تغيرات سريعة على مشهد التطرف العنيف الراهن، مع «داعش» ثم مع أجنحته المتصارعة، ليس فقط على المستوى الميداني ولكن أيضاً على مستوى الرموز الفكرية والفقهية لتنظيمات التشدد العنيف، يختفي بعضهم تماماً، ويظهر بعض آخر، وتراجع دور شيوخه الكبار، كالمقدسي وأبي قتادة الفلسطيني وأبو بصير الطرسوسي والظواهري وغيرهم.
هناك سيولة في شتات الخطاب الفكري للتنظيمات المتطرفة من «القاعدة» لـ«داعش» لغيرها يمكن تحديد ملامحها فيما يلي من سمات:
1 - تراجع خطاب «القاعدة»، واتساع الشقة بين التنظيم وفكر «السلفية الجهادية» الذي انطلقت منه، فلم يعد كل منهما معبراً عن الآخر بشكل كامل.
2 - تحول «داعش» من مواجهة «القاعدة» و«السلفية الجهادية» للصدام داخلها بين أجنحتها المتطرفة.
3 - اختفاء كثير من المنظرين الكبار للتيارين الكبيرين، ومقتل بعضهم، وظهور وجوه جديدة أقل تأثيراً وأكثر تطرفاً، مثل الحازميين.
4 - اختفاء المؤلفات والمدونات الكبرى التي عهدت في تسعينات القرن الماضي لـ«السلفية الجهادية» وتنظيماتها، ككتابات وسلاسل عبد القادر بن عبد العزيز - الذي تراجع فيما بعد - أو «أبو محمد المقدسي» وغلبة المنهج السجالي في الردود والردود المضادة.
5 - يبدو أن ما أسسه أيمن الظواهري في «التبرئة» التي رد بها على «وثيقة ترشيد العمل الجهادي» لعبد القادر بن عبد العزيز، من كون الفقه والإفتاء لفقهاء الميدان، قد أصابه تأثيرها فلم تعد له سطوة على التنظيمات المقاتلة في سوريا أو العراق، وصار كما وصفه أحد الدواعش سنة 2015 بـ«رجل فَقَد ظله».
6 - حصر التأثير النظري والآيديولوجي في بؤر الصراع في سوريا، وتحول سريعاً للمواقع التواصلية، التي لا ضابط لها، مما يبشر مع الوقت بسيولة واندثار تام للبنية الفكرية الثابتة لهذه التنظيمات.
7 - من الملاحَظ غياب أي قيادة تنظيرية وشرعية من خارج بؤر الصراع، وغابت الأسماء الكبيرة من مصر، رغم أنها أول من أسَّسَ لهذا الفكر المتشدد، وأول أدبياته صدرت منها لمحمد عبد السلام فرج وعبد القادر بن عبد العزيز وعمر عبد الرحمن وغيرهم كثير.
8 - كما تراجعت الأسماء السعودية التي عُرِفَت في مسار «القاعدة» أو فكر «السلفية الجهادية» منذ التسعينات، لمراجعات بعضها وسيطرة الأجيال الجديدة على المشهد، وغلبة الواقع الميداني على أي تأسيس، وتوجه «داعش» لتأخير ترتيبهم ومقامهم كذلك، ربما باستثناء عبد الله المحيسني المحسوب على النصرة، وعثمان آل نازح الذي قتل في أغسطس (آب) سنة 2015 ولا تُعرَف له كتابات.
9 - في أقل من عام تشظَّى المشهد الفكري المتشدد، واختفت أبرز أسمائه ومنظروه سريعاً، وصار الصراع صراع قضايا وقنابل انشطارية، تزيد من انفجارها والخلاف عليها وحولها المواقع التواصلية والمدونات، وعدم وجود بنية حاكمة ونظام فكري وشتات القيادة والقواعد.
10 - لم يستعِر الخلاف الحالي بين التنظيمات المتشددة والأنظمة التي تعارضها، بل كان منذ اقتتالها في سوريا ومع خلافة «داعش» التي اشترطت بيعة كل الآخرين لها، خلافاً بين التنظيمات عنيفاً في المقام الأول، وتحولنا من تصورات العدو البعيد والقريب للعدو الشبيه المخالف.
لم يختفِ منظر «داعش» الأشهر تركي البنعلي بمقتله في يوليو (تموز) الماضي 2017، والذي سبقه ظهور أخير له في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) جدلاً مع تيار الحازميين المنشق على أفكاره، بل اختفى فترة طويلة قبل ذلك، وكتب كول بنزل مقالا في مجلة «Jihadica» المعروفة يتساءل عن سبب اختفائه بتاريخ 15 يونيو سنة 2015، تساءل فيه عن اختفاء تركي البنعلي طوال الفترة الماضية، وهو من لم يكفّ عن التبشير لخلافة «داعش» وخلافتها ويترجم لقيادييها - البغدادي والعدناني - ويرد على شيوخه من منتقديها أشد الانتقادات (1) وأشيع حينها أنه تم توقيفه عن الإفتاء والنشاط من قبل قيادة «داعش»، وبعد فترة من الوقت في يونيو سنة 2016 جاء الخبر بإقالته وعزله من رئاسة الهيئة الشرعية، واتهامه بالردة، ثم ظهر البنعلي قبل وفاته بقليل برسالة وبيانين، يرد فيها على أفكار «الحازميين»، والهجوم عليه وعلى انتقاداته لهم في مسألة العذر بالجهل.
لكن لم يختف البنعلي وحده، بل اختفت أسماء كثيرة من منظري «داعش» وشيوخه السابقين، الذين نشطوا بين عامي 2013 و2015، ولم يعد يُسمع لهم خبر في الجدل السائر الآن، نذكر منهم أبو الحسن الأزدي الذي نرجح أنه صاحب فتوى تحريق الشهيد الأردني معاذ الكساسبة، ومنهم آخرون مثل أبي المنذر الشنقيطي المجهول الهوية والذي كان ناشطاً كبيراً في التأييد لخلافة «داعش» ونقد مخالفيها ومنتقديها من منظري «السلفية الجهادية» الآخرين.
مما وصف به أبو بصير الطرسوسي - المؤيد لحركة «أحرار الشام» - أبو منذر الشنقيطي هذا قوله: «مجهول الاسم والعين... مما يسمح له أن يركب سرج التشدد والغلو... والمزايدات... وأن يسير في المسرب الذي يشاء، فيرفع صوته في الوادي الذي يشاء، وبالطريقة التي يشاء»، ثم يضيف لائماً على المقدسي وموقعه الذي نشر بعض منشورات الشنقيطي: «ولولا تعريف منبر التوحيد والجهاد بكتاباته لما عرفه أحد من الناس، فهو من الغلاة الأجلاف، خارجي جلد.. الخوارج من قبل كفروا بالكبائر.. وهذا يكفِّر بالحسنات.. وبالاجتهاد والاختلاف المستساغين.. فهو من هذا الوجه أسوأ من الخوارج الغلاة الأوائل... كل كتاباته وخربشاته، وردوده علينا - وعلى غيرنا - تدلل على ذلك».
كذلك تراجع دور مؤثرين من جيل البغدادي والجولاني في كل الاتجاهات، مع تصاعد الخلاف وسيولة المشهد النظري والإفتائي وتشظيه التواصلي، مثل أبو ماريا القحطاني وعبد الله المحيسني، كما يكاد يختفي تأثير شيوخ «السلفية الجهادية» الكبار مثل الأردنيين أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، وإن كان شرعي «النصرة» الدكتور سامي العريضي لا يزال يصارع الحضور والجدل والدعوة للتصالح أو التصحيح، ولكن بلغة أقل تفاؤلاً وحسماً كما كانت... وهو ما يحمل في طياته دلالة خاصة بعد تراجع «داعش» وتبخر خطرها على المختلفين معه من «الجهاديين»، المفاصلة الكاملة وضعف حمية الجدل بين المختلفين، وتحولت مساحاته لداخل «داعش» وداخل كل التنظيمات المسلحة بشكل كبير، وليس على صدارة «الجهاد» العالمي كما كان متوقعاً قبل فترة.
يلاحظ منذ سنوات، تراجع دور المصريين والسعوديين، بالفكر والمشهد «الجهادي»، ربما باستثناء الظواهري، الذي يحمله كثير من المتطرفين، منذ توليه الزعامة وخلافة أسامة بن لادن عام 2011، المسؤولية عن شتات المشهد وانفلات بيعات «القاعدة» وانقلاب بعض الفروع على «القاعدة».
لكن كون الظواهري قيادة تنظيمية في المقام الأول وليست فكرية، واستراتيجية استهداف قياداته في أفغانستان واليمن وغيرها، لا ينفي تراجع دور المصريين الذين كانوا الأبرز في تنظيم «الجهاد» المصري ثم «القاعدة» ثم «داعش»، تنظيراً وتنظيماً، فلم تتكرر أسماء منهم بمستوى عبد القادر بن عبد العزيز أو عمر عبد الرحمن أو غيرهم، بل لم يعد مستغرباً أن تنظيماً كـ«أنصار بيت المقدس» الذي بايع «داعش» في أبريل (نيسان) سنة 2015 بلا أدبيات وبلا منظرين وبلا أدبيات يمكن تحليلها أو الاعتماد عليها في قراءة أفكاره، ليتحول لولاية تابعة لخلافة «داعش» المأزومة داخلياً.
وهو ما يرجع بشكل ما للمراجعات التصحيحية التي صدرت في الدولتين الكبيرتين، بدءا من مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية التي تمخضت عن سلسلة تصحيح المفاهيم في نيف وعشرين كتاباً، إلى مراجعات عبد القادر بن عبد العزيز التي صدرت سنة 2009 بعنوان «وثيقة لترشيد العمل الجهادي» ثم رسالته «التعرية في الرد على التبرئة للظواهري» وهو ما عُد تحدياً نظرياً وشرعياً زاد واخترق «الفكر الجهادي» الراهن.
وفي السعودية كانت برامج المناصحة والسكينة التي أوقفت بدرجة كبيرة نمو التشدد وأفكاره، ونشطت خطابات نقده ومكافحته، كما لا بد من الإشارة للنجاحات والاستباقات الأمنية السابقة والمستمرة، التي سيطرت على عدد من الشباب والأجيال.
ولكن حال السؤال عن تصاعد حضور أمثال أحمد بن عمر الحازمي المعتقل حاليا، وفكره التكفيري الذي تأثر به المقاتلون التونسيون بالخصوص، حيث زار تونس خمس مرات منذ عام 2011، فنراه ضغط القضية التي كانت سبباً في خلاف كثير من التنظيمات المتطرفة في مصر، مثل الجماعة الإسلامية و«الجهاد» المصري، في تكفير الطائفة الممانعة، أو الجماعة الإسلامية المصرية وأميرها عمر عبد الرحمن وتنظيم الشوقيين الذي انشق عنه، وأصر على ما يصر عليه الحازميون الآن، من تكفير المخالف، وتكفير من لم يكفره، وأن الأصل في الناس الكفر، فهنا الحازمي يمثل بعثاً لقضية ولكن لا يعرف لهذا اللغوي أي أثر أو أدبيات سابقة في الفكر أو تاريخ التشدد الراهن، وهو ما نراه مناسباً لحالة السيولة الصاعدة وتراجع أهمية البنى الفكرية والتنظيمية والشرعية للتنظيمات وسهولة الانقضاض عليها، في تشظٍّ فكري وأزمات تنظيمية لن تنتهي كما نظن بين عناصر التطرف، بل تبشر بنهاية هذه التنظيمات ذاتها.
من «القاعدة» إلى «داعش»... سيولة الفكر المتطرف واختفاء منظريه الكبار
مع تراجع دور المؤثرين من جيل البغدادي والجولاني في كل الاتجاهات
من «القاعدة» إلى «داعش»... سيولة الفكر المتطرف واختفاء منظريه الكبار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة