مواجهة «الذئاب المنفردة»

الطريق من الآليات الفكرية إلى المواجهات الأمنية والاستخباراتية

أكاليل من الورود على أرواح الضحايا في مذبحة لاس فيغاس (رويترز)
أكاليل من الورود على أرواح الضحايا في مذبحة لاس فيغاس (رويترز)
TT

مواجهة «الذئاب المنفردة»

أكاليل من الورود على أرواح الضحايا في مذبحة لاس فيغاس (رويترز)
أكاليل من الورود على أرواح الضحايا في مذبحة لاس فيغاس (رويترز)

أثبتت حادثة لاس فيغاس خلال الأيام القليلة الماضية أن خطر الإرهاب الناجم عن ظاهرة «الذئاب المنفردة»، بات خطراً داهماً وهولاً مهولاً.
فعدد الضحايا الذين وقعوا بين قتيل وجريح غير مسبوق، عطفاً على حالة الحيرة والقلق التي تلف المجتمع الأميركي من جراء العجز عن التوصل إلى الأسباب الحقيقية لقيام الجاني ستيف بادوك، بفعلته الشنيعة هذه، التي تعد أكبر مجزرة في التاريخ الأميركي الحديث.
الشاهد أنه في الوقت نفسه كانت مدينة مارسيليا الفرنسية تشهد بدورها حادث «ذئاب منفردة» آخر، أسفر عن مقتل شخصين بأسلوب الذبح وبقر البطون، ما جعل السؤال الذي لا بد من مواجهته: «ما أفضل السبل لمواجهة والتصدي لهذه الظاهرة غير الإنسانية أولاً والشديدة التعقيد تالياً، لا سيما أن أحداً حتى الساعة، لم يتوصل إلى مقدرة مطلقة على قراءة الأفكار واكتشاف حنايا الأضلع وخبايا الصدور؟».
يعن لنا بداية التفريق بين أكثر من نوع من «الذئاب المفردة»، لا سيما النوع الأميركي، ثم النوع الأوروبي، لا سيما أن النوع الأول تتوافر له بيئة معروفة بسهولة الحصول على الأسلحة، فيما الثاني لا يتحصل على تلك الأسلحة إلا الذين ينتوون بالفعل القيام بمثل هذه العمليات الإرهابية.
لقد جاءت حادثة لاس فيغاس لتطرح سؤالاً محدداً على الكونغرس الأميركي، يتصل بحرية الحصول على الأسلحة وامتلاكها، وهو الأمر الذي يكفله التعديل الثاني في الدستور الأميركي، وحتى الساعة لا يجرؤ أحد داخل الكونغرس على طرح تشريعات تمنع حيازة الأسلحة أو ترشدها، وقد بات من اليسير سهولة شراء نوعيات متقدمة منها.
وفي مواجهة «الذئاب المنفردة» في الولايات المتحدة الأميركية يتحتم علينا أن نفرق بين أولئك الذين ينطلقون من منطلقات يمينية قومية متطرفة، وتتسلط عليهم أفكار شوفينية عنصرية، وبعضها يسعى إلى الانفصال عن الاتحاد الفيدرالي للبلاد، وبين البعض الآخر الذي يتخذ من الأصولية، أو الذي توصم عملياته بأنها إسلامية الصنع والنشء، ذريعة للقيام بها.
ورغم أن حالات «الذئاب المنفردة» في الداخل الأميركي، أقل من مثيلاتها في أوروبا، فإن ضحاياها أكثر، بسبب ما يتوافر لهم من مخزون سلاح فتاك، ما يجعل مسألة المواجهة موصولة بالتشريعات القانونية أولاً، وبالعمليات اللوجيستية والأمنية والاستخباراتية المقاومة من ناحية أخرى، فيما الجزء الثاني من أشكال مقاومة «الذئاب المنفردة» في أميركا يتشابه بدرجة أو بأخرى مع آليات المواجهة في أوروبا.
في حديث سابق، أشرنا إلى أن «الذئاب المنفردة»، نهج اتبعته «القاعدة» أولاً قبل «داعش»، وقد كان نسقاً ولد من رحم المقاومة الإسلامية للاحتلال السوفياتي لبلاد المسلمين في أفغانستان، ولاحقاً حينما ظهر «داعش» كان بدوره نتاجاً للغزو العسكري الأميركي للعراق.
هنا يمكن القطع بأن وجود مظالم سياسية كبرى حول العالم، وفي بلاد العالم الإسلامي، يعد موئلاً للحصول على مزيد من «الذئاب المنفردة» الذين يوقنون بأن الحياة دونما كرامة أو استقلالية لا معنى لها ولا طائل من ورائها، وقد كانت الأدوار السياسية الأميركية والأوروبية في الشرق الأوسط، على نحو خاص خلال الأعوام القليلة الماضية كارثة، بعد أن ساعدت على هدم بلدان كالحال في سوريا والعراق ولبنان، وتفكيك أنظمة قائمة منذ عقود بطريقة عشوائية، ولم تتحسب من ردات الفعل غير المتوقعة المقبلة، ما فتح المجال واسعاً لـ«الذئاب المنفردة» للقيام بأعمالها، ومن ثم باتت المعادلة كأنها كالتالي: كلما بقيت المظالم، استمرت «الذئاب المنفردة» في تهديد صفو العالم وأمنه، وقد يكون التقليل منها ومعالجة الملفات والجروحات الإنسانية المفتوحة، وإحقاق الحقوق وسيادة العدالة الدولية، الطريق الرئيسية المؤدية لمجابهة تلك الظاهرة.
عبر الأعوام التي تصاعدت فيها ظاهرة «الذئاب المنفردة»، استلفت الانتباه كثيراً جداً أن نسبة غالبة من الذين قاموا بها من الجيل الثاني المولود على الأراضي الأوروبية، أو من الذين جاءوا إليها صغاراً ونشأوا على أراضيها، وجميعهم تلقوا علومهم فيها، وأتقنوا لغتها، وعاشوا في البيئات الأوروبية المتباينة الثقافات والنزاعات، غير أن شيئاً واحداً تشاركوا جميعهم وفيه، وهو فشلهم في الاندماج مع المجتمعات الجديدة التي احتضنتهم فشلاً ذريعاً، انعكس لاحقاً في العمليات الإجرامية التي قاموا بها.
هنا نحن أمام إشكالية واسعة وتساؤلات مفتوحة... من عينة لماذا حدث فشل الاندماج هذا، ومن المسؤول عنه؟ هل أولئك الشباب المهاجر أم الدولة الأوروبية التي أخفقت في توفير المناخات الثقافية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، اللازمة لحدوث مثل هذا الاندماج؟
في كل الأحوال يبقى ظهور «الذئاب منفردة» في أوروبا دليلاً كافياً على أن هناك خطأ ما في آلية الإدماج، وهذا بلا شك مسؤولية كبرى تقع على عاتق الدول المضيفة، ومن هنا، فإن هناك حلولاً واضحة لتقليص المساحات الفكرية التي تتحرك فيها مثل هذه الذئاب، وفي المقدمة منها إظهار الاحترام والتقدير للثوابت الإيمانية والاجتماعية للإسلام والمسلمين، للحصول في المقابل على التقدير المطلوب نفسه من المهاجرين الجدد، واللاجئين من المعذبين في شمال الأرض وجنوبها.
وفي السياق نفسه، قد يتوجب على الدول الأوروبية بنوع خاص تكثيف العمل الإيجابي الداعم للاندماج عبر الدورات المجانية المرتبطة بالحصول على أوراق الإقامة والجنسية، بمعنى تمكين هؤلاء من اللغات التي تنطق بها تلك الدول، وإعداد المعسكرات التي يقدر لهم فيها الالتقاء بالآخر من أصحاب الوطن الأصليين، وتنظيم الزيارات إلى مختلف مؤسسات تلك البلاد، وحث المواطن على التفاعل الإنساني مع هؤلاء وأولئك، والوقوف صفاً في مواجهة المتشددين الساعين لبث رسائل الفرقة والتمرد في الداخل على الجانبين.
يبقى من نافلة القول تكرار أن هذا النوع من الإرهاب الفردي لا علاقة له بصحيح الإسلام شكلاً وموضوعاً، غير أن خطورة المشهد تستدعي وحدة رأي وتوجه، وهناك بالفعل مرجعيات إسلامية كبرى، وإن تعددت تستطيع أن تبلور رؤية وفاقية ما، تتصدى وتتحدى تيارات التشويه المتعمد لصحيح الدين، وتقوم على حذف النصوص المغلوطة، وتتجنب التركيز على التفاسير المتشددة التي تنزع إلى جهة التعصب والتطرف، أو تلك الداعية للقتل والكراهية.
إن المهمة الرئيسية لمثل تلك المرجعيات هي بلورة رؤية إسلامية موحدة قدر المستطاع تعكس صورة الإسلام السمح الداعي للتعايش والتسامح واحترام حقوق الإنسان أياً كانت خلفيته الإيمانية الدينية أو العرقية أو الجنسية «ذكراً أو أنثى».
في هذا السياق، يتحتم على حكومات الدول الأوروبية أن تفتح أبوابها واسعة لمثل تلك الجهود التنويرية، عبر إتاحة كل الإمكانات للمراكز الإسلامية ذات الأصوات المعتدلة على الأراضي الأوروبية، لتكون هناك فرصة للتلاقي والتحابب والتعايش، عوضاً عن أن يكون بعضها مصدراً للفتاوى الشاذة.
مثل هذه الجهود وتلك اللقاءات، لا بد أن تتشارك بها وفيها كل أصوات العلم الإسلامي، وأن تعمل بجهد وحركة دؤوبين لسنوات طوال، لضمان التطهير العقلي والفكري الذي تشوه في المراحل الماضية، ولبناء منظومات عقلية وروحية مغايرة تنتج لنا أصواتاً تمضي في طريق النهج القرآني السديد... «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
إحدى أهم الآليات التي يوصى بها في مواجهة ظاهرة الذئاب الوحيدة أو المنفردة، هي آلية تعميق الحوار، فهو الطريق وهو الحل، الحوار بين الأجيال المختلفة، والحوار بين المواطنين الأصليين وأولئك المتجنسين، الحوار بين أتباع الأديان المختلفة، وهذا بلا شك من أهم أنواع الحوارات، لا سيما أنه يزيل كثيراً من الغشاوة التي تخيم على العقول والقلوب تجاه الآخر.
هنا يضحى الاهتمام الأوروبي بمسألة الحوار فرضاً لا نافلة، بمعنى أنه يتحتم عليها أن تفتح مجالات الحوار واسعة، أمام كل طبقات المجتمع، وهي حين تفعل ذلك، فإنها تغلق الباب وتوصده أمام الطغمة المعروفة بـ«ملاك الحقيقة المطلقة»، وأصحاب «الذهنية والتفكير الأحادي»، أولئك الذين يرون الآخر عدواً مطلقاً لا سيما إذا كان هذا الآخر من خلفية دينية أو إيمانية مغايرة.
المسؤولية في هذا السياق لا تقع على عاتق الدول الأوروبية فقط، بل على المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية العربية، والأخيرة بنوع خاص يمكنها أن تلعب دوراً مهماً في هذا الشأن، بوصفها ذات جذور عربية حضارية، وشاركت مع المسلمين في صنع تلك الحضارة، ولهذا فإن شهادتها هناك على الأراضي الأوروبية حكماً ستكون غير مجروحة، ويمكن لها أن تجد صدى واسعاً لدى كثير من المعتدلين من المسيحيين الأوروبيين، الذين يسعون لدمج تيارات المهاجرين واللاجئين من المسلمين بمحبة صادقة، داخل صفوف المجتمعات الأوروبية.
وحتى نسد الأبواب على دعاة الكراهية، فإننا نوصي بأن تكون تلك الحوارات مركزة على القواسم المشتركة بين أتباع الأديان السماوية، لا السعي إلى الخوض في المسائل أو المعتقدات الفقهية أو اللاهوتية، لأنه حينها يحشر الحوار نفسه في مجال لن يخرج منه بنتيجة، إذ إن السعي لتغيير معتقدات البشر الدينية مسألة فيها شيء من التجاوز على حقيقة الاختلاف والتنوع التي هي مبعث ثراء للوجود حين تتخذ المواجهة الصحيحة.
هل نسينا أو أغفلنا شيئاً ما ونحن نتحدث عن أفضل وأفضل السبل لمواجهة «الذئاب المنفردة»؟
حكماً يبقى «الذئب المنفرد» هو جوهر الإشكالية، والقول بإمكانية القضاء المبرم عليه مرة وإلى الأبد مسألة فيها من التجاوز الشيء الكثير، فما من أحد يعلم نفس الإنسان والروح الإنسانية التي فيه، وما يسعى وما ينتوي تجاه الآخرين، وهذه إشكالية معقدة تستدعي تضافر جهود علماء النفس والاجتماع.
غير أن هناك كثيراً من الآليات التي يمكن من خلالها حصار هذا «الذئب» في مهده، وجعله وحيداً، بمعنى تضييق فرص لقاءاته واختلاطاته بمراكز الجماعات الإرهابية، ذلك أنه كلما كانت فرصة الالتقاء قليلة وطبيعة التواصل ضعيفة، تقلصت خطورة هذا الذئب.
هنا يثور السؤال، كيف ذلك في أجواء التواصل عبر شبكات العالم الافتراضي كالإنترنت وكل الوسائط التكنولوجية الحديثة؟
الجواب يحمّل القائمين على مراقبة ومتابعة تلك الشبكات مسؤولية واسعة وعسيرة، تبدأ من حظر وإغلاق المواقع الإلكترونية للتنظيمات والجماعات التي يشك في كونها إرهابية، لا سيما تلك التي تسعى إلى تجنيد الأشخاص، وكذا المواقع التي تدعو إلى الموت للآخر، وبقية الدعوات المشابهة.
السياق نفسه يستدعي دوراً رقابياً ذاتياً من وسائط التواصل وفي مقدمتها «فيسبوك»، وقد رأينا الأيام الماضية مراجعة ذاتية في الشركة المالكة لـ«فيسبوك» قام عليها مارك زوكربيرغ عبر تخصيص مئات من العمال لتنقية الشبكة من الدخلاء الذين يتلاعبون بمقدراتها ويستخدمونها لتحقيق أهدافهم السياسية، والأمر هنا مرده الاتهامات الموجهة لروسيا بالتلاعب بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة.
على هذا المنوال، يمكن التعاون بين تلك الشركات والأجهزة الأمنية السيبرانية واختراق الحسابات المشكوك في ولاءاتها للإرهاب والإرهابيين، ومراقبة مستخدميها بانتظام، وتعليق حساباتهم عند الضرورة، والمعنى الأشمل هنا هو استباق تحركات الإرهابيين من الذئاب المنفردة بخطوة أو اثنتين أو أكثر لتقليص ولاحقاً القضاء على الأخطار الناجمة عن أفعالهم.
فيما الأمر الآخر المتصل بحصار الذئاب المنفردة هو أوضاعهم في السجون، وهذا أمر لا بد أن تتنبه له الأجهزة القائمة على الأمر، ذلك أن تلك السجون قد أضحت أخيراً «مفرخة» لمزيد من هؤلاء، من جراء احتكاكهم سيئ الحظ بأصوليين عتاة في أصوليتهم وأفكارهم، ما جعل من تلك السجون منابر لبث الأفكار الإرهابية، ووضع الأشخاص شديدي الخطورة الفكرية أو اللوجيستية في أماكن خاصة بهم، ومنع اتصالهم بمن حولهم، وقطع الطريق على ترويجهم لمزيد من الأفكار المغلوطة، وإشاعة روحهم الضارة بطبقات المجمع.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.