزيد من انفصال البشر عن بعضهم بعضاً. ثم لديك هذا العالم الذي يسير بخطوات سريعة نحو المجهول في كل مجالاته.

> هل تقصدين بذلك التقدم العلمي؟

- بالتأكيد، لكني لست واثقة من أنه تقدّمَ حقاً. الذكاء الاصطناعي؟ هذا وحده قد يذهب بما بقي من ضوابط أخلاقية ومجتمعية. أعتقد أن التأثير الأول لذلك أننا نعيش في زمن نعجِز عن فهم تغيّراته، والنتيجة أننا بتنا نهرب إلى حيث نعتقده ملجأً آمناً لنا. نهرب من التّحديات ونصبح أكثر تقوقعاً معتقدين أن ذلك خير وسيلة للدفاع عن مجتمعاتنا.

ضحايا

> عمَدتِ في «حدود خضراء» إلى تقسيم الفيلم إلى فصول. هذا ليس جديداً لكنه يطرح هنا وضعاً مختلفاً لأننا ننتقل من وضع ماثلٍ ومن ثَمّ نعود إليه لنجده ما زال على حاله. ما الذي حاولتِ تحقيقه من خلال ذلك؟

- هذه ملاحظة مهمّة. في الواقع هناك قصصٌ عدة في هذا الفيلم، وكل شخصية تقريباً هي قصّة قابلة للتطوّر أو التوقف. وهناك 3 فرقاء هم الضحايا والمسعفون ورجال السُّلطة. بعضُ هذا الأسلوب المطروح في الفيلم مشتقٌ من العمل الذي مارسته للتلفزيون وهو يختلف عن أسلوب السّرد السينمائي، وقد اعتمدت عليه هنا لأنني وجدته مناسباً لفيلمٍ يريد تقديم الأحداث في شكلٍ ليس بعيداً عن التقريرية.

> هناك أيضاً حربٌ أوروبية دائرة على حدود بولندا في أوكرانيا. هل يختلف الوضع فيما لو كان أبطال فيلمك أوكرانيين هاربين؟

- نعم. يختلف لأنّ الرموز السياسية للوضع مختلفة. البولنديون يشعرون بالعاطفة حيال الأوكرانيين. السلطات لديها أوامر بحسن المعاملة. لكن هذا لم يكن متوفراً وليس متوفراً الآن للاجئين غير أوروبيين.