فشل «إضرام النيران في الشرق» فحل «خريف الأحزان» على مسلمي روسيا

زينوفاييف متوسطاً مجموعة من مسلمي أذربيجان خلال مؤتمر في باكو عام 1920  ({غيتي})
زينوفاييف متوسطاً مجموعة من مسلمي أذربيجان خلال مؤتمر في باكو عام 1920 ({غيتي})
TT

فشل «إضرام النيران في الشرق» فحل «خريف الأحزان» على مسلمي روسيا

زينوفاييف متوسطاً مجموعة من مسلمي أذربيجان خلال مؤتمر في باكو عام 1920  ({غيتي})
زينوفاييف متوسطاً مجموعة من مسلمي أذربيجان خلال مؤتمر في باكو عام 1920 ({غيتي})

كانت عبارة «أضرم النيران في الشرق» الأمر المختصر الذي أصدره قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين إلى غريغوري زينوفاييف عندما أرسله في مهمة لحشد المسلمين الخاضعين للإمبراطورية الروسية، لمساندة «ثورة أكتوبر (تشرين الأول)» قبل مائة عام.
زينوفاييف كان الاسم الحزبي لأوفسي غريشين أرنوفيتش رادوملكسكي أبفلبوم، وهو مفكر يهودي أوكراني قضى سنوات منفياً في أوروبا ولم يكن على دراية بما يعرف بـ«الحدود البرية» في وسط آسيا والقوقاز، حيث يعيش المسلمون التابعون للقيصر. اعتاد زينوفاييف الجلوس في المقاهي للتحاور مع مثقفين مستغربين، بيد أنه فشل في خلق جو من الألفة مع أي من القبائل المسلمة في المناطق الروسية، ودخل في عداوات مع القيادات الدينية بوسط آسيا والقوقاز بتبنيه لشعار: «إما إن تؤمن بالله أو بالثورة».
وبعد فشله في «إضرام النار في الشرق»، عاد زينوفاييف إلى المركز ليقود ما يعرف بالأممية الشيوعية «الكومنترن» بهدف السيطرة على أحزاب الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين في أوروبا، وهي المهمة التي أداها بكفاءة عالية قبل مجيء ستالين الذي بات الديكتاتور الأوحد بعد موت لينين، إذ أمر الزعيم الجديد بإعدام زينوفاييف مع آخرين من كبار البلاشفة بتهمة الخيانة.
وبعد أن استفاد من خبرة زينوفاييف في التعامل مع مسلمي روسيا، قرر لينين أن خدعة «التربية والإقناع» لن تجدي نفعاً مع شعوب لطالما ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بدينها ونمط حياتها التقليدي. كان مبعوث لينين الثاني ميخائيل فرونيز مصمماً على كسب ود مسلمي روسيا بالقوة، لا عن طريق الإقناع. وعندما تمردت قبائل كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان على النظام البلشفي القديم، لم يطلب فرونز المزيد من المعلمين الآيديولوجيين، بل طلب المزيد من الأسلحة والطائرات لقصف المتمردين. فأرسل إليه لينين برقية مختصرة قال فيها: «اقتل رجالهم، صادر ماشيتهم، قُد نساءهم وأطفالهم وسر بهم عبر الحدود».
فعل فرونز ذلك وبحماس زائد ليكتب أحد أسوأ فصول التاريخ السوفياتي وأكثرها قتامة، وهو ما تذكره دول آسيا الوسطى باسم «خريف الأحزان». مات فرونز بعد لينين بعام، أي قبل أن يتمكن ستالين أيضاً من قتله.
كان للثورة البلشفية بعض أنصارها البارزين بين المثقفين المسلمين في القوقاز ووسط آسيا. من أكثرهم شهرة سلطان غالييف، التتاري الذي عرف باسم «لينين المسلم». كان غالييف دعائياً لامعاً يتمتع بكاريزما واضحة، وكان يحظى بمكانة كبيرة وسط القيادة البلشفية، لدرجة أنه كان أحد من حملوا نعش لينين. فقد أراد غالييف ثورة شيوعية واضحة في المناطق الإسلامية من الإمبراطورية الروسية. وكانت أفكاره مصدر إلهام لأحداث مهمة مثل «حرق البراقع» و«حلق اللحى الجماعي» في مناطق التتار وباشكير وأوزبكستان.
سعى مثقفون مسلمون آخرون إلى طرق للوصول إلى نسخة شيوعية يمكن أن تلتقي مع بعض أوجه تعاليم الدين الإسلامي. وشدد هؤلاء على أهمية التعليم والمساواة بين الرجال والنساء وقبول التنوع الثقافي. كان أكثرهم عبقرية صدر الدين عيني وعبد الرؤوف فترات. غير أن تأثير الثورة البلشفية احتاج عقوداً كي يترك أثره في العالم الإسلامي، وجاء ذلك مع تأسيس الأحزاب الشيوعية في إيران وتركيا وبلدان عربية. وفي حقبة الخمسينات، أصبحت الشيوعية جانباً مهماً من جوانب الحياة، وشكلت صرعة جديدة أشبه بالموضة في الحياة السياسية والثقافية في الشرق الأوسط، وبين المسلمين في شبه القارة الهندية وإندونيسيا.
بيد أنه كان هناك العديد من النشطاء الإسلاميين البارزين الذين رأوا في كلمة شيوعية بصفة عامة وفي تعاليم لينين كُفراً بيناً، لكن في الوقت نفسه كان منهم من أقروا بأنهم نهلوا الكثير من أفكاره. فمثلاً حسن البنا، المدرس الذي أسس جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، أقر بأنه تعلم الكثير من أفكار لينين. وكذلك فعل سيد قطب، المنظر البارز للجماعة نفسها الذي سار في كتابه «معالم في الطريق» على نهج لينين في كتابه «ما العمل؟». وذكر الزعيم الديني السياسي الباكستاني أبو الأعلى المودودي أنه لا يعارض أن يلقب بـ«تلميذ» لينين «عندما يتعلق الأمر بدور الطلائع في إعادة صياغة المجتمع».
وليس سراً أن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي من أشد المعجبين بلينين. وفي اختيار غريب للتوقيت، كرر خامنئي في حديث جرى الشهر الماضي، حكاية لينين عن «متسلقي الجبال» كلمة بكلمة. لكن على نطاق أوسع، لم يبد العالم الإسلامي ترحيباً بالشيوعية، كما اتضح من سحق حكوماته لمروجي آيديولوجيتها ونبذ شعوبه لهم.



البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
TT

البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)
نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)

على مدار السنوات الـ25 الماضية، تسارعت وتيرة الابتكار التكنولوجي بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى تحول المجتمعات في جميع أنحاء العالم. تاريخياً، استغرقت التقنيات مثل الكهرباء والهاتف عقوداً للوصول إلى 25 في المائة من الأسر الأميركية - 46 و35 عاماً على التوالي. على النقيض من ذلك تماماً، حقّق الإنترنت ذلك في 7 سنوات فقط.

اكتسبت منصات مثل «فيسبوك» 50 مليون مستخدم في عامين، وأعادت «نتفليكس» تعريف استهلاك الوسائط بسرعة، وجذب «شات جي بي تي» أكثر من مليون مستخدم في 5 أيام فقط. يؤكد هذا التقَبّل السريع للتقدم التكنولوجي والتحول المجتمعي وأثره في تبني الابتكار.

قادت هذه الموجة شركة «غوغل»، وهي شركة ناشئة تأسست في مرآب. في عام 1998، قدمت «غوغل» خوارزمية «بيچ رانك»، ما أحدث ثورة في تنظيم المعلومات على الويب. على عكس محركات البحث التقليدية التي تركز على تكرار الكلمات الرئيسية، عملت خوارزمية «بيچ رانك» على تقييم أهمية الصفحة من خلال تحليل الارتباطات التبادلية، ومعاملة الروابط التشعبية على أنها أصوات ثقة واستيعاب الحكمة الجماعية للإنترنت. أصبح العثور على المعلومات ذات الصلة أسرع وأكثر سهولة، ما جعل محرك البحث «غوغل» لا غنى عنه على مستوى العالم.

تحوّل «نتفليكس»

في خضم ثورة البيانات، ظهر نموذج جديد للحوسبة: التعلم الآلي. بدأ المطورون في إنشاء خوارزميات تتعلم من البيانات وتتحسن بمرور الوقت، مبتعدين عن البرمجة الصريحة. جسّدت «نتفليكس» هذا التحول بجائزتها البالغة مليون دولار لعام 2006 لتحسين خوارزمية التوصية خاصتها بنسبة 10 في المائة. في عام 2009، نجحت خوارزمية «براغماتيك كايوس» لشركة «بيلكور» في استخدام التعلم الآلي المتقدم، ما يسلّط الضوء على قوة الخوارزميات التكيفية.

ثم توغل الباحثون في مجال التعلم العميق، وهو مجموعة متفرعة عن التعلم الآلي تتضمن خوارزميات تتعلم من بيانات ضخمة غير منظمة. في عام 2011، أظهر نظام «واتسون» الحاسوبي من شركة «آي بي إم» قوة التعلم العميق في لعبة «چيوباردي»! في منافسة ضد البطلين «براد روتر» و«كين جينينغز»، أظهر «واتسون» القدرة على فهم الفروق الدقيقة في اللغة المعقدة، والتورية، والألغاز، مما يحقق النصر. أفسح هذا العرض المهم لمعالجة اللغة بالذكاء الاصطناعي المجال أمام العديد من تطبيقات معالجة اللغة الطبيعية.

في عام 2016، حقق برنامج «ألفاغو» الحاسوبي من شركة «غوغل ديب مايند» إنجازاً تاريخياً بهزيمة «لي سيدول» بطل العالم في لعبة «غو». كانت لعبة «غو»، المعروفة بمعقداتها وتفكيرها الحدسي، خارج نطاق الذكاء الاصطناعي. أدهش فوز «ألفاغو» العالم بأسره، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه معالجة المشكلات التي تتطلب التفكير الاستراتيجي من خلال الشبكات العصبية.

ثورة تجارة التجزئة

مع ازدياد قدرات الذكاء الاصطناعي، بدأت الشركات في دمج هذه التقنيات لإحداث الابتكار. أحدثت «أمازون» ثورة في تجارة التجزئة عبر الاستفادة من الذكاء الاصطناعي للتسوق الشخصي. من خلال تحليل عادات العملاء، أوصت خوارزميات «أمازون» بالمنتجات بدقة، ويسّرت الخدمات اللوجيستية، وحسّنت المخزون. وصار التخصيص حجر الزاوية في نجاح «أمازون»، مما وضع توقعات جديدة لخدمة العملاء.

في قطاع السيارات، قادت شركة «تسلا» عملية دمج الذكاء الاصطناعي في المنتجات الاستهلاكية. من خلال «أوتوبايلوت»، قدمت «تسلا» لمحة عن مستقبل النقل. في البداية، استخدم «أوتوبايلوت» الذكاء الاصطناعي لمعالجة البيانات من الكاميرات وأجهزة الاستشعار، مما يتيح التحكم التكيفي في السرعة، ومَرْكَزَة المسار، ومواقف السيارات الذاتية. بحلول عام 2024، سمح نظام القيادة الذاتية الكاملة (FSD) للسيارات بالتنقل مع تدخل بشري طفيف. أعادت تلك الوثبة تعريف القيادة وعجلت بالجهود الرامية لتطوير السيارات ذاتية القيادة مثل «وايمو».

كما شهد قطاع الرعاية الصحية التأثير التحويلي للذكاء الاصطناعي، إذ طوّر الباحثون خوارزميات تكتشف الأنماط في بيانات التصوير غير المُدرَكة للبشر. على سبيل المثال، حلّل نظام الذكاء الاصطناعي صور الثدي بالأشعة السينية للتعرف على التغيرات الدقيقة التي تتنبأ بالسرطان، مما يتيح تدخلات مبكرة وربما إنقاذ الأرواح.

في عام 2020، حقق برنامج «ألفافولد» من شركة «ديب مايند» إنجازاً تاريخياً: التنبؤ الدقيق بهياكل البروتين من تسلسلات الأحماض الأمينية - وهو تحدٍّ أربك العلماء لعقود. يعد فهم انْثِناء البروتين أمراً بالغ الأهمية لاكتشاف الأدوية وأبحاث الأمراض. تستفيد مختبرات «أيسومورفيك لابس» التابعة لشركة «ديب مايند»، من أحدث نماذج «ألفافولد» وتتعاون مع شركات الأدوية الكبرى لتسريع الأبحاث الطبية الحيوية، مما قد يؤدي إلى علاجات جديدة بوتيرة غير مسبوقة.

سرعان ما تبنى قطاع التمويل ابتكارات الذكاء الاصطناعي. نفذت شركة «باي بال» خوارزميات متقدمة للكشف عن الاحتيال ومنعه في الوقت الفعلي، مما يزيد من الثقة في المدفوعات الرقمية. استخدمت شركات التداول عالية التردد خوارزميات لتنفيذ الصفقات في أجزاء من الثانية. واستخدمت شركات مثل «رينيسانس تكنولوجيز» التعلم الآلي في استراتيجيات التداول، محققة عوائد رائعة. أصبح التداول الخوارزمي الآن يمثل جزءاً كبيراً من حجم التداول، مما يزيد من الكفاءة لكنه يُثير مخاوف بشأن استقرار السوق، كما هو الحال في انهيار عام 2010.

في عام 2014، طوّر إيان غودفيلو وزملاؤه الشبكات التنافسية التوليدية (GANs)، التي تتكون من شبكتين عصبيتين - المُولّد والمميّز - تتنافسان ضد بعضهما. مكّنت هذه الديناميكية من إنشاء بيانات اصطناعية واقعية للغاية، بما في ذلك الصور ومقاطع الفيديو. لقد أنتجت الشبكات التنافسية التوليدية وجوهاً بشرية واقعية، وأنشأت أعمالاً فنية، وساعدت في التصوير الطبي من خلال إنتاج بيانات اصطناعية للتدريب، مما يعزز قوة نماذج التشخيص.

في عام 2017، قدمت هيكليات المحولات «ترانسفورمر» تحولاً كبيراً في منهجية الذكاء الاصطناعي، مما غيّر بشكل جذري من معالجة اللغة الطبيعية. ابتعدت «ترانسفورمر» عن الشبكات العصبية التكرارية والالتفافية التقليدية. وتعتمد كلياً على آليات الانتباه لالتقاط التبعيات العالمية، مما يسمح بالتعامد الفعال ومعالجة السياقات المطولة.

روبوت يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

نص بشري يكتبه روبوت

بناء على ذلك، طوّرت شركة «أوبن إيه آي» سلسلة «المحول المُولّد المدرب مسبقاً» (GPT)، وأظهر «جي بي تي – 3»، الصادر عام 2020، قدرات غير مسبوقة في توليد نص يشبه النص البشري مع فهم السياق. على عكس النماذج السابقة التي تتطلب تدريباً محدداً للمهمة، يمكن لـ«جي بي تي – 3» أداء مجموعة واسعة من مهام اللغة مع الحد الأدنى من الضبط الدقيق، مما يُظهر قوة التدريب المسبق غير الخاضع للإشراف على نطاق واسع والتعلم قليل اللقطات. بدأت الشركات في دمج نماذج «جي بي تي» في التطبيقات من إنشاء المحتوى وتوليد التعليمات البرمجية إلى خدمة العملاء. حالياً، تتسابق العديد من النماذج لتحقيق «الذكاء الاصطناعي العام» (AGI) الذي يفهم، ويفسر، ويخلق محتوى متفوقاً على البشر.

الرحلة من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي على مدار السنوات الـ25 الماضية هي شهادة على الفضول البشري، والإبداع، والسعي الدؤوب نحو التقدم. لقد انتقلنا من الخوارزميات الأساسية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة التي تفهم اللغة، وتفسر البيانات المعقدة، وتُظهر الإبداع. أدى النمو الهائل في قوة الحوسبة، والبيانات الضخمة، والاختراقات في مجال التعلم الآلي إلى تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي بوتيرة لا يمكن تصورها.

بالتطلع إلى المستقبل، يشكل التنبؤ بالـ25 عاماً المقبلة تحدياً كبيراً. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، قد يفتح المجال أمام حلول للتحديات التي نعتبرها مستعصية اليوم - من علاج الأمراض، وحل مشاكل الطاقة، إلى التخفيف من تغير المناخ، واستكشاف الفضاء العميق.

إن إمكانات الذكاء الاصطناعي في إحداث ثورة في كل جانب من جوانب حياتنا هائلة. ورغم أن المسار الدقيق غير مؤكد، فإن اندماج إبداع الإنسان والذكاء الاصطناعي يعد بمستقبل غني بالإمكانات. ويتساءل المرء متى وأين قد تظهر شركة «غوغل» أو «أوبن إيه آي» التالية، وما الخير الكبير الذي قد تجلبه للعالم؟