البحث عن أرشيف الوطن الضائع

الحب والحرب في رواية كردية سورية

البحث عن أرشيف الوطن الضائع
TT

البحث عن أرشيف الوطن الضائع

البحث عن أرشيف الوطن الضائع

تبدأ رواية «شارع الحرية» لإبراهيم اليوسف الصادرة عن دار أوراق – القاهرة، وبرينت توت – ألمانيا، في 208 صفحات من القطع المتوسط بتصريح كتبه المؤلف الافتراضي لهذا العمل: «بعد انتهائي من كتابة مخطوط الرواية، أدركت وجود صفات مشتركة عديدة بيني وبين بطلها، ما جعلني أطلق عليه اسمي، تجاوزاً. أعترف أن هذه المحاولة من قِبلي لم يستسغها شريكي في البطولة، ما دفعني إلى أن أعده بإعادة الاعتبار إليه، في عمل روائي ثانٍ!».
ونرى في نهاية العمل نفسه أكثر من تصريح مشابه، أحدها للناشر، أو للمؤلف الواقعي، لأن هناك التباساً يتم بين اسم الكاتب واسم بطل الرواية أو راويها، كما نجد ملاحظة من الناشر، في فقرة خاصة، يرد فيها: «ننشر المخطوط بناءً على مسؤولية موقِّع العقد، ونحن في حلٍّ من أي التباس بين الشخصين المختلفين على ملكية الكتاب، ولدينا استعداد لنشر نسخة مخطوط صاحب الرسالة -أعلاه- إسهاماً منا، في نشر الإبداع، وتبني الحيادية...».
ولا يتوقف الأمر ضمن مجال هذه الإشكاليات المثارة، وإنما نقرأ رسالة مقتضبة بعنوان «لست البطلة» توقَّع باسم القارئة الأولى للمخطوط، ومما ورد فيها: إنه شارع الحرية... من الوهلة الأولى بدت الرواية غريبة عني فأين أنا؟ وأين ذكرياتي من هذا الشارع؟! قبل أن أفتح الملف الإلكتروني الذي وصلني من المؤلف أدركت للحظات أنني الغائبة الحاضرة... وهو ما حدث! لست في الحقيقة سوى مجرد كومبارس أستغرب إقحام اسمي!
لا تغيب المرأة عن بال بطل الرواية في أثناء بحثه عن أرشيفه، فهو قد ذهب إلى بلده في مهمة سرية، كما يتفق مع مستقبليه، لأنه مطلوب من قبل الجهات المسلحة، إلا أنه يفاجئهم بأن له صديقة على علم بزيارته هذه، ويخطط للقائها، وأن بينهما قصة حب طويلة، وتم منعه من الاقتران بها بتدبير تآمري من قبل أجهزة استخبارات النظام السوري التي كانت قد صادرت رسائلهما المتبادلة، ووضعتها بين يدي والدها. بعد كل هذه السنوات فإن صديقته تستطيع عبر وسائل التواصل الاجتماعي الالتقاء معه، في فصول تؤكد مقولة «الحب في زمن الحرب» وهي تعد من الفصول المهمة في هذه الرواية.
في أثناء لقائه صديقته يمرّان من شارع بيتهما في «شارع الحرية» وهو متنكر إلا أنها تحاول منعه، كما أنه يصر على مستقبليه أن يمروا به من أمام بيته، إلا أن الشارع الذي تعرض للتفجير من قبل إرهابيي «داعش»، نتيجة استهداف الوزارات الثلاث التي تمركزت فيه، وهي تابعة لأحد الأطراف الكردية -أي حزب الاتحاد الديمقراطي واجهة «العمال» الكردستاني- الذي ظهر بعد الثورة السورية.
تظهر الروح الإنسانية للكاتب الذي يعكس واقع المناطق الكردية في ظل حالة الحرب في روايته، فهو يكتب «أين سكان مدينتي أسأل؟ أي قامشلي، هذه، من دون يهودها، وعربها، وأرمنها، وآشورييها، ومسيحييها، كما كردها ومنهم إيزيديوها؟ هكذا كانت -قامشلي- من قبل. أواصل أسئلتي: أين هاتيك الوجوه التي كانت من العلامات البارزة للمكان؟
غداً، إن أُعيدت المدينة، إلينا، وعدنا إليها، مَن تُرى سألتقيهم؟ أيُّ حياة من دون هؤلاء الخصوم قبل الأصدقاء؟ أي حياة لهذه المدينة التي تبعثر أهلوها في قارات الناس؟ في البداية هاجر المسيحي. هاجر اليهودي. هاجر الإيزيدي. هاجر الكردي. وها هم حتى بعض عرب المكان قد اضطروا إلى الهجرة».
مدينته قامشلي تغيرت ملامحها، كما أن شارع بيته تعرض في تقاطع بدايته مع الشارع العام للتفجير الإرهابي. أغلب الوجوه جديدة، وهي مقطعة الأوصال، كما أن بعض قطاع الطرق صاروا وجوهها الجديدة من خلال سرقاتهم وتجاراتهم، بينما يعاني شرفاء المدينة من حالة حصار رهيب.
تنتمي الرواية إلى ذلك الجنس الإشكالي، فهي كما بيّن إبراهيم محمود سيروية وتاريخية، فالمؤلف يوثّق للمكان ويبيّن معاناة الناس في ظل نظام البعث والأسدين، فقد كانت صور «الرئيس» في كل مكان، وها هي الآن صور وأعلام أخرى موجودة، وكل الناس مطلوبو الرؤوس في ظل الحرب والحصار.
الرواية التي رغب مؤلفها أن تخط مسارها التقني الملتبس والمثير، وأن تعكس واقع مدينته التي ابتعد عنها رغماً عنه، كُتبت بأساليب مختلفة، فهناك بعض الفصول كُتبت بلغة شعرية، كما أن هناك فصولاً أخرى كُتبت بتقريرية، وقد انتبه الكاتب إلى ذلك، إذ إن كتابة ما هو تقريري جاء مختلفاً بخطوط ناعمة، وهي تطرح سؤالاً حول ظاهرة توجه الشعراء إلى كتابة الرواية بشكل خاص.
رواية -شارع الحرية- هي من جهة إحدى الروايات التي تناولت الثورة السورية، وقد استطاعت بجرأتها أن تكسر بعض قواعد هذا الفن، من جهة تقليديتها، وتحاول إضافة رؤيتها الفنية، وهي من جهة ثانية طرحت قضايا جريئة تتعلق باستمرارية الديكتاتوريات، وتفاقم القمع بكل صنوفه، بعد تحويل الثورة عن مساراتها بما يخدم دوام سلطة الطاغية ومن حوله التجار والمرتزقة، بينما أفرغ البلد من أهله، وباتت ذاكرته الأرشيفية تضيع كأحد تجليات الحرب القذرة.
صمم غلاف الرواية أحمد بلال، معتمداً لوحة تكاد تكون تصويرية لـ«شارع الحرية» في مدينة قامشلي في شمال سوريا.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟