هل أوروبا قادرة على حماية شركاتها من العقوبات الأميركية؟

كثير من القادة الأوروبيين يتفقون على الحفاظ على الاتفاق الحالي

الرئيس الأميركي ترمب لحظة إعلان استراتيجيته تجاه إيران (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي ترمب لحظة إعلان استراتيجيته تجاه إيران (أ.ف.ب)
TT

هل أوروبا قادرة على حماية شركاتها من العقوبات الأميركية؟

الرئيس الأميركي ترمب لحظة إعلان استراتيجيته تجاه إيران (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي ترمب لحظة إعلان استراتيجيته تجاه إيران (أ.ف.ب)

في قرار من شأنه تعميق حالة الصراع عبر المحيط الأطلسي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب انسحابه من «التصديق» الرئاسي على الاتفاق النووي الإيراني يوم الجمعة الماضي قبل الموعد النهائي المحدد بيوم الأحد المقبل. ولقد وصف الرئيس ترمب الاتفاق النووي الإيراني المبرم في عام 2015 بأنه «كارثي»، ودفع بأنه لا يصب في صالح الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من أنه قد صادق، على مضض، على الامتثال الإيراني فيما سبق.
ومن المتوقع أن يلقي عدم التصديق على الاتفاق النووي بالمسؤولية على عاتق الكونغرس الأميركي لوضع شروط جديدة من شأنها، إما تعزيز الاتفاق أو تسفر عن نقضه. والسيناريو الأخير، من نقض الاتفاق، من المحتمل أن يؤدي إلى إعادة فرض العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران. وحتى داخل إدارة الرئيس ترمب، رغم كل شيء، يتفق كثير من كبار المسؤولين مع القادة الأوروبيين والشركات الكبرى على أن الحفاظ على الاتفاق الحالي يعد الخيار الأكثر ذكاء.
والسؤال المطروح اليوم، لماذا يؤيد القادة الأوروبيون التمسك بالاتفاق النووي، والذين هم، خلافاً لبعض كبار المسؤولين في إدارة الرئيس ترمب، يعتبرون أكثر سهولة في طرح ومناقشة قضاياهم؟ تعتقد أوروبا أن الاتفاق المعيب أفضل كثيراً من عدم وجود اتفاق بالكلية.
وعلى الرغم من إمكانية وجود أوجه للقصور، فإن الاتفاق الحالي هو أفضل من عدم وجود اتفاق بالمرة، كما تقول الحكومات الأوروبية المعنية. وقال مسؤول بارز في وزارة الخارجية الألمانية: «ليست لدينا مؤشرات واضحة على انتهاك إيران لالتزاماتها بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة»، في إشارة إلى الاتفاق النووي الإيراني، إذ إن خطة العمل الشاملة المشتركة هي المسمى الرسمي للاتفاق المبرم. ولقد توصل المسؤولون الفرنسيون في الآونة الأخيرة إلى النتيجة نفسها، وحتى المسؤولون الأميركيون أوضحوا أن إيران في حالة من الامتثال الفني لبنود الاتفاق.
وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي: «من الضروري التمسك بالاتفاق الحالي لتفادي الانتشار النووي. فخلال الفترة الراهنة ومع مشاهدة المخاطر التي تشكلها كوريا الشمالية، يتعين علينا التمسك بالاتفاق الإيراني». ولقد توصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية المعنية بمراقبة الامتثال الإيراني إلى استنتاج مماثل.
ولقد سجلت مختلف أجهزة الاستخبارات انخفاضاً ملحوظاً في جهود الانتشار النووي الإيراني في أوروبا.
وأفاد جهاز الاستخبارات الألماني بأن «جهود الانتشار الإيراني للبرنامج النووي» قد انخفضت بشكل ملحوظ في أعقاب تنفيذ الاتفاق. ولم يستجب المسؤولون على التساؤلات المتعلقة بتفاصيل انخفاض الجهود الإيرانية، ولكن السلطات في الولاية الألمانية الأكثر اكتظاظاً بالسكان، ولاية نورث راين ويستفاليا، أفادت بأن محاولات الحصول على الموارد التي يمكن استخدامها في متابعة البرنامج النووي من قبل إيران قد انخفضت من 141 محاولة في عام 2015 إلى 32 محاولة فقط في العام التالي. ويقول المسؤولون الألمان إن انخفاض الجهود والمحاولات الإيرانية من المؤشرات البارزة على نجاح الاتفاق المبرم في عام 2015.
وقد أسفر رفع العقوبات بموجب الاتفاق إلى مسارعة الشركات الأوروبية للقيام بالأعمال التجارية في إيران. وتعمل هذه الشركات في الوقت الحالي على حشد تأييد حكوماتها لمنع تفكيك الاتفاق، وتأمل في أن تستمر إيران في التمسك بشروط الاتفاق إذا امتنعت أوروبا عن إعادة فرض العقوبات.
ومن الناحية النظرية، فإن الدولة الموقعة على الاتفاق من غير الولايات المتحدة، التي تضمن بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والصين، وروسيا، وإيران، يمكنها الموافقة على التمسك بالاتفاق من دون مشاركة الولايات المتحدة. ورداً على سؤال حول مثل هذا الاحتمال في مؤتمر للاستثمار الأوروبي الإيراني الأسبوع الماضي، قال فيليب ديليور، نائب رئيس الشؤون العامة لشركة «الستوم» للنقل: «أعتقد أنهم لن يفرضوا العقوبات الأوروبية مجدداً. و(في هذه الحالة)، ينبغي أن نكون قادرين على مواصلة العمل».
ومن شأن هذا القرار أن يرجع بآثار خطيرة على العلاقات عبر المحيط الأطلسي في الوقت الذي واجه فيه الرئيس ترمب خلافاً مفتوحاً بالفعل وغضباً من جانب كثير من حلفائه بشأن الإنفاق الدفاعي، والتجارة، والتغيرات المناخية، وغير ذلك من القضايا.
وتجعل الروابط التجارية الحالية والاستثمارات الكبيرة الحالية من تفكيك الاتفاق الإيراني أمراً عسيراً بشكل متزايد.
وقد ارتفعت الصادرات الإيرانية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 375 في المائة بين عامي 2015 و2016، واستثمرت الشركات الأوروبية بالفعل قدراً هائلاً من الأموال في البلاد، ما يزيد من الصعوبات الخاصة بأي قرار قد يسفر عن انهيار الاتفاق.
وجاءت الزيادة الكبيرة في حجم الأعمال التجارية نتيجة لإعادة الروابط المصرفية بين إيران والغرب، على الرغم من أن المصارف الأوروبية الكبرى قد أحجمت حتى الآن عن التعامل المباشر مع المؤسسات الإيرانية. ولقد سعت وكالات الائتمان الأوروبية إلى تقديم ضمانات التصدير للشركات المستعدة للتجارة مع إيران.
ولقد وافقت الوكالة الدنماركية لائتمان الصادرات حتى الآن على حصول 8 مصارف إيرانية على الخطوط أو الضمانات الائتمانية. وقال مدير الوكالة جورن فريدسغارد سورنسن: «إذا كانت العقوبات تجعل من غير القانوني نقل الأموال خارج إيران، فسوف نغطي خسائرهم. إننا نوفر تغطية مثل هذه المخاطر للمصارف».
ويمكن لنموذج إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني أن ينهار، رغم كل شيء، إذا قررت الولايات المتحدة معاقبة الشركات أو المصارف أو الوكالات الأوروبية التي تتعاون مع إيران. ويبحث المسؤولون في الخيارات المتاحة لحماية الشركات والأفراد الأوروبيين من العقوبات الأميركية.
ويساور بعض رجال الأعمال الأوروبيين الشكوك حول ما إذا كانت هذه الجهود سوف تنجح في توفير الحماية الكافية أم لا. وقال أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة كبيرة متعددة الجنسيات، شريطة عدم ذكر هويته لمناقشته حساسيات تتعلق بعدم التصديق الأميركي على الاتفاق: «إن موقفنا وموقف الشركات الدولية الأخرى هو أننا في حاجة إلى الاتساق مع القانون الدولي، والقوانين المعمول بها. فإذا أعيد فرض العقوبات الاقتصادية، وهذا يعني عدم إمكانية ممارسة الأعمال التجارية داخل أو خارج إيران، فسوف نتوقف حينئذ عن العمل معهم تماماً».
وأردف المسؤول التنفيذي الأوروبي: «لقد ناقش الناس فكرة التشريعات الوقائية (حظر العقوبات الأوروبية). وأعتقد من الناحية العملية، ومع الشركات الحقيقية متعددة الجنسيات، أنهم لا يرغبون في الاعتماد على ذلك النهج لمواصلة الاستثمار في إيران».
وعلى أي حال، لا تزال الحكومات الأوروبية تواجه قراراً يبعث على الحرج: هل سيؤيدون النظام الحاكم الذي اتهموه في كثير من الأحيان بانتهاك حقوق الإنسان، أم يتخذون جانب الولايات المتحدة الأميركية؟

خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»



ما المتوقع عراقياً في استراتيجية إيران؟

إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)
إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)
TT

ما المتوقع عراقياً في استراتيجية إيران؟

إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)
إيرانية تمرّ أمام لوحة إعلانية مناهضة لإسرائيل كُتب عليها بالعبرية: «في الدم الذي سفكتَه ستغرق» (إ.ب.أ)

كتب مرّة الصحافي الأميركي توماس فريدمان أن العالم أصبح مسطّحاً (Flat) بسبب الثورة التكنولوجيّة. هي نفسها الثورة التي جعلت العالم معقدّاً جدّاً، خاصة مع هجمة الذكاء الاصطناعي.

في مكان آخر، أراد الكاتب الأميركي فرنسيس فوكوياما إيقاف التطوّر التاريخيّ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبشّر بالليبراليّة الديمقراطيّة بوصفها نموذج أوحد لدول العالم.

يشهد عالم اليوم فوضى في كل المجالات. عادت القوميات والآيديولوجيات، وكثرت الحروب، الأمر الذي يُبشّر بمرحلة خطرة جدّاً قبل تشكّل نظام عالمي جديد، وعودة التوازنات الكونيّة.

باختصار، عاد الصراع الجيوسياسيّ إلى المسرح العالمي لكن مع ديناميكيّة سريعة جدّاً تسببت بها الثورة التكنولوجيّة، وفيها تبدّلت العلاقة العضوية بين الوقت والمسافة، إذ سُرّع الوقت وتقلّصت المسافة في الأذهان.

تسعى الدول عادة إلى تحديد مسلّماتها الجيوسياسيّة. وهي، أي المسلمات، قد تتقاطع مع مسلّمات الدول الأخرى خاصة القريبة جغرافياً. لكنها أيضاً قد تتضارب.

عند التقاطع الإيجابيّ يكون التعاون. وعند التضارب يقع الصراع وصولاً إلى الحرب. يحدّد خبراء الجيوسياسّة أهميّة دولة ما من خلال ثلاثة معايير هي: الموقع، والثروات المؤثرة في الاقتصاد العالمي، كما الدور الذي تلعبه هذه الدولة في النظام العالميّ. إذا توفّرت هذه الشروط كلها في دولة ما، فهي قوّة عظمى أو كبرى بالتأكيد.

إيرانيون يحرقون علماً إسرائيلياً في مظاهرة وسط طهران يوم 18 أكتوبر 2024 (رويترز)

الاستراتيجيّة الإيرانيّة في المنطقة

في عام 1985، وإبان الحرب العراقيّة - الإيرانيّة، وبعد تراجع قدرات العراق العسكريّة، طلب المرشد الإيراني الأول الخميني من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد التعاون لإسقاط العراق وفتح الباب إلى القدس.

رفض الأسد الطلب لأن سقوط العراق يعني خسارة دولة عازلة لسوريا مع إيران. وهو، أي الأسد، وإن قبل بإسقاط العراق، فسوف يكون لاعباً ثانوياً (Junior) بسبب التفاوت في القدرات بين سوريا وإيران.

حقّقت الولايات المتحدة الأميركيّة حلم الخميني في عام 2003. سقط العراق، وبدأ المشروع الإيرانيّ الإقليميّ بالتشكّل. تعد إيران أن هذا المشروع من المسلّمات الجيوسياسيّة الأهم. فهو يحميها، ويحقق مردوداً جيوسياسيّاً أكبر بكثير من حجم الاستثمارات فيه.

لكن هذه المسلمات تضاربت مع العديد من مسلّمات القوى الإقليميّة، كما مع مسلمات الولايات المتحدة. وإذا كانت أميركا قادرة على التعويض الجيوسياسيّ في مواجهة المشروع الإيرانيّ، فإن التعويض غير ممكن لكثير من دول المنطقة. فما تربحه إيران قد يكون خسارة لهذه الدول لا يمكن تعويضها.

وبسبب هذا التضارب في المسلّمات، بدأ الصراع وصولاً إلى الحرب الحالية. فمع إسرائيل ضرب المشروع الإيراني الأمن القومي الإسرائيلي في العمق، إن كان في غزّة أو في لبنان. ومع دول المنطقة، تجلى المشروع الإيراني من خلال جماعات مسلحة قوية في العمق العربي، لا سيما في لبنان وسوريا والعراق.

المنطقة جيوسياسيّاً

تعد استراتيجيّة الاتجاه غرباً (Look West Strategy) أمراً ثابتاً بالنسبة لإيران، إن كانت في ظل الإمبراطورية الفارسيّة أو مع الدولة الإسلاميّة. فإيران لم تُّهدد من شرقها إلا مرّة واحدة من قبل أفغانستان عام 1722، وبعدها استعاد السيطرة نادر شاه.

أما من الغرب، فقد أسقط الإسكندر الأكبر، الإمبراطور داريوس الثاني. ومن الغرب أيضاً حاربها صدّام حسين، ومن بعده أتى الأميركيون، ثم تنظيم «داعش» بعد خروج الأميركيين.

ماذا يعني العراق لإيران؟

* يشكّل العراق مركز ثقل في وعي الأمن القومي الإيرانيّ. لا تريد إيران دولة عراقيّة قويّة معادية لها قادرة على تهديدها من الغرب. من هنا دعمها لجماعات مؤيدة لها تحاول توسيع نفوذها داخل الدولة العراقيّة. تلعب هذه الجماعات دوراً هجيناً. هي في الدولة، وهي خارجها في الوقت نفسه. ترتبط مالياً بخزانة الدولة العراقية، لكنها في الحرب والسياسة ترتبط بإيران.

* يعد العراق مركز ثقل لإيران من ضمن ما يُسمّى محور المقاومة. فهو جغرافياً نقطة الانطلاق للتأثير الإيراني في الهلال الخصيب. أما سوريا، فهي المعبر والممر من العراق إلى لبنان. فيها بنى تحتيّة تربط لبنان بالعراق، ثم إلى الداخل الإيرانيّ.

أنظمة صواريخ لـ«الحرس الثوري» خلال عرض جنوب طهران (أ.ب)

طوفان الأقصى بعد سنة ونيّف

على الورق، سقطت حركة «حماس» عسكرياً. تدخّل «حزب الله» للربط معها، فسقط هيكله التنظيمي. مع ذلك، لم يخسر الحزب حتى الآن، ولم تخسر «حماس» أيضاً. وبناء عليه لم تحسم إسرائيل الأمر نهائيّاً.

لكن الأكيد أن «حزب الله» لم يعد قادراً على لعب الدور الأهم الذي أعد له في الاستراتيجيّة الإيرانيّة. بالتالي، ستحاول إسرائيل والولايات المتحدة استغلال هذا الضعف. وإذا لم تعد إيران – على الورق - قادرة على استغلال جبهتها المتقدّمة ضد إسرائيل من خلال «حماس» و«حزب الله»، فإن هناك من يعتقد أنها ستركز اهتمامها السياسي والميداني في محيطها المباشر، حيث مناطق نفوذها في العراق، وهو أمر يسلّط الضوء بلا شك على ما يمكن أن تشهده الساحة العراقية في الفترة المقبلة، خصوصاً في ظل التهديدات الإسرائيلية بشن هجمات على فصائل عراقية تدعمها إيران.