«إخوان السودان».. حسابات ربع قرن!

حكم «الجبهة الإسلامية» شهد حروبا في كل المناطق.. وقسم البلاد وعزلها عن العالم

«إخوان السودان».. حسابات ربع قرن!
TT

«إخوان السودان».. حسابات ربع قرن!

«إخوان السودان».. حسابات ربع قرن!

بحلول الثلاثين من يونيو (حزيران) 2014، يكون قد مر ربع قرن بالتمام والكمال على «حكم» أو تحكم «الجبهة القومية الإسلامية»، التنظيم السياسي لحركة الإسلاميين السودانيين (إخوانية المنشأ)، في السودان.
فمنذ أن دقت الموسيقى العسكرية في الثلاثين من يونيو عام 1989، سيطرت الجبهة على كرسي الحكم، ولم تغادره، ويبدو أنها تقاتل بكل أيديها لتحتفظ به. معروف أن الانقلاب الذي قاده العميد وقتها عمر حسن البشير، انقلب على حكومة رئيس الوزراء الصادق المهدي، التي جاءت للحكم عبر انتخابات ديمقراطية، بعد سنة واحدة من إسقاط حكم الرئيس الأسبق جعفر النميري في أبريل (نيسان) 1985 بثورة شعبية.
الأوضاع في البلاد حاليا لا تشبه مثيلتها حين أتى الانقلاب. كانت هناك حكومة ديمقراطية منتخبة مأزومة، أما هنا فحكومة انقلابية مأزومة ومعزولة سياسيا ودوليا، اقتصادها منهار كليا. الحروب امتدت في مناطق واسعة من البلاد، فيما تفوح رائحة الفساد الإداري والسياسي والمالي من كل مكان.
وفي محصلة ربع قرن، فقد شهد السودان خلال تلك السنوات العجاف حروبا في جنوبه قادته إلى الانفصال، وفي غربه راح ضحيتها عشرات الآلاف، وفي الشرق.. وشهدت البلاد عزلة دولية لم يسبق لها مثيل. وتدهور الاقتصاد، وانهارت المؤسسات التعليمية الحكومية لصالح قيام أخرى في القطاع الخاص استفاد منها مريدو النظام. كما انهار قطاع الزراعة، وجرت تصفية مشروع الجزيرة، أكبر مشروع زراعي في العالم «تحت إدارة واحدة»، واستهلكت ميزانية الدولة وثرواتها لخدمة مشروع الجبهة الإسلامية الأمني، فأنشئت الميليشيات التي حاربت إلى جانب الجيش الذي لم ينج من أعمال التصفية، لصالح كوادر الحزب. ويبدو السودان اليوم ممزقا هشا، قابلا للتفتت، وغريقا يستنجد بغريق.
يقول محللون إن البحث عن مخرج دفع الرئيس عمر البشير إلى الدعوة للحوار الوطني في خطابه الشهير الذي سمي بـ«خطاب الوثبة». محصلات الحوار الآنية تقول إن الحزب الحاكم يحاور نفسه، فقد عاد حزب حسن الترابي، الذي انشق عنه في التسعينات، ليمجد من جديد النظام، فيما يجلس على الطرف الآخر من الحوار أحدث الأحزاب انشقاقا عن الحزب الحاكم «حركة الإصلاح الآن» بقيادة غازي العتباني. وباعتقال المهدي، وعلى الرغم من أنه من دعاة وعرابي الحوار بين نظامي الرئيسيين، فإن رصاصة رحمة أطلقت فدوخت رؤوس دعاة الحوار، وحولته إلى مجرد حوار داخل بيت الإسلام السياسي السوداني ومن حوله «جوقة» من الموالين المستترين.
أمنيا، مثل الإعلان عن نشر قوات «التدخل السريع» في الخرطوم، (الجنجويد سابقا)، صدمة كبيرة للكل، وعلامة فارقة بين مرحلة ومرحلة، ولا يُعرف سبب لنشرها في وجود قوات الجيش والشرطة المسؤولتين عن بسط الأمن في ربوع الخرطوم. فإذا أضفنا لذلك دورها العسكري في جبهات القتال فإن الصورة تصبح أكثر قتامة، ويلح السؤال «ماذا اعترى الجيش السوداني؟».
يبدو أن المهدي هو آخر ضحايا هذه «القوات الجديدة»، فاتهاماته التي وجهها لها قادته إلى السجن، رغم أن ما قاله جرى على لسان كثيرين، واتهاماته لتلك القوات بممارسة انتهاكات ليست جديدة، بل إنه أقر بعظمة لسانه بأنه تأخر كثيرا في إطلاق تلك الاتهامات، التي سبقه إليها آخرون بعضهم مسؤولون في الحكم، وبعضهم دوليون.
عسكريا، فإن نطاق العمليات اتسع ليشمل كلا من دارفور وجنوب كردفان وبعض أنحاء شمال كردفان والنيل الأزرق، فيما ظلت الخرطوم تردد أن التمرد الذي تقوده «الجبهة الثورية» سيحسم خلال «الصيف الحاسم»، وها قد أوشك الخريف (موسم نزول المطر في السودان) على النهاية، وأصوات البنادق والقتال تسمع على مقربة من «كادوقلي» حاضرة جنوب كردفان.
فبينما تلقي حرب الإخوة الأعداء في جنوب السودان بظلالها وأدخنتها السامة على الأوضاع في السودان، فإن الحوار الدائر بين الحركة الشعبية – الشمال والخرطوم في أديس أبابا يصل لطريق مسدود كل مرة، وتبدو الخرطوم كأنها غير جادة في الوصول إلى نتائج محددة بشأنه، فهي تفاوض من أصدرت أحكاما بالإعدام ضدهم «رئيس الحركة الشعبية وقائد جيشها وكبير مفاوضيها وأمينها العام».
أما قمة «الميلودراما» الإسلامية فقد بلغت ذروتها بإبعاد النظام الحاكم للنائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه، ومساعد الرئيس نافع علي نافع، ووزير النفط عوض أحمد الجاز، ورئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر، عن مناصبهم في «ثورة بيضاء»، على الرغم من أنهم يعدون من صقور الحكم وغلاته طوال ربع القرن الماضي. ويبدو أن نظام الإنقاذ الوطني قرر أن يحتفل بيوبيله «الفضي» دونهم، رغم التصريحات التي تقول إنهم أخلوا وظائفهم طوعا لفتح الباب أمام الأجيال الجديدة، لكن الخرطوم التي لا تعرف الأسرار تمد لسانها ساخرة لتقول «انتهى الدرس».

* حصاد الحقل

* برر النظام الجديد (عام 1989) انقلابه على الحكم الشرعي بفشل حكومة الديمقراطية الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري، بيد أنه أخفى هويته «الإسلامية» بتمويهات ماكرة، ونسب نفسه إلى «المؤسسة العسكرية، وتضمنت عملية التمويه اعتقال عراب الانقلاب وزعيم الإسلاميين السودانيين حسن الترابي، مع بقية قادة الأحزاب والقوى السياسية الأخرى.
لم تكن هوية الانقلاب الإسلامية خافية على السياسيين والأحزاب السودانية، وفي بيان الحال نقلت طرفة على لسان زعيم الحزب الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد المشهور بسخريته المريرة، أنه قال للترابي أثناء اعتقالهم في سجن كوبر «كفاك سجنا، فقد جاملتنا أكثر مما يجب. حدث جماعتك ليطلقوا سراحك»، بيد أن التضليل الكثيف الذي مارسه الإسلاميون انطلى على بعض الأنظمة في المنطقة، خاصة نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في مصر الذي أعلن اعترافه بالحكم الجديد، باعتباره انقلابا عسكريا نفذه الجيش السوداني. فور تسلمهم للسلطة، حل الانقلابيون الأحزاب السياسية وسجنوا قادتها، وأوقفوا الصحف، وسيطروا على أجهزة الإعلام الرسمية، وفرضوا رقابة أمنية مشددة على مداخل المدن وجسورها، وظلت المجنزرات على المداخل والمخارج لفترة طويلة بعد نجاح الانقلاب.
ربع قرن من الحكم لم يتسن لحاكم في السودان من قبل.. لكن نظام الإسلاميين فعلها، وعادة يحسب الناس هذه السنوات مستندين إلى «البيان الأول» الذي ألقاه قائد الانقلاب العميد عمر البشير، الجمعة 30 يونيو 1989، ويقارنون بين مبررات الانقلاب والوعود التي جاءت في هذا البيان، وبين حصاد البيدر.
ولتبرير انقلابه، قال البشير في بيانه إن الأحزاب الحاكمة فشلت في قيادة الأمة و«تعرضت البلاد لمسلسل من الهزات السياسية، زلزل الاستقرار، وضيع هيبة الحكم والقانون والنظام»، وأضاف «عشنا في الفترة السابقة ديمقراطية مزيفة، ومؤسسات الحكم الرسمية دستورية فاشلة، وإرادة المواطنين قد تم تزييفها بشعارات براقة مضللة وبشراء الذمم والتهريج السياسي، ومؤسسات الحكم الرسمية لم تكن إلا مسرحا لإخراج قرارات السادة».
واتهم البيان حكومة المهدي بإفشال الديمقراطية وإضاعة الوحدة الوطنية وإثارة النعرات العنصرية والقبلية، مما أدى لحمل أبناء الوطن الواحد للسلاح ضد إخوانهم في دارفور وجنوب كردفان، علاوة على ما يجري في الجنوب في مأساة وطنية وسياسية. واتهم الحكومة بالفشل في إعداد القوات المسلحة لمواجهة التمرد، مما أثر على معنوياتها في معارك القتال ضد المتمردين، وقال «لا تجد من الحكومة عونا على الحرب أو السلام، وقد لعبت الحكومة بشعارات التعبئة العامة دون جهد أو فعالية».
اقتصاديا، حسب البيان فإن الوضع الاقتصادي شهد ترديا مذريا بسبب ما سماه السياسات الرعناء التي فشلت في إيقاف تدهور الاقتصاد، ناهيك عن التنمية «مما زاد حدة التضخيم وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل، واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم إما لانعدامها أو ارتفاع الأسعار». وأضاف «أصبح السودان في عزلة تامة، والعلاقات مع الدول العربية أصبحت مجالا للصراع الحزبي، وكادت البلاد تفقد كل صداقاتها على الساحة الأفريقية، مما جعل حركة التمرد تتحرك فيها بحرية مكنتها من إيجاد وضع متميز أتاح لها عمقا استراتيجيا تنطلق منه لضرب الأمن والاستقرار في البلاد حتى أصبحت تتطلع إلى احتلال موقع السودان في المنظمات الإقليمية والعالمية».
وتعهد البيان باسم الجيش بعدم التفريط في «شبر من الوطن»، والحفاظ على البلاد واستقلالها، وقال «تحركت قواتكم المسلحة اليوم لإنقاذ بلادنا العزيزة من أيدي الخونة والمفسدين، لا طمعا في مكاسب السلطة، بل تلبية لنداء الواجب الوطني الأكبر في إيقاف التدهور المدمر، ولصون الوحدة الوطنية من الفتنة السياسية، وتأمين الوطن ووقف انهيار كيانه وتمزق أرضه».
هذه هي الوعود التي قدمها العميد عمر البشير وقتها، المشير حاليا، تبريرا لانقلابه على السلطة الشرعية، ولم يشر فيها من قريب أو بعيد إلى جماعة الإسلام السياسي بقيادة الترابي التي خططت ونفذت الانقلاب.

* حصاد البيدر

* بعد الجلوس الطويل على كرسي الحكم، والذي ليس له مثيل في تاريخ السودان الحديث، يصبح من حق الكل القيام بجرد حساب لوعود النظام في بيانه الأول والمحصلات العملية الماثلة الآن.
عسكريا وأمنيا، وهو الجند الأول الذي برر به الرئيس البشير انقلابه، يمكن القول إن النتائج كانت كارثية وغير مسبوقة، فقد استعرت الحرب مع التمرد الجنوبي وقتها «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، وجيش النظام الجديد كل الشعب لحسم التمرد كما قال، لكن المحصلة كانت أن اضطر النظام لعقد اتفاقية سلام في عام 2005 عرفت باتفاقية «نيفاشا»، اقتسم بموجبها السلطة مع المتمردين، وجلس زعيم التمرد في القصر الرئاسي نائبا أولا للرئيس. ولم يقتصر الأمر على هذا وحده، فقد أفضت تلك الاتفاقية إلى انفصال جنوب السودان عن السودان كليا، وذهب ثلث الأرض والسكان ليكونوا أحدث دول العالم في عام 2011. وبنهجه التبريري، فإن نظام الحكم زعم أن انفصال جنوب السودان كان مهرا للسلام، لكن المحصلات العملية للانفصال ولادة دولتين غير مستقرتين ومتشاكستين، ولم يحصل السودانان على السلام المنشود، ولا استطاع النظام الإيفاء بوعده الأول «عدم التفريط في شبر من الوطن». وقبيل توقيع اتفاقية السلام الشامل «نيفاشا» مع متمردي جنوب السودان أشعل النظام حربا جديدة في إقليم دارفور ما زالت نيرانها تحرق الوطن والمواطنين، وقتل خلالها مئات الآلاف، وشرد من أجلها الملايين، بل بلغت الأمور أن تحولت دارفور إلى أرض حرب عبثية. وجنوبا، ولد الجنوب الجديد، واشتعلت فيه الحرب عشية انفصال جنوب السودان، ودخل النظام في حرب أخرى مع «الحركة الشعبية – الشمال»، المكونة من مواطنين شماليين اختاروا الانحياز لجنوب السودان في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وما زالت نيران الحرب هذه تقتل الآلاف وتشرد مثلهم.
في ما يتعلق بالسيادة الوطنية، فإن الجيوش الأجنبية أصبحت ترتع في البلاد بالطول والعرض، ففي دارفور الآن أكبر بعثة عسكرية أممية قوامها عشرات الآلاف من الجنود الدوليين الذين جاءت بهم الأمم المتحدة لحماية المدنيين من حكومتهم «يوناميد»، وقبل انفصال الجنوب كانت القوات الأممية «يونميس» هي الحاكم الفعلي في البلاد، إضافة للقوات الإثيوبية في منطقة «أبيي» المتنازعة بين الشمال والجنوب والقوات التشادية التي تمرح في أرض دارفور كيفما اتفق لها.
بل والأدهى والأمر، فإن إسرائيل استباحت التراب والأجواء السودانية، وصار طيرانها يطارد المواطنين في شرق السودان ويقتلهم، بل ودمر مصنعا للسلاح في قلب الخرطوم «مصنع اليرموك الحربي» عام 2012، فأي سيادة تلك التي أتت مع حكم الإسلاميين؟

* الجنائية الدولية

* أصدر المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو في 14 يوليو (تموز) 2008 مذكرة توقيف بحق الرئيس عمر البشير، وجرى اتهامه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، وطلبت مثوله أمام المحكمة، في سابقة غير معهودة في تاريخ الشعوب، وهكذا أصبح الرئيس البشير حبيسا داخل جدران البلاد.
وحسب تقارير دولية فإن حرب دارفور أدت لمقتل قرابة 300 ألف شخص، وتشريد 2.5 مليون، فيما تقول الخرطوم إن عدد القتلى لا يتجاوز 10 آلاف، منذ اندلاع النزاع في دارفور. وألحقت المحكمة الجنائية الدولية في 4 مارس (آذار) 2009 مذكرة قبض ثانية ضد الرئيس البشير، في اتهامات بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، مما قيد حركة الرئيس البشير الخارجية في حدود ضيقه جدا.

* الدور الصيني

* ورد في كتاب «سقوط الأقنعة» للكاتب فتحي الضو، ونقلته «الشرق الأوسط» وقتها، أن الحكومة السودانية رأت ألا تخسر الدول العظمى، فعقدت صداقة مع الصين، فتحت الباب أمام الاستثمارات الصينية، لا سيما في مجال النفط، ونجحت شركات النفط الصينية في استخراج البترول، مما أسهم في تحسين الاقتصاد واستقرار صرف الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية.
فبعد أن كان سعر صرف الدولار 12 جنيها عند تولي الإسلاميين للسلطة، ارتفع في عهدهم إلى 3000 في السوق السوداء، ثم بدأ ينخفض ليستقر عند 2000 جنيه، فبدأت الأزمات الاقتصادية في الانفراج تدريجيا، وعلى الرغم من ذلك لم تستقر الحكومة ولم تنعم بالأمن والهناء بسبب سياساتها الخارجية السيئة. وفي جانب علاقتها الدولية، فقد ساءت علاقة الخرطوم مع العالم أجمع، لا سيما بعد أن أشارت أصابع الاتهام لتورط الخرطوم في محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في سبتمبر (أيلول) 1995 بالعاصمة الإثيوبية «أديس أبابا»، واتهم السودان بإيواء إرهابيين، من بينهم مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

* المفاصلة

* في ديسمبر (كانون الأول) 1999 بلغ النزاع داخل المجموعة الإسلامية الحاكمة ذروته، بصدور قرار الرئيس بإعلان حالة الطوارئ لثلاثة أشهر، وحل البرلمان للحيلولة دون توصل حوار في البرلمان لإجراء تعديلات دستورية تحد من سلطاته.
وعرفت تلك القرارات بقرارات رمضان، ولاحقا عرفت بـ«المفاصلة» بين الإسلاميين، والتي وقف على أحد طرفيها د.حسن الترابي، والرئيس البشير في الطرف الآخر، يقف إلى جواره نائب الترابي في الحركة الإسلامية علي عثمان محمد طه.
وأدت المفاصلة لتبادل الاتهامات بالفساد والمحسوبية، وخرجت ملفات سرية إلى العلن، في الوقت الذي كانت فيه حرب الجنوب في أشد حالاتها، فضلا عن اندلاع الحرب في دارفور، مما جعل الفساد يطفح على السطح في تصريحات واتهامات متبادلة.

* عودة الأب الضال

* تلقف حزب عراب الإسلاميين «المؤتمر الشعبي» حسن الترابي دعوة الرئيس البشير للحوار في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، ليعود من بابها الخلفي «مصالحا» وداعيا للحوار مع تلاميذه الذين قال فيهم أكثر مما قاله مالك في الخمر.
ربما مهد انحسار موجة حركة الإسلام السياسي في الإقليم الطريق أمام شقي الإسلاميين السودانيين لتوحيد صفهما، ضد خطر ماحق يتهدد وجودهما، خاصة بعد أن تحولت «حركة الإخوان المسلمين» لحركة إرهابية في كل من مصر والسعودية والخليج.

* ملاذ آمن

* المحللون لا يرون أن دعوة الحوار نابعة من قناعة بالحوار والمصالحة الوطنية من قبل النظام، بل مجرد محاولة لكسب الوقت ربما، أو حيلة تعود بها الحركة الإسلامية السودانية إخوانية الميول للتوحد، بما يوفر ملاذا آمنا لـ«إخوان العالم» في السودان، وبعودة الأب إلى أبنائه تكون الإنقاذ قد أكملت دورتها من جديد لتبدأ من النقطة التي بدأت منها قبل 25 عاما، لكن في ظروف مختلفة ومحيط عدائي وأزمات أشد مضاضة مما كانت عليه الأوضاع أول مرة، وهذه المرة صنعوها بأيديهم.

* سقوط الإخوان

* تشهد دول الجوار، التي سيطرت عليها جماعة الإخوان المسلمين ردحا زمانيا، مثل مصر وليبيا وتونس، تغيرات دراماتيكية، فمصر التي حكمها الإخوان لمدة عام قد أكملت انتخاب رئيسها، فيما يقود اللواء خليفة حفتر «عملية كرامة» في ليبيا، لتطهيرها من «ميليشيات إسلامية» وبتفويض شعبي لمحاربة التطرف، فيما أصبحت «حركة الإخوان المسلمين» إرهابية في كل الخليج العربي والمملكة العربية السعودية ومصر، واضطرت حركة «النهضة التونسية» لتقديم تنازلات جوهرية بشأن مشروعها.
هذه الأجواء العاصفة التي تحيط بحركة «الإسلام السياسي» والإخواني منه على وجه الخصوص، ستلقي بتأثيرها حتما على تجربته المزمنة في السودان. المتفائلون يقولون إن الخرطوم ستنحني للعاصفة، وتقدم التنازلات المطلوبة، أما المتشائمون فيخشون من تحولها لمركز «إخواني عالمي»، على الرغم من الجفوة المعلنة بين التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وجماعتهم في السودان، ويعتقدون أن الخرطوم قد تلجأ للقول المأثور «أنا وابن عمي على الغريب».
* محطات في سيرة الإنقاذ
* في يونيو (حزيران) 1989، قاد العميد عمر البشير انقلابا عسكريا مدعوما من الإسلاميين السودانيين بقيادة حسن الترابي، أطلق عليه «ثورة الإنقاذ الوطني».
* 1990.. حاول مجموعة من الضباط الموالين لحزب البعث العربي الاشتراكي تنفيذ انقلاب، بيد أن محاولاتهم فشلت، وجرى إعدام 28 ضابطا عشية عيد الفطر، في عملية فطرت الوجدان السوداني، ودفنوا بليل وما زالت السلطات تتكتم على أماكن دفنهم.
* في عام 1998 لقي النائب الأول للرئيس البشير الفريق الزبير محمد صالح حتفه في حادث تحطم طائرة عسكرية خلال طوافه على جنوب السودان.
* 1999.. حدث أكبر انقسام في تاريخ الإسلاميين السودانيين، أعلن خلاله الرئيس البشير حالة الطوارئ وحل البرلمان الذي كان يتزعمه حسن الترابي الذي خرج مغاضبا، وكون حزبا معارضا.
* في أبريل (نيسان) 2001، لقي وزير الدولة بوزارة الدفاع العقيد إبراهيم شمس الدين، أحد أبرز قادة الإسلاميين، و14 من كبار الضباط، مصرعهم في تحطم طائرة بمطار عدارييل بجنوب السودان.
* 2003.. اندلعت حرب دارفور وقتل فيها نحو 300 ألف حسب الأمم المتحدة.
* 2005.. وقعت حكومة الرئيس البشير اتفاقية السلام السودانية (نيفاشا) مع متمردي الجنوب، وجرى تعيين زعيم التمرد جون قرنق نائبا أول للرئيس.
* في مايو (أيار) 2005 لقي قرنق مصرعه في حادث مروحية رئاسية أوغندية، وأثار مقتله حالة فوضى عارمة وسط إشاعات بأن القتل كان مدبرا.
* 2009.. أصدرت محكمة الجنايات الدولية بلاهاي مذكرة قبض ضد الرئيس البشير، وعدد من معاونيه، باتهامات تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على خلفية الحرب في دارفور.
* 2011.. أعلن رسميا عن انفصال جنوب السودان، وفقا لاستفتاء أقرته اتفاقية السلام صوت بموجبه مواطنو جنوب السودان بنسبة فاقت 99 في المائة لصالح الانفصال، وولدت تبعا له أحدث دولة في العالم.
* 2011.. اشتعلت الحرب في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، في ما أطلق عليه الجنوب الجديد.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».