بعد قرابة ثلاث سنوات من الهزيمة التي أنزلها مقاتلون أكراد بتنظيم داعش في مدينة كوباني (عين العرب) السورية، لا يزال سكان المدينة في حداد على قتلاهم ويشعرون بأن حلفاءهم الأجانب تخلوا عنهم في كفاحهم لإعادة بنائها.
وكانت هزيمة «داعش» في كوباني التي يغلب الأكراد على سكانها في أوائل عام 2015 قد ساهمت في انقلاب الأوضاع على التنظيم، كما كانت إيذاناً ببداية علاقة أكثر انفتاحاً بين الجيش الأميركي وفصيل «وحدات حماية الشعب» المكون من أكراد سوريا.
غير أن الدمار لحق بجانب كبير من المدينة القريبة من الحدود مع تركيا، لتواجه تحدياً هائلاً في عملية إعادة الإعمار، وتصبح في حاجة لمساعدات الحلفاء الذين دعموا معركة هزيمة تنظيم داعش، بمن فيهم الولايات المتحدة؛ فما زالت الكهرباء تعمل بضع ساعات فقط كل يوم، كما أن خدمة الإنترنت، التي تتاح من خلال إشارة اتصالات تركية، باهظة الكلفة، ولا يمكن الاعتماد عليها.
ويقول مسؤولون محليون إن السبب في ذلك هو أن المساعدات نضبت سريعاً، وسرعان ما تكررت مشاكل المدينة في مناطق أخرى من شمال سوريا مع تقهقر «التنظيم».
وقال خالد بركل، نائب رئيس المجلس المحلي، لوكالة «رويترز»: «لم يكن هناك أي مشروعات (إعمار) تعكس مستوى الدمار».
ومن العوامل التي تعقد علاقات الأكراد مع الغرب منافسات وتحالفات على المستوى المحلي، وجهود كردية لتأكيد الحكم الذاتي في المناطق التي تمت انتزاع السيطرة عليها من «التنظيم».
كما يتهم المسؤولون المحليون، الغرب، بمحاولة استرضاء تركيا عضو حلف شمال الأطلسي التي تعتبر فصيل «وحدات حماية الشعب» امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يشن حملة تمرد على الحكومة التركية. وقال بركل: «تركيا لا تريد عودة الحياة هنا».
وتعارض أنقرة دور «وحدات حماية الشعب» في السيطرة على المناطق التي تسكنها أغلبية عربية، مثل الرقة، وتقول إن ذلك يهدد التركيبة السكانية، كما أن تأكيد الأكراد لدورهم في العراق وسوريا أدى إلى اتهامات بسوء معاملة العرب، وهو ما ينفيه المسؤولون.
ويقول دبلوماسيون غربيون في المنطقة، إنه لا يمكن أن ينسحب دعم «وحدات حماية الشعب» في الحرب على «داعش»، على دعم مشروع يقوده الأكراد لتعزيز المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي.
وتعارض واشنطن الحكم الذاتي في شمال سوريا، ويسعى المجتمع الدولي إلى حل شامل لمشكلة الحرب الأهلية السورية الدائرة منذ أكثر من ست سنوات.
ثمن باهظ
يخشى أهل كوباني أن يجلب المستقبل المزيد من الاضطرابات. إذ يريد الرئيس بشار الأسد استعادة السيطرة على سوريا بالكامل، بينما تسعى السلطات المحلية، بقيادة الأكراد، لتعزيز الحكم الذاتي الإقليمي من خلال انتخابات، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة التوترات.
يقول سكان المدينة إنهم دفعوا ثمن هزيمة «داعش» عن طيب خاطر، وإنهم يشعرون بالامتنان لما قدمته الولايات المتحدة من مساعدات لتحقيق هذا الانتصار. غير أن الثمن كان باهظاً من حيث الخسائر في الأرواح والدمار.
كانت شيرين حسن من أوائل المقاتلين المدافعين عن كوباني ممن سقطوا قتلى عندما حاصرها «داعش» أربعة أشهر. وعلم أفراد أسرتها بمقتلها عندما حاولوا الاتصال بها، ورد متشددون من أعضاء «التنظيم» على هاتفها.
قال عدنان حسن، شقيق شيرين، في بيت الأسرة: «قالوا قتلنا ابنتكم، وسننشر صورة لرأسها على (فيسبوك). ونشرت الصورة فيما بعد، وظهر فيها متطرف يبتسم وهو يمسك برأس شيرين التي انتهت حياتها، وهي في التاسعة عشر».
ودفن من سقطوا من المقاتلين في مدافن عسكرية على مشارف المدينة ترفرف على شواهد القبور فيها أعلام «وحدات حماية الشعب» الصفراء.
وتنتشر صور القتلى من المقاتلين الأكراد على جدران المجلس المحلي، كما أنها علقت على أعمدة مصابيح الشوارع. ولم ينته العنف تماماً عند الانتصار في معركة السيطرة على كوباني. ففي يونيو (حزيران) 2015 وبعد شهور من هزيمة «التنظيم» في المدينة شن مقاتلوه غارة أسفرت عن مقتل قرابة 150 شخصاً، من بينهم 11 فرداً من أسرة شيرين. وأدت هذه التجارب إلى إضفاء الصبغة العسكرية على المجتمع، كما أن محدودية المساعدات جعل البعض يرفضون الاعتماد على المساعدة الخارجية.
وقال عدنان: «المجتمع الدولي تخلى عنا. قبل الحرب كان كل بيت فيه سلاح. أما الآن فلدى كل واحد سلاح».
وينظم الرجال في المدينة نوبات حراسة ليلية، ويتناوبون التجول وهم مسلحون ببنادق الكلاشنيكوف الهجومية. وقال خالد الدمر صانع مفاتيح الأقفال في ورشته: «نحمي أنفسنا».
«كوباني تعبت»
قال الدمر الذي سوي بيته بالأرض في غارة جوية، إن عمله تحسن غير أن ذلك عكس مدى الدمار الذي حدث خلال القتال لا تحسن الاقتصاد المحلي، وأشار إلى كومة من الأقفال المعروضة في واجهة الورشة: «عندما جاء (داعش) كانوا يركلون الأبواب لاحتلال البيوت ويكسرون الأقفال. والناس تحتاج أقفالاً جديدة». وتشتد الحاجة إلى خدماته مع انتشار المباني الجديدة محل البيوت التي تهدمت، وتحولت إلى كومة من الأنقاض، وما زال كثير منها خالياً حتى الآن.
وقال بركل إن عدد سكان كوباني والمناطق المحيطة بها يقترب من العدد الأصلي البالغ 200 ألف نسمة، بعد عودة الناس، رغم أن 40 ألفاً فقط يعيشون في المدينة نفسها في مساحات أقل لا تصلح للسكنى.
وقال الدمر «كوباني تعبت. وأنا محظوظ، لأن كثيرين ليس لهم عمل. ونأمل إعادة البناء أفضل مما كان وهو ما يمكن أن يحدث إذا عاد الأكراد في الخارج، أو أرسلوا مالاً. لكننا محاصرون والحدود مغلقة».
وكانت تركيا أغلقت نقطة العبور المشتركة مع كوباني في عام 2015، وأقامت منذ ذلك الحين جداراً من الخرسانة المسلحة يمتد مئات الكيلومترات على امتداد الحدود. وتمر البضائع عبر إقليم كوباني أو يتم تهريبها من مناطق تحت سيطرة الأسد. ويشكو الناس نقص الأدوية.
ورغم المشاكل واحتمال نشوب مزيد من العنف يقول أهل كوباني إنهم لن يستسلموا. وقال بركل «سندافع عن أنفسنا ضد من يأتي أيا كان حتى آخر قطرة من الدماء».