أفريقيا الوسطى.. الدولة الفاشلة!

أقعدتها الانقلابات والصراعات الطائفية والقبلية.. وتقسيمها «غير مستبعد»

أفريقيا الوسطى.. الدولة الفاشلة!
TT

أفريقيا الوسطى.. الدولة الفاشلة!

أفريقيا الوسطى.. الدولة الفاشلة!

في منفاه بالعاصمة الإيفوارية أبيدجان، وتحت حراسة خاصة بمحل إقامته، جلس الإمبراطور السابق لأفريقيا الوسطى «جان بيدل بوكاسا» ليتحدث عن هموم بلاده في صيف عام 1983، بعد أربعة أعوام فقط من إسقاط حكمه ووأد إمبراطوريته الحلم. قال الرجل وهو يحمل في يده اليمنى نظارة طبية عتيقة، ويحرك يده اليسرى بإعياء «بلدي يشبه الرجل الفقير الذي يجلس فوق ثروة هائلة.. لا نصيب له فيها»؛ لم يكن بوكاسا حينها يدرك أن الصراعات المسلحة سترغم ذلك الرجل الفقير بعد ثلاثة عقود من الزمن على الرحيل عن بلده، وستهدد مصير «دولة» أراد لها يوما أن تكون «إمبراطورية».
رحل بوكاسا عن العالم في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1996، لتطوى معه ذكريات واحدة من أكثر فترات الحكم دموية في جمهورية أفريقيا الوسطى، ذلك البلد الصغير الواقع في قلب القارة السمراء، في منطقة ملتهبة بالقرب من البحيرات الكبرى وغير بعيد عن خليج غينيا، لكن أفريقيا الوسطى تحولت في الأعوام الأخيرة إلى «ثقب أسود في قلب القارة»، على حد وصف أحد المحللين.
التاريخ السياسي لأفريقيا الوسطى منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960 مليء بالانقلابات والفوضى السياسية، ولم يخل في بعض الأحيان من صراعات مسلحة دامية، كانت آخر حلقاتها الحرب التي اندلعت في ديسمبر (كانون الأول) 2012، حين تحالفت جهات في المعارضة مع حركات مسلحة ليخرج إلى النور ما عرف بتحالف «سيليكا». بدأ التحالف الزحف من الشمال للإطاحة بنظام الرئيس فرنسوا بوزيزي، الذي وجد نفسه أمام متمردين مجهزين بشكل جيد، وجيش حكومي ضعيف ينخره الفساد، فلم يستطع الصمود أمام المتمردين القادمين من الشمال، والمسنودين بدعم من وراء الستار توفره لهم تشاد.
زحف تحالف «سيليكا» باتجاه العاصمة بانغي، وأرغم الرئيس بوزيزي على المطالبة بالحوار مع المتمردين ليتفق الطرفان على عدة أمور من ضمنها تشكيل حكومة وحدة وطنية ضمت عددا من قادة التمرد، لكن الهدنة لم تستمر طويلا حيث اتهم المتمردون بوزيزي بالتنكر لبعض بنود الاتفاق فدخلوا العاصمة بانغي، وأسقطوا حكمه، لينصب قائد «سيليكا»، ميشال دجوتوديا نفسه رئيسا للبلاد.
وفي هذا السياق، يعتقد أستاذ التاريخ المختص في منطقة وسط أفريقيا، آمبرواز تورنيول، أن «الإطاحة بحكم بوزيزي وما أعقبها من عمليات نهب، هو ثمرة للسياسة الفاشلة التي تحكم البلد منذ استقلاله؛ فنظام بوزيزي استحوذ على موارد الدولة وأموالها، وهو لم يزد في ذلك عن إعادة إنتاج نموذج الرئيس الأسبق (انج فليكس) باتاسي، وكلاهما كان يستلهم من فترة حكم الإمبراطور (بوكاسا)». وأضاف تورنيول أن «تراجع الجيش الحكومي بعد ساعات فقط من التصدي للمتمردين أظهر أن الدولة مجرد شبح، وأنها مشروع فاشل، خاصة أنها فقدت السيطرة على كل شيء خلال السنوات الأخيرة: مراقبة الحدود، دفع رواتب الموظفين، المهام الإدارية.. كل هذا العجز الذي أصاب جهاز الدولة واللامبالاة من طرف السلطات العليا استغله المتمردون فربطوا صلات مع مغاضبي النظام وشرعوا في تمرد أدى إلى سقوط الدولة في الهاوية».
في أبريل (نيسان) 2013 أصبح دجوتوديا أول رئيس ينحدر من الأقلية المسلمة، وهو ما خلف حالة من الرفض في أوساط الأغلبية المسيحية التي تتهم متمردي «سيليكا» بارتكاب جرائم ضد المسيحيين أثناء زحفهم باتجاه الجنوب. تجسدت حالة الرفض في تشكل ميليشيا مناهضة للمتمردين تدعى «آنتيبالاكا»، تحولت في ما بعد إلى ميليشيا مناهضة للمسلمين. وفي هذا السياق يقول رئيس أساقفة مدينة بانغي جيروم أميلين دانسون «(آنتيبالاكا) كانت رد فعل على همجية رجال (سيليكا)؛ وقد وصفت (آنتيبالاكا) بأنها ميليشيا المسيحيين، وهو وصف خاطئ، فهي مجموعة من الشباب القرويين المدعومين من طرف بعض عناصر الجيش الحكومي؛ هؤلاء الشباب كان أغلبهم شاهدا على إبادة عائلاتهم وهدم منازلهم، وليسوا بالضرورة مسيحيين. إنهم شباب يردون على العنف بالعنف، وبسرعة ارتكبوا أعمالا إجرامية خطيرة».
عجز دجوتوديا عن احتواء ميليشيا «آنتيبالاكا»، والضغط الدولي أرغماه على الاستقالة وإفساح المجال لحكومة انتقالية تولت قيادتها الرئيسة كاثرين سامبا بانزا، التي حاولت إصلاح الأمور مستعينة بوجود عسكري فرنسي يتمثل في 1600 جندي في ما يعرف بمهمة «سانغاريس»، وقوة عسكرية إقليمية «ميسكا» تقارب ستة آلاف جندي، لكن كل ذلك فشل في احتواء الأزمة التي تحولت إلى حرب دينية راح ضحيتها عشرات آلاف المسلمين ما بين قتلى ونازحين داخل البلاد، فيما فرت أعداد كبيرة من المسلمين باتجاه تشاد والسودان.
وعلى الرغم من الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق المسلمين في العاصمة بانغي وبعض المدن الرئيسة، فإن بعض الأوساط الرسمية وشبه الرسمية ظلت ترفض وصف ما يجري في أفريقيا الوسطى بأنه حرب دينية، حيث أكدت الرئيسة الانتقالية سامبا بانزا في أكثر من مرة أن ما يجري سببه انتشار الأسلحة في المجتمع ولا علاقة له بالدين. نفس الموقف يتبناه رئيس أساقفة مدينة بانغي جيروم أميلين دانسون، حيث قال إن «إضعاف (سيليكا) ومحاولة نزع سلاحها، تسبب في انفجار غضب غير المسلمين، وهو شعور بالظلم كان يتراكم خلال فترة الحكم التعسفي لتحالف (سيليكا)؛ وذلك ما يوضح أن الصراع في أفريقيا الوسطى ليس دينيا، إنه قبل كل شيء صراعا سياسيا؛ فغير المسلمين من مسيحيين وغيرهم رفضوا حكم (سيليكا)، ليس بسبب دين قادتها، وإنما بسبب حكمها التعسفي»، على حد تعبيره.
أمام تزايد الجرائم المرتكبة في حق الأقلية المسلمة، قامت منظمات إنسانية تنشط في العاصمة بانغي، بنقل بعض العائلات المسلمة من العاصمة باتجاه الشمال حيث يتركز وجود المسلمين، وقد أثارت عملية نقل المسلمين جدلا كبيرا في الأوساط الرسمية بينما لاقت ارتياحا في بعض الأوساط الشعبية، فالحكومة الانتقالية احتجت لدى الأمم المتحدة التي أعلن المتحدث باسمها الأسبوع الماضي أن المنظمة الدولية «لن تتخذ قرارا بنقل المسلمين في أفريقيا الوسطى إلا كملاذ أخير»، تاركا الباب مفتوحا أمام جميع الاحتمالات.
في غضون ذلك، قال رئيس أساقفة مدينة بانغي إن «نقل المسلمين باتجاه الشمال حل سيئ للأزمة وذلك لسببين: أولا لأنه دفعة قوية لمناصري تقسيم البلد، وثانيا لأنه لا يشجع التعايش السلمي؛ فما مصير اللحمة الاجتماعية بعد نقل المجموعات المسلمة باتجاه الشمال أو خارج البلاد؟ مع من ستكون المصالحة؟»، وأضاف «الحل الحقيقي يتمثل في نزع سلاح الميليشيات المسلحة بشكل غير شرعي واعتماد سياسة صارمة لتأمين المواطنين». غير أن الموقف الرسمي الرافض لنقل المسلمين باتجاه المناطق الشمالية، خوفا من إمكانية تقسيم البلاد، يواجه موقفا شعبيا بدأ يتبلور داخل المسلمين والمسيحيين، وهو ما بدا واضحا خلال الزيارة المفاجئة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أبريل الماضي إلى بانغي، حين رفع بعض المسلمين لافتة كتبت عليها عبارة: (لا للعفو.. لا للمصالحة.. نعم لتقسيم أفريقيا الوسطى)».
حالة القطيعة والصدع التي يعيشها المجتمع جعلت السفير والوزير السابق جان ويليبيرو ساكو يتحدث عن «وجود ممارسات مكشوفة لدى أشخاص يعارضون العودة إلى الاستقرار، ومن دون أدنى شك تتحكم فيهم جهات خارجية؛ وإن كانت بعض الأحداث التي شهدتها البلاد تفسر على أنها نتيجة طبيعية لفترة طويلة من القمع والأحكام الشمولية، إلا أن الجرائم التي ظهرت في الآونة الأخيرة ذات طبيعة مختلفة وجديدة، ويلفها الغموض». ويضيف الوزير السابق أن «هذه الجرائم في الغالب عشوائية وبلا سبب، ومع ذلك فهي لا تشبه التصرفات الآنية، وإنما عمليات منظمة ومخطط لها من طرف فاعلين هدفهم إلحاق أكبر قدر من الأذى بالمجتمع؛ إنها تشبه إلى حد ما جرائم أخرى ارتكبت من طرف مجموعات إرهابية تنشط في بعض الدول المجاورة والقريبة».
وشدد ساكو على أن «نقل المسلمين من الجنوب باتجاه الشمال، من طرف بعض المنظمات الإنسانية، من شأنه أن يضعف الوحدة الوطنية؛ وهو ما سيؤدي من دون شك إلى تحفيز مطالب بعض المتطرفين من (سيليكا) بالانفصال؛ لذا لا بد من البحث عن حلول لا تخلف وضعيات قانونية واجتماعية وإدارية، من الصعب التحكم فيها أو تغييرها على المدى القصير والمتوسط».
في ظل خشية الأوساط المثقفة في أفريقيا الوسطى من تقسيم البلاد، بدأت تطرح أسئلة حول مستقبل جهاز الدولة ومدى نجاحه في أفريقيا الوسطى، وفي هذا السياق قال محمد حسين، وهو قانوني وناشط من أجل حقوق الإنسان في أفريقيا الوسطى «بعد الانقلاب الذي أشعل نار الصراع في البلاد، بدأ ما بقي من الدولة ينهار في ظل كارثة إنسانية حقيقية؛ الحكومة الانتقالية والقوات الإقليمية والجيش الفرنسي بقوا عاجزين عن إيقاف الفوضى التي عمت البلاد».
وفي محاولة للتأصيل تاريخيا لما تعيشه أفريقيا الوسطى، قال حسين إن «تاريخ البلد مليء بالاضطرابات السياسية والعسكرية، التي تسببت في عدم الاستقرار المؤسساتي، وألحقت الضرر بالنسيج الاجتماعي والاقتصادي وأضعفت قوات الدفاع والأمن، وأعاقت تحقيق التنمية؛ هذا بالإضافة إلى أن جميع الدول المجاورة لأفريقيا الوسطى باستثناء الكاميرون عرفت صراعات مسلحة؛ مما جعل أفريقيا الوسطى تتحمل لعشرات السنين الآثار السلبية لهذه الصراعات، فاستقبلت آلاف اللاجئين من جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي ورواندا؛ كما تضررت من الصراع المسلح في تشاد والسودان.. هذا الوضع الإقليمي المضطرب زاد من انتشار الأسلحة العابرة للحدود؛ وكل هذه العوامل تضافرت اليوم لتظهر جمهورية أفريقيا الوسطى كدولة فاشلة».
وأضاف حسين أن «فشل مشروع الدولة في أفريقيا الوسطى يعود لأسباب من أبرزها: هشاشة مؤسسات الدولة؛ فشل جهود تحقيق الديمقراطية؛ استغلال العرقيات؛ تكاثر المجموعات المسلحة وانتشار الأسلحة الخفيفة؛ نقص الحوار والتعاون بين السلطة والمعارضة؛ العناد وانعدام المرونة لدى الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين؛ تأخر الأجور أو حتى عدم دفع الأجور المتأخرة؛ وأخيرا الفقر والبؤس».
في هذا السياق، يرى أستاذ التاريخ المختص في منطقة وسط أفريقيا، آمبرواز تورنيول، أن «البلد بدأ ينهار حين أصبح العنف يتحكم في العلاقات الاجتماعية، وحسابات الدولة فارغة، والموظفون لا يتقاضون رواتبهم، وسوق الماس لم تعد تخضع لأي رقابة، والطرق الرئيسة المتوجهة إلى الكاميرون وتشاد أصبحت تحت سيطرة الميليشيات المسلحة»؛ ويرجع تورنيول هذه الوضعية إلى فشل نظام الرئيس السابق فرانسوا بوزيزي في تحقيق الاستقرار والعدالة الاجتماعية، لكنه لا يغفل الدور الفرنسي حين يقول «إن فشل نظام بوزيزي، مهما أنكرنا ذلك، يكرس فشل فرنسا والاتحاد الأوروبي، اللذين وفرا الدعم القوي لديمقراطية لم تكن في الحقيقة سوى لعبة للتغطية على فساد نظام ديكتاتوري، لكن فرنسا كانت لا تتأخر في تمويل الانتخابات الصورية بدل ترك البلد يواجه مسؤولياته». وخلص تورنيول إلى أن «أفريقيا الوسطى تمثل شبح ثقب أسود في قلب القارة الأفريقية؛ إنها دولة فاشلة وسط مجموعة من الدول الهشة مثل تشاد وجمهورية الكونغو الديمقراطية والكونغو وجنوب السودان التي لا تزال في المهد؛ وأن تقسم دولة فاشلة مثل أفريقيا الوسطى فذلك أمر غير مستبعد، ولكن أن تؤدي في انهيارها إلى انهيار التوازن الهش في منطقة تعيش الأزمات، فذلك لا يمكن تصوره».
وحده الراحل بوكاسا كان قادرا على أن يتصور أسوأ السيناريوهات لبلده، وهو الذي كان يقول بعد أن طعنته فرنسا في الظهر وتخلت عنه «ما يحدث لبلدي عار على العالم. إنهم يستغلون ثرواته ويحرمونه من المطالبة بحقوقه، ومع مرور الوقت تحول إلى أرض يأتيها الآخرون لأخذ اليورانيوم والماس من دون أي مقابل؛ وعندما يفكر أي رئيس للبلاد في التحرك ضدهم تتدخل فرنسا لمنعه، لأن فرنسا تعامل أفريقيا الوسطى على أنها ملك خصوصي لها».



«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
TT

«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)

تقف مصر على مقربة من تحقيق «الحلم النووي»، الذي راودها منذ خمسينات القرن الماضي، عقب خطوات جادة وثابتة لتنفيذ «مشروعها الاستراتيجي»، وإنشاء أول محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية في مدينة الضبعة بمحافظة مطروح على ساحل البحر الأبيض المتوسط على بعد نحو 289 كيلومتراً شمال غربي القاهرة، بتمويل وتكنولوجية روسيين. وبينما يأتي المشروع في سياق خطة مصر لتنويع مصادر الطاقة ورؤيتها الاستراتيجية لامتلاك الطاقة النووية السلمية، فإن مشروع «محطة الضبعة النووية» تتجاوز أبعاده حدود الاقتصاد، لتمتد إلى السياسة والبيئة والمجتمع.

بالتزامن مع الاحتفال بالعيد السنوي الخامس للطاقة النووية، الذي يوافق التاسع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، شارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، في مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة النووية، وتوقيع أمر شراء الوقود النووي، ليدخل «الحلم النووي» المصري مرحلة حاسمة.

وعد الرئيس الروسي، في كلمته حينها عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، التعاون القائم بين مصر وروسيا في بناء المفاعل النووي «نجاحاً بارزاً»، مشيراً إلى أن «المشروع سيوفر الكهرباء اللازمة لدعم الاقتصاد المصري المتنامي».

وقال السيسي في كلمته إنه «في ظل ما يشهده العالم من أزمات متلاحقة في قطاع الطاقة، وارتفاع أسعار الوقود الأحفوري، تتجلى بوضوح أهمية وحكمة القرار الاستراتيجي، الذي اتخذته البلاد، بإحياء البرنامج النووي السلمي، باعتباره خياراً وطنياً، يضمن تأمين مصادر طاقة مستدامة وآمنة ونظيفة، دعماً لأهداف رؤية مصر 2030».

وتقدر الطاقة الكهربائية المتوقع توليدها من محطة الضبعة النووية بنحو 4800 ميغاواط، عبر أربعة مفاعلات من الجيل الثالث من طراز VVER-1200، وهو ما يمثل 10 في المائة من إنتاج الكهرباء في مصر.

وخطت مصر أولى خطواتها الجادة نحو تنفيذ المشروع في نوفمبر 2015 بتوقيع اتفاقية مبدئية بين الرئيسين المصري والروسي لإقامة أول محطة نووية لتوليد الكهرباء، تنفذها شركة «روساتوم» الحكومية الروسية، لتتخذ مصر من يوم التوقيع عيداً وطنياً للطاقة النووية.

وبعد عامين، وتحديداً في نوفمبر 2017، تم التوقيع على العقود الرئيسية لبناء الوحدات الأربع للمحطة، بطاقة 1200 ميغاواط لكل وحدة، لتنطلق بعدها الأعمال التحضيرية والإنشائية للمشروع بتكلفة إجمالية تقدر بنحو 28.75 مليون دولار، 85 في المائة منها قرض حكومي روسي ميسّر بفائدة 3 في المائة سنوياً يبدأ سداده عام 2029، والباقي تمويل ذاتي مصري.

«تشيرنوبل» جمد الحلم

الرغبة في امتلاك الطاقة النووية السلمية «حلم راود المصريين منذ منتصف القرن الماضي»، بحسب السيسي. حيث بدأت طموحات مصر النووية بعد فترة قصيرة من اكتشاف القدرة على توليد الطاقة السلمية من الانشطار النووي. ففي أعقاب مؤتمر جنيف الأول للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA) عام 1955. وبعد ست سنوات افتتحت مركز البحوث النووية في أنشاص وشغّلت أول مفاعل بحثي (من طراز WWR-S ) بقدرة 2 ميغاواط، بالتعاون مع «الاتحاد السوفياتي» آنذاك، لإجراء الأبحاث والتدريب وإنتاج النظائر المشعة.

وفي عام 1964 أعلنت مصر عن خطط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، واختارت مبدئياً موقع «سيدي كرير» في الساحل الشمالي أيضاً، لكن الظروف الاقتصادية والسياسية في المنطقة أرجأت المشروع.

وبعد حرب 1973، عاد الحلم النووي يراود المصريين وتم وضع خطة لبناء محطات نووية بقدرة 10 آلاف ميغاواط بحلول عام 2000، وخصصت منطقة «الضبعة» بعد مفاضلة بين أماكن عدة على سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط.

وشهدت الفترة بين 1983 و1968 المناقصة الدولية الثانية للمشروع وتلقت فيها مصر عروضاً من شركات أميركية وألمانية وسويدية. وكانت القاهرة على وشك توقيع العقد لكن «كارثة مفاعل تشيرنوبل» (أوكرانيا التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفياتي) في أبريل (نيسان) 1986 جمّدت الحلم.

وبعد هدوء المخاوف من المفاعلات النووية السلمية، قررت مصر إحياء برنامجها النووي عام 1999، وفي عام 2007 تم تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA) كهيئة مستقلة تكون مسؤولة عن تنفيذ وإدارة المشروع النووي. وأعلن الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 2008 عن إعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة. لكن مرة أخرى تعطّل المشروع بفعل أحداث 2011، قبل أن يعيد السيسي إحياءه بالتوقيع على اتفاق مبدئي مع روسيا عام 2015.

عوائد اقتصادية

تدخل مصر النادي النووي بطموحات اقتصادية كبيرة، مستهدفة تعزيز أمن الطاقة وتحقيق التنمية، ويقول السيسي إن المشروع «سيعزز مكانة بلاده كمركز إقليمي للطاقة، ويحدث نقلة نوعية في مسار توطين المعرفة والاستثمار في الكوادر البشرية».

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي يشهد مراسم توقيع أمر شراء الوقود النووي في نوفمبر الماضي (مجلس الوزراء المصري)

ويعد دخول مصر إلى ميدان التطوير الصناعي والتكنولوجي للطاقة النووية من العوائد المهمة للمشروع، بحسب دراسة نشرها نائب رئيس وحدة دراسات الاقتصاد والطاقة بـ«المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية»، أحمد بيومي، العام الماضي، حيث من المتوقع أن تكون نسبة تنفيذ نحو 20 في المائة من المشروع بالتعاون مع الشركات المحلية، ومن المستهدف أن تصل نسبة المكون المحلي من 20 إلى 25 في المائة عند تشغيل المفاعل الأول في 2028، تزيد إلى 35 في المائة عند تشغيل المفاعل الرابع في 2031، كما ستتولى شركة «روساتوم» الحكومية الروسية تدريب ما يقرب من ألفي شخص من موظفي التشغيل والصيانة للعمل في المحطة.

وفقاً لهيئة الاستعلامات المصرية الرسمية، فإنه «من المتوقع أن تبلغ القيمة المضافة للمشروع في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة الإنشاء نحو 4 مليارات دولار سنوياً». وتوفر المحطة مصدراً ثابتاً للكهرباء يعمل على مدار الساعة، ما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويضمن استقرار الشبكة.

ويأتي إنشاء محطة الضبعة النووية في إطار خطة مصرية لتنويع «سلة الطاقة»، بحسب أستاذ هندسة البترول والطاقة، الدكتور جمال القليوبي، الذي يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «مصر تسعى لأن تكون لديها مصادر متعددة من الطاقة، لا تعتمد فقط على الشق الحراري واستخدام الوقود الأحفوري». وقال: «طوال 50 عاماً كان الوقود الأحفوري مصدراً لنحو 98 في المائة من الطاقة في مصر، لكن الأمر تغيّر منذ عام 2018 مع زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة من الرياح والشمس والهيدروجين الأخضر»، مشيراً إلى أن «محطة الضبعة مع اكتمال تشغيل مفاعلاتها قد تسهم في نحو 16 إلى 18 في المائة من الكهرباء في مصر».

وتستهدف مصر، وفقاً للتصريحات الرسمية، الوصول بمساهمة الطاقة المتجددة ضمن مزيج الطاقة إلى نحو 42 في المائة من إجمالي الطاقة بحلول عام 2030.

لا تقتصر العوائد الاقتصادية على توفير الكهرباء وتوفير جزء من فاتورة استيراد مصر للوقود الأحفوري التي تجاوزت 12 مليار دولار العام الماضي، بحسب تصريحات لوزير البترول المصري السابق، طارق الملا.

ويشير القليوبي إلى أن فاتورة استيراد الوقود لتشغيل محطات الكهرباء تبلغ نحو 50 في المائة من القيمة الإجمالية لفاتورة استيراد الوقود. وقال: «محطة الضبعة ستوفر جزءاً كبيراً من فاتورة الاستيراد، كما أن عوائدها الاقتصادية تمتد إلى مناح أخرى تتعلق بتحلية مياه البحر وإنتاج النظائر المشعة المستخدمة في عدد من الصناعات الطبية والزراعية». وأضاف: «لدى مصر خطة واضحة. خطة تؤازر الدولة اقتصادياً وتتماشى مع أهداف الدول الصناعية، عبر تحسين ملف الصناعة واستخدام الطاقة النووية في كثير من المناحي الاقتصادية».

خيار استراتيجي

يسهم مشروع الضبعة في توفير العملة الصعبة، كما يوفر نحو 6 آلاف فرصة عمل في أثناء الإنشاء، وآلاف فرص العمل في أثناء فترة التشغيل التي تمتد لـ60 عاماً. كما تعد محطة الضبعة النووية مصدراً نظيفاً وخالياً تماماً من انبعاثات الكربون، ويدعم استراتيجية مصر للطاقة 2035، بحسب هيئة الاستعلامات المصرية.

دخول مجال الطاقة النووية هو «خيار استراتيجي»، بحسب دراسة نشرها رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور أحمد قنديل، مشيراً إلى أن «الضبعة ليست مجرد محطة كهرباء»، إذ إنها تحقق أهدافاً عدة، من بينها؛ «بناء أمن طاقة مصري مستقل نسبياً عن تقلبات الأسواق العالمية للبترول والغاز الطبيعي، وتحرير جزء من الغاز المصري للتصدير أو الاستخدام الصناعي، خاصة في البتروكيماويات والأسمدة، ودعم الصناعات الثقيلة والتوجه نحو الهيدروجين الأخضر، وتوفير مصدر مستقر للكهرباء على مدى عقود».

يسهم المشروع أيضاً في تعزيز مكانة مصر الإقليمية، بحسب قنديل الذي قال: «مصر اليوم لاعب رئيسي في الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، وقوة صاعدة في الطاقة المتجددة، وتعمل على مشروعات للربط الكهربائي مع ثلاث قارات، وحين تكتمل وحدات الضبعة، ستمتلك مصر برنامجاً نووياً سلمياً واسع النطاق، يمنحها وزناً إضافياً في معادلات الطاقة الإقليمية».

أما القليوبي فيشير إلى أن مشروع الضبعة يُدخل مصر إلى «نادي الدول الصناعية الكبرى التي تستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية».

أبعاد سياسية

وبينما ستسهم محطة الضبعة في تلبية احتياجات مصر من الطاقة على المدى الطويل، فإن هناك دوافع أخرى لإقدام البلاد على هذه الخطوة، من بينها «تعزيز المكانة السياسية للحكومة في الداخل وتوسيع علاقاتها الأجنبية إلى ما يتجاوز واشنطن»، بحسب مقال نشره إيريك تراجر في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» عام 2016.

أشار تراجر وقت ذاك إلى أن «المشروع يستهدف إعطاء أمل للمصريين وتعزيز الدعم الداخلي للحكومة، بعدّه مشروعاً قومياً»، كما أنه يأتي في إطار مساعي القاهرة لـ«توسيع نطاق التواصل الخارجي ليتجاوز علاقتها الثنائية بواشنطن، ما يُظهر مصر بصورة المنفتحة على العالم أجمع». وقال تراجر إن المشروع «يوطد علاقات مصر وروسيا».

وهو أمر أكده بالفعل الرئيسان المصري والروسي أخيراً، حيث قال السيسي إن المشروع «يعدّ برهاناً عملياً على أن شراكتنا لا تقتصر على التصريحات السياسية البراقة، بل تتجسد في مشروعات واقعية، تترجم إلى تنمية حقيقية، تعود بالنفع المباشر على شعبينا»، بينما أكد بوتين دعم بلاده «طموحات مصر التنموية في إطار الشراكة والتعاون الاستراتيجي الممتد بين البلدين». وقال: «هذه الشراكة مستمرة وتتجلى في ارتفاع حجم ومعدل التجارة بين البلدين، وتكثيف التعاون الصناعي، فضلاً عن مضي روسيا قدماً في إنشاء منطقة صناعية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس».

ويشير تراجر، في هذا الإطار، إلى أن المشروع يعزز نفوذ موسكو في القاهرة، ما قد يثير قلق الولايات المتحدة نظراً لاهتمام واشنطن بالاستقرار الاقتصادي في مصر وبآفاق سياستها الخارجية.

وفي هذا الإطار، يرى مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور عمرو الشوبكي، أن «مصر حريصة ومنفتحة على قوى وأقطاب أخرى دون المساس بالعلاقة الاستراتيجية مع واشنطن»، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن «القاهرة لديها علاقات تجارية واقتصادية وسياسية مع روسيا والصين».

وبالفعل أكد عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، أن «هذا المشروع يربط مصر وروسيا بعلاقات في قطاع مهم للغاية ولسنوات طويلة مقبلة». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «المشروع يحقق أهدافاً اقتصادية وسياسية عدة تتراوح ما بين توفير الكهرباء وتنمية الكوادر الوطنية إلى تعزيز المكانة الإقليمية والدولية».

وهنا يلفت الشوبكي إلى أن «حرص مصر على امتلاك الطاقة النووية السلمية - إضافة إلى أهميتها الاقتصادية - نابع من رغبتها في تأكيد حضورها في الملفات الكبرى». وقال: «الدول التي تمتلك وتستخدم الطاقة النووية السلمية لديها مكانة وتأثير وحضور دولي».

وتؤكد مصر حقها في امتلاك الطاقة النووية بموجب «معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية» التي وقّعت عليها عام 1968 وصدّقت عليها عام 1981. وتعوّل القاهرة على القيمة الاستراتيجية لمشروع الضبعة، ووفق السيسي فإن «المشروع سيضع مصر في موقع ريادي، على خريطة الاستخدام السلمي للطاقة النووية».

«المحطة النووية»... عشر سنوات على طريق التنفيذ

طوال أكثر من نصف قرن سعت مصر إلى امتلاك محطة لاستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، لكن الأحداث السياسية والظروف الاقتصادية وكارثة مفاعل تشرنوبل عام 1986 وقفت في طريق «الحلم النووي» المصري لعقود، حتى أعيد إحياء المشروع بخطوات عملية لإنشاء محطة الضبعة النووية. وفيما يلي أبرز المحطات:

- 1955 أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA).

-1961 افتتاح مركز البحوث النووية في أنشاص وتشغيل أول مفاعل بحثي.

- 1964 اختيار موقع سيدي كرير على ساحل البحر المتوسط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، (لم ينفذ).

- 1983 مناقصة دولية لإنشاء المحطة.

- 1986 كارثة تشيرنوبل... توقف المشروع.

- 2007 تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA).

- 2008 استئناف البرنامج النووي السلمي، وإعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة.

- 2015 توقيع الاتفاق المبدئي مع روسيا (روساتوم).

- 2017 توقيع العقود النهائية للمشروع.

- 2018 بدء إعداد البنية التحتية للموقع وإنشاء الرصيف البحري التخصصي لاستقبال المعدات الثقيلة.

- 2022 أصدرت هيئة الرقابة النووية والإشعاعية (ENRRA) إذن إنشاء الوحدة النووية الأولى.

- 2024 تركيب مصيدة قلب المفاعل.

- 2025 تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى.


روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا
TT

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

تطلب الأمر شاباً مفعماً بالحياة ومليئاً بالأمل لهزيمة اليمين المتطرف في هولندا. فقد نجح روب يتن، السياسي الشاب الذي لم يدخل بعد عقده الأربعين، بإعادة حزب «الديمقراطيين 66» الليبرالي الوسطي الذي تأسس عام 1966، إلى واجهة الحياة السياسية في هولندا وقاده إلى تحقيق أفضل نتائج له منذ تأسيسه. ورغم أن الحزب لم يفز فعلياً بالانتخابات التي جرت نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بل تعادل مع حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز، فإن النتائج تعدّ فوزاً للديمقراطيين وخسارة لأقصى اليمين؛ وبتحقيق كلا الحزبين 26 مقعداً من أصل 150 داخل البرلمان، يكون الديمقراطيون قد ضاعفوا مقاعدهم بـ3 مرات تقريباً من 9 مقاعد في الانتخابات التي سبقت إلى 26 مقعداً، فيما خسر حزب الحرية 11 مقعداً وانخفض تمثيله من 37 نائباً إلى 26 نائباً. ورغم أنه ما زال غير واضح ما هي الأحزاب التي قد تشارك في الائتلاف الحاكم، فمن المؤكد أن حزب الحرية سيكون خارج الحكم. إذ تعهدت الأحزاب الأخرى بعدم العمل مع خيرت فيلدرز من جديد بعد تجربة الحكم الأخيرة التي لم تدم أكثر من 11 شهراً.

أثبت روب يتن (38 عاماً) أن هزيمة أحزاب أقصى اليمين ممكنة، ليعطي فوز حزبه في الانتخابات العامة في هولندا، أملاً للكثير من الأحزاب الأوروبية الوسطية التي تكافح هي نفسها للبقاء أمام مد اليمين المتطرف الذي يلف القارة العجوز. يتن نفسه هلل فور صدور النتائج بأن هولندا «أغلقت فصل خيرت فيلدرز»، متعهداً بالعمل على تشكيل «ائتلاف متين يقود هولندا إلى الأمام». وأضاف أن فوز حزبه أثبت أن «الأحزاب الوسطية أظهرت أنه من الممكن هزيمة الأحزاب الشعبوية وأقصى اليمين». وقاد يتن حملة انتخابية شعارها «التغيير والإيجابية» مستعيناً بشعار باراك أوباما «يمكننا التغيير»، في إشارة إلى استبدال حزب معتدل باليمين المتطرف. ولاقت إيجابيته صدى لدى الناخبين الهولنديين الذين يبدو أنهم تعبوا من السلبية التي طبعت الحياة السياسية منذ الانتخابات التي سبقت أن أوصلت حزب الحرية إلى الطليعة ولكن من دون فوز كاسح، ما يعني أن فيلدرز لم يكن قادراً على الحكم بمفرده، وعجز عن إقناع الأحزاب الأخرى التي شكلت معه الحكومة مشترطة ألا يترأسها هو شخصياً، باعتماد سياسته المتطرفة حول الهجرة، وهو ما تسبب في النهاية بانهيار الحكومة. ونقلت وسائل إعلام هولندية إحصاءات تشير إلى التأييد الواسع لتولي يتن رئاسة الحكومة بين مؤيدي الأحزاب اليمينية. ونقلت شبكة أخبار «آر تي إل» الهولندية عن أحد الناخبين قوله إنه «لا يوافق دائماً على سياسات الديمقراطيين ولكن روب يتن رجل (عادي) يمكنه أن يؤدي وظيفة تمثيل البلاد بشكل جيد». وقال عن فيلدرز إنه لو تولى رئاسة الحكومة فإن الأمور «لن تنجح معه وإنه سيريد على الأرجح أن يمرر سياسته، وفي حال لم ينجح بذلك فسينسحب مرة جديدة».

اغتيال مخرج... وإحراق مدرسة إسلامية

ويأتي فوز يتن على اليمين المتطرف وصعوده السريع وهو ما زال في عقده الثلاثين، متناغمين مع دخوله عالم السياسة في سن فتيّة أيضاً وهو في الـ17 من العمر. بداية قصته في السياسة كانت مرتبطة أيضاً باليمين المتطرف؛ ففي عام 2004 شكل اغتيال المخرج السينمائي تيو فان غوخ على يد متطرف هولندي من أصل مغربي، لحظة مفصلية تسببت بتداعيات دفعت بيتن إلى دخول عالم السياسة. وكان إحراق مجموعة من الشبان المنتمين إلى اليمين المتطرف لمدرسة ابتدائية تعلّم الدين الإسلامي في بلدته في أودن، سبب توجهه إلى النضال ضد اليمين المتطرف. وقال مؤخراً عن بداياته إن الشبان الذين أحرقوا المدرسة كانوا من رفاقه في فريق كرة القدم وكان يعرفهم جيداً، ولكنه أراد أن يُظهر صورة مختلفة للعالم وأن بلدته ليست مجرد مكان مليء بشبان «لا يعرفون ماذا يفعلون».وبقي كفاح يتن ضد اليمين المتطرف أساسياً خلال مسيرته السياسية. وحتى في الحملة الانتخابية التي قادها، اعتمد يتن استراتيجيات تستهدف اليمين المتطرف، مثل جعله العلم الهولندي محورياً خلال الحملة، وقوله إنه يريد «استعادته» من اليمين المتطرف الذي غالباً ما يستخدم العلم. ولم يتردد كذلك بجعل مسألة الهجرة التي أوصلت فيلدرز للفوز في الانتخابات التي سبقت، محورية خلال حملته. ورغم ليبراليته، وارتباطه بلاعب هوكي محترف أرجنتيني سيعقد قرانه عليه العام المقبل، فقد أكد للناخبين أنه سيعتمد سياسة هجرة متشددة تجاه المرفوضة طلباتهم وسيعتمد حداً أقصى لأعداد المهاجرين. ويبدو أن تعهداته هذه لاقت تجاوباً من الناخبين، إذ أكد لاحقاً متحدث باسم حزبه أن 7 في المائة من ناخبي حزب الحرية صوتوا هذه المرة للديمقراطيين.

وحتى قبل الانتخابات وبدء الحملات الانتخابية، كان يتن يدعو لاعتماد سياسة هجرة جديدة في هولندا والخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي. وروّج لاعتماد نظام مبني على النظام الكندي ينقل البحث والبت بطلبات اللجوء إلى خارج دول الاتحاد الأوروبي ورفض استقبال من يصلون خارج هذا النظام إلى هولندا.

تشديد قوانين الهجرة

ودعا كذلك إلى مراجعة المعاهدات الدولية الخاصة باللاجئين «لكي تعكس الواقع الجديد» في خلاف للسياسة التي كان يعتمدها الديمقراطيون. ونقلت عنه وسائل إعلام هولندية قوله إن «قانون الهجرة المعتمد حالياً لم يعد صالحاً، علينا أن ننتقل من هجرة تتحكم بنا، إلى هجرة نحن نتحكم بها، ليس فقط بسبب مواطنين هولنديين قلقين من الأعداد الوافدة ولكن أيضاً للأشخاص الذين يهربون من العنف والملاحقة». وبحسب خطة يتن، فإن هولندا لن تقبل إدخال لاجئين إلا أولئك الذين يتقدمون للحصول على لجوء من خارج الاتحاد الأوروبي ويتم قبولهم. ويعدّ أن نظاماً كهذا سيساعد على وقف طرق التهريب الخطيرة وينقذ أرواحاً.وحالياً، يتم إدخال بعض اللاجئين إلى أوروبا عبر نظام شبيه تعتمده الأمم المتحدة لتوزيع اللاجئين ولكن أعداد هؤلاء قليلة جداً مقارنة بالذين يدخلون بشكل غير قانوني ويتقدمون بطلبات لجوء. ويريد يتن توسيع هذا النظام بشكل كبير لكي يصبح الطريقة الأساسية لاستقبال اللاجئين في هولندا. ولكنه يعي أن هذه الخطط تستغرق وقتاً طويلاً. وحتى ذلك الحين، وفي المرحلة القصيرة المدى يطالب بقوانين أشد لطالبي اللجوء الذين يعدّون عبئاً، خاصة أولئك القادمين من دول مصنفة «آمنة» أي لا خوف من ملاحقات بحق القادمين منها الذين لا يتمتعون أصلاً بحظوظ كبيرة في الحصول على لجوء. ومن أقواله عن هؤلاء إن «الذين يأتون ويتسببون بمشاكل ولا يتوجب عليهم أن يكونوا هنا، يجب أن يتم إرسالهم إلى ملاجئ مغلقة، ويفهموا أنهم يدخلون بلداً بقيم ليبرالية، وإذا كانوا لا يحترمونها فسيخسرون بعض الحقوق».

في المقابل يروّج يتن لاندماج أفضل لطالبي اللجوء الناجحين ويدعو إلى إدخالهم في صفوف تعلّم اللغة «منذ اليوم الأول» ومساعدتهم في العثور على وظيفة «بأسرع وقت ممكن». وقبل الانتخابات ومنذ ترأسه حزبه عام 2023، حذّر بأن إبقاء الأشخاص على نظام الإعانات من دون دمجهم في المجتمع وسوق العمل «مؤذ لهم وللمجتمع بشكل عام، ويغذي الإحباط لدى الهولنديين». ويعدّ يتن أن على الأحزاب الوسطية أن «تقود الخطاب السياسي عوضاً عن أن تترك ذلك للأحزاب اليمينية المتطرفة».

حل أزمة السكن... بناء جزيرة جديدة

سياسة الهجرة هذه التي يروج لها يتن منذ ترأسه حزبه، قد تكون أكسبته أصواتاً من اليمين واليمين المتطرف، ولكن الأصوات الأخرى التي نجح بإضافتها لحزبه جذبها من خلال خطاب أوسع يتناول مخاوف الناخبين بشكل مباشر من قضايا تتعلق بالسكن التي كانت أيضاً من القضايا الأساسية في الانتخابات الهولندية. فهولندا، مثل الكثير من الدول الأوروبية، تعاني من نقص 400 ألف وحدة سكنية ما يؤدي إلى رفع دائم في أسعار العقارات والسكن ما يزيد من العبء على السكان. ورغم أن كل الأحزاب التي خاضت الانتخابات جعلت من مسألة البناء أساسية في معركتها، فإن طروحات الديمقراطيين كانت الأكثر ثورية. وفيما كانت الأحزاب الأخرى تقترح إغلاق مطارات للبناء على أراضيها، أو توسيع مجمعات موجودة أصلاً، اقترح يتن بناء جزيرة جديدة على أرض مغطاة حالياً بالمياه، في بلد ربعه يقبع تحت مستوى البحر. وتعهد ببناء مدن جديدة تضم 60 ألف وحدة سكنية مع مساحات خضراء ومياه وأماكن ترفيه.

ما إذا كان سينجح بتحقيق أي من طروحاته تلك، إن كانت المتعلقة بالهجرة أو تلك المتعلقة بالسكن، غير واضح ومرتبط بالائتلاف الذي سينجح بتشكيله في النهاية والخطط التي يتفق عليها مع الأحزاب الأخرى. ولكن على الأقل هي خطط طموحة لاقت صدى لدى الناخبين وأوصلت من قد يصبح أصغر رئيس حكومة في هولندا إلى رأس السلطة. والواقع أن صعوده السريع وهو في سن يافعة، دفع البعض للتشكيك بقدراته أحياناً.

أما سياسته الأخرى، فهي مناقضة تقريباً لسياسات فيلدرز واليمين المتطرف في هولندا المشكك في الاتحاد الأوروبي وفي التأييد الأوروبي لأوكرانيا ومعاداة روسيا. ويعدّ يتن مؤيداً للاتحاد الأوروبي ولدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. وعندما كان وزيراً للطاقة في حكومة مارك روته التي سبقت حكومة فيلدرز، دفع يتن بسياسة طاقة لا تعتمد على الغاز الروسي. وقد خدم في حكومة روته الرابعة وزيراً للمناخ والطاقة بين عامي 2022 و2024. ودخل يتن البرلمان الهولندي للمرة الأولى عام 2017 وكان متحدثاً باسم كتلته عن المناخ والطاقة. وفي عام 2018 انتخب زعيماً للكتلة النيابية للديمقراطيين ليصبح أصغر زعيم للكتلة في تاريخ الحزب. وفي عام 2020 انتخب حزبه الدبلوماسية المخضرمة سيغريد كاخ لزعامته في معركة لم يترشح فيها يتن. ولكنه لم ينتظر كثيراً، إذ وجد فرصة سانحة بعد استقالة كاخ في صيف عام 2023 وانتخب لزعامة الحزب.

اقرأ أيضاً


هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
TT

هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY

> منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم هولندا حكومات ائتلافية مكونة من حزبين أو أكثر في أحيان كثيرة، بسبب القانون الانتخابي المعتمد الذي يجعل من المستحيل على حزب واحد أن يفوز بالأغلبية. وطغى مارك روته وحزبه حزب «الشعب للحرية والديمقراطية» المحافظ الليبرالي، على الحياة السياسية في السنوات الـ14 الأخيرة تقريباً. فهو ترأس 4 حكومات متتالية بين العامين 2010 و2024، ضم معظمها أكثر من حزبين، حتى استقالته عام 2023 وانتقاله ليصبح أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو). وحظيت حكومته الأولى التي كانت حكومة أقلية وشكَّلها مع حزب «نداء الديمقراطية المسيحي»، بدعم من حزب «الحرية» اليميني المتطرف من دون أن يشارك الأخير في الحكومة.

ولكن الحكومة لم تدم أكثر من عامين بعد خلافات مع خيرت فيلدرز الذي سحب دعمه لها، مما أدى إلى سقوطها. وشكَّل روته حكومته الثانية التي ضمت 4 أحزاب بينها حزب «العمال»، مما سمح لها بأن تحكم طوال فترة ولايتها لخمس سنوات، وكانت الأكثر استقراراً في تاريخ هولندا الحديث. وشكَّل روته حكومته الرابعة عام 2017 لتحكم لمدة 3 سنوات، وضمت 4 أحزاب ولكنها سقطت مبكراً بعد تداعيات أزمة كورونا. وكانت الحكومة الأخيرة التي شكَّلها روته من 4 أحزاب عام 2022، الأقصر عمراً، واستغرق تشكيلها وقتاً قياسياً وصل إلى 299 يوماً، ولكنها انهارت سريعاً بعد خلافات حول الهجرة، ولم تحكم فعلياً أكثر من عام ونصف، ولكنها بقيت حكومة تصريف أعمال لنصف عام إضافي.

وفي عام 2024، حقق حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة فيلدرز فوزاً تاريخياً، ولكن فيلدرز نفسه لم يصبح رئيس حكومة بسبب اشتراط الأحزاب الأخرى التي وافقت على دخول الائتلاف الحكومي معه، على تعيين شخصية أخرى. وتوافقت الأحزاب في النهاية على ديك شوف لرئاسة الحكومة التي ضمت 4 أحزاب من بينها حزب «الحرية» الذي خاض تجربته الأولى في الحكم، ولكنه سرعان من انسحب من الحكومة في صيف العام الجاري بعد خلافات مع الأحزاب الأخرى حول سياسات هجرة متشددة ومخالفة للقانون أراد تطبيقها.