ترصد «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين في صحراء ليبيا

الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر تدفع شبانها إلى السفر «بحثاً عن حياة أفضل»

عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
TT

ترصد «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين في صحراء ليبيا

عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية
عدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد إلقاء القبض عليهم من قوات حرس الحدود المصرية

ألغام، ومطاردات أمنية، وصحراء واسعة وقاسية، تبتلع في بطنها التائهين والجائعين والعطشى... مخاطر تنتظر المهاجرين غير الشرعيين بين مصر وليبيا، في رحلتهم التي قد تكون الأخيرة في هذه الحياة. تبدأ الرحلة بمكالمة هاتفية مفعمة بالأمل والوعود البراقة مع سماسرة «الموت»، المنتشرين في معظم محافظات مصر الفقيرة، وتنتهي بتهديدات مخيفة وسط ظلام الليل الحالك.
تدفعهم الأجور المتدنية وارتفاع الأسعار دفعاً إلى مواجهة الموت، فوق رمال صحراء ملتهبة لا نهاية لها، مع شمس غاضبة، وسماء مكشوفة، لا يفيقون من سكرتهم وأحلامهم بتحقيق غد أفضل، إلا عند بلوغ الأجل المحتوم، التي تزهق فيه الأرواح بعيداً عن أعين الناس في أعماق الصحراء.
«الشرق الأوسط» تتبعت خطى المهاجرين غير الشرعيين من القرى والمدن والمصرية الفقيرة وحتى مسارات الموت، المعروفة باسم «الخطوط الساخنة»، وتلقي الضوء على خطورة استمرار عمليات التسلل عبر الصحراء، إذ تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن السلطات المصرية قبل نحو عامين إلى حقائق خطيرة، مفادها أن عمليات مراقبة الحدود الشاسعة لا يمكن السيطرة عليها تماماً، وأن قرار حظر السفر إلى ليبيا مجرد حبر على ورق، لا سيما مع استمرار عمليات التهريب بشكل دوري، وموت عشرات المهاجرين في صحراء ليبيا، بعد التسلل إليها سيراً على الأقدام قبل دفنهم بالمقابر الإسلامية بواسطة الهلال الأحمر الليبي.

إجابة واحدة رددها معظم أهالي ضحايا الهجرة غير الشرعية في مصر عن السؤال الصعب: «لماذا يخاطر أبناؤكم بحياتهم وسط الصحراء الليبية المقفرة؟». جوابهم كان يأتي دائماً كالآتي: «إنها البطالة، والظروف الاقتصادية الصعبة، والبحث عن حياة أفضل».
«الشرق الأوسط» التي سعت إلى تتبع «رحلة العطش والتيه» للمهاجرين غير الشرعيين في صحراء ليبيا وجدت أن الرغبة الجامحة في السفر لدى الشبان «المغامرين» كانت تتلاقى مع رغبة السماسرة في تحقيق أرباح كبيرة بأقل مجهود ممكن. يتفق الطرفان على موعد رحلة التهريب لكن ثمنها «قابل للتفاوض»، فأسعار السماسرة المنتشرين في كافة محافظات الوجهين البحري والقبلي (شمال مصر وجنوبها) ليست موحدة ويمكن أن تبدأ بأربعة آلاف جنيه مصري (الدولار الأميركي يساوي 17.7 جنيهاً مصرياً) وتصل حتى 10 آلاف جنيه.
يُقبل على الهجرة غير الشرعية لليبيا شبان سبق لهم العمل فيها، وسافروا إليها سابقاً عبر المنافذ الشرعية، أو شبان جدد يقتفون أثر من سبقوهم من الجيران أو دائرة الأصدقاء، ودافعهم الوحيد «تكوين أنفسهم» وبناء شقة للزواج. ومنذ شهر فبراير (شباط) من عام 2015 منعت السلطات المصرية سفر العمال المصريين إلى ليبيا، بعد أن ذبح تنظيم داعش الإرهابي 20 عاملاً مصرياً من الأقباط، قبل أن تسحب مصر تمثيلها الدبلوماسي من ليبيا بسبب التهديدات الأمنية.
اعتاد سعيد سيد (37 سنة)، صاحب البشرة القمحية المائلة إلى السمرة، والمقيم بقرية طرفا، مركز سمالوط، بمحافظة المنيا (260 كيلومتراً جنوب القاهرة)، السفر خارج مصر منذ سنوات طويلة، وأجبرته الأوضاع الاقتصادية الصعبة على التفكير مجدداً في تكرار تجربته رغم صدور قرار من مجلس الوزراء المصري يمنع دخول ليبيا بسبب تدهور الأوضاع الأمنية فيها عقب إطاحة حكم العقيد الراحل معمر القذافي في عام 2011.
وروت زوجته فاطمة عبد الله لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل تسلل زوجها سعيد لليبيا عبر الصحراء، قائلة: «فوجئ زوجي بحماس ابننا علاء (17 سنة) للسفر معه عن طريق التهريب المحفوف بالمخاطر، ورفضنا طلبه في البداية، لكننا وافقنا بعد إصراره الشديد على السفر من أجل بناء وتشطيب شقته في الطابق الثاني من البيت». وأضافت فاطمة: «اقترض زوجي 20 ألف جنيه من جيرانه لتسديد ثمن التهريب، وبدأت الرحلة في يوليو (تموز) من مدينة سمالوط، بمحافظة المنيا، حتى مدينة مطروح» الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لمصر.
من مدينة مطروح إلى واحة سيوه، قطع سعيد ورفاقه 300 كيلومتر ناحية الجنوب في أعماق الصحراء، وقضى في الواحة الهادئة مع رفاقه الذين زاد عددهم على 50 فرداً، نهاراً كاملاً، اختبأ فيه عن أعين الأجهزة الأمنية وقوات حرس الحدود داخل بيت مهجور مجهز لهذا الغرض. ومع غروب الشمس وغسق الليل، بدأ المهربون في نقل المهاجرين من مخبئهم تحت ستار الظلام، وحملوهم في سيارات دفع رباعي، وتوجهوا بهم ناحية جنوب الواحة، بحسب ما قالت فاطمة.
وتابعت الزوجة نقلاً عن زوجها إنه لم يكن أمامه وابنه علاء ورفاقهم من المنيا وأسيوط والدقهلية وبعض المحافظات الأخرى، أي خيار آخر غير مواصلة السير في اتجاه غير معلوم، وباتوا ليلتهم الثانية في قلب الصحراء وقد غشيهم الإجهاد ومنعهم من مواصلة السير.
في صباح اليوم الثالث بالصحراء الليبية الهائلة لم يتحمل الضعفاء منهم الجوع والعطش والإجهاد والحرارة المرتفعة، وسقطوا على الأرض «سقوطاً أبدياً، ليصبحوا جثثاً هامدة، ولم تفلح محاولات زملائهم المنهكين في إسعافهم «فجميعهم بدون قضمة خبز أو نقطة مياه واحدة»، كما قالت.
واصلت فاطمة حديثها قائلة: «كانت مياه البول السبيل الوحيد لزيادة مدة بقائهم على قيد الحياة ساعات إضافية، لكنها لم تكن حلاً نهائياً، لأن المياه كانت تنقص مع شدة الحرارة وبذل الجهد. بعد صراع طويل مع الجوع والعطش قضى علاء ابن السابعة عشر ربيعاً، بين يدي والده الذي لم يقدر على مساعدته للنجاة من الموت. خلع والده جلبابه وكفنه به، ثم حفر له حفرة غير عميقة ووارى جثمانه الثرى، مثلما فعل بعض زملائه مع رفاقهم المتوفين».
دفن سعيد ابنه الأكبر والوحيد (لديه أربع شقيقات) بيده، ثم أدار وجهه، وحفر حفرة لنفسه بجواره، ونام بها مستعداً لصعود روحه قبل وصول مجموعات القوات المسلحة الليبية التي وصلت إليه قبل خروج الروح من الجسد وأنقذته من الوصول إلى مصير ابنه المدفون في الصحراء.
تقول فاطمة إن زوجها يتصل بها بصورة منتظمة الآن، وتضيف: «يخبرني أنه يريد العودة إلى مصر في أسرع وقت، لأنه يشعر بتعب نفسي منذ وفاة ابننا، وليس قادراً على العمل لأنه يفكّر في علاء طوال الوقت».
لكن الزوجة الشابة التي لا يزيد عمرها على 33 عاماً طلبت من زوجها البقاء في ليبيا وعدم الرجوع إلى مصر قبل جمع المبلغ المدين به في القرية، و«حينها فقط يمكنه أن يعود بشكل نهائي ولا يفكر في السفر من جديد».
عمليات الهجرة غير الشرعية من مصر إلى ليبيا لم تبرز في الواقع سوى بعد انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، التي أعقبها حالة انفلات أمني ضربت معظم أنحاء مصر وبالأخص حدودها الغربية التي كانت الباب الرئيسي لتدفق الأسلحة والبضائع المهربة والمخدرات من ليبيا، وفقاً لما ذكره الشيخ عمر راجح شيخ قبيلة أولاد موسى بواحة سيوة. وقال راجح لـ«الشرق الأوسط»: «يعمل معظم المهربين الآن على تهريب المهاجرين لعدم تمكنهم من تهريب الأسلحة والبضائع، مثلما كان يحدث قبل سنوات قليلة، بسبب التضييق الأمني وزيادة مراقبة الحدود».
وعلى رغم نجاح الحملات الأمنية في تخفيض وتيرة التسلل إلى ليبيا بطريق بحر الرمال العظيم جنوب واحة سيوة وطريق جنوب منفذ السلوم إلى حد ما، إلا أن عمليات التهريب لا تزال قائمة بشكل منتظم، حيث يتم ضبط أكثر من 200 مهاجر غير شرعي جنوب سيوة شهرياً، وفقا لتصريحات مصادر أمنية في مركز شرطة سيوة نشرتها صحف مصرية. وأضافت: «يوجد مندوبون لعصابات التهريب في معظم محافظات الجمهورية، يحصلون على عمولة تبدأ من 4 آلاف جنيه وحتى 10 آلاف جنيه للفرد الواحد، قبل أن يتم الاتفاق معهم على التحرك في موعد معين للسفر إلى مطروح (500 كيلومتر شمال غربي القاهرة)، ثم إلى سيوه من خلال الطرق الصحراوية الموازية لطريق مطروح - سيوه».
ويروي الشاب العشريني أحمد جابر، الذي قبضت عليه قوات حرس الحدود أثناء محاولة تسلله إلى ليبيا، خلال استجوابه من أفراد الشرطة عام 2016، أنه اتفق مع أحد السماسرة في بلدته بمحافظة الفيوم على أن يدفع له 8400 جنيه مصري (نحو 500 دولار أميركي)، مقابل توصيله بالمهربين من إحدى القبائل الشهيرة في منطقة مطروح لتسهيل تسلله إلى ليبيا عبر مدينة سيوه. وأضاف الشاب في تصريحات صحافية: «ذهبنا إلى مدينة مطروح ومكثنا بها ليلتين حتى تم نقلنا في سيارتي دفع رباعي، كانت تمر من خلف الأكمنة بالصحراء، وبعد أن وصلنا سيوة، قابلنا ليلاً اثنين من المهربين، ليعبروا بنا الحدود الليبية - المصرية، وبعد السير على الأقدام لمدة ساعة كاملة فوجئنا بدورية للجيش المصري أطلقت الرصاص في الهواء لإيقافنا، جرينا فراراً منهم في البداية حتى أتعبنا الجري وسلّمنا أنفسنا لهم، في ذلك الوقت اختفى المهربان في غمضة عين، ولم يتم القبض عليهما مثلنا... ثم تم إيداعنا بسجن قسم شرطة سيوة بعد ذلك».
ويقول أحمد شوقي، من قرية ميت زنقر، التابعة لمركز طلخا، بمحافظة الدقهلية، وهو صديق محمد إبراهيم عبد العاطي الذي عُثر على جثته بشمال الصحراء الليبية في 10 سبتمبر (أيلول) الماضي، لـ«الشرق الأوسط»: «بعد عيد الفطر الماضي، سافر محمد برفقة شبان آخرين إلى السلوم ليتسللوا منها إلى الأراضي الليبية، وخلال رحلته التي دامت لساعات طويلة كنا نتبادل الاتصالات الهاتفية، وكان يخبرني بأماكن وجوده باستمرار، وفي آخر اتصال دار بيننا قال إن إشارة الهواتف الخلوية ستنقطع لعدم وجود إرسال». ويضيف شوقي قائلاً: «بعد أيام جاء أحد المراسلين الصحافيين إلى القرية وأخبر عائلته بخبر وفاته بعد نشره على موقع الهلال الأحمر الليبي. حاولت عائلته استعادة جثته لدفنها بمسقط رأسه، لكنها لم تتمكن من ذلك».
وعثرت السلطات الليبية في الشهور الماضية على جثث مهاجرين غير شرعيين في مرتين متتاليتين، الأولى كانت في يوليو الماضي، حيث عثرت كتائب عسكرية تابعة لقيادة منطقة طبرق العسكرية على جثث 48 مهاجراً غير شرعي في منطقة صحراوية تقع بين حدود مدينتي أجدابيا وطبرق (شرق ليبيا). وأشار الهلال الأحمر الليبي، في بيان، إلى «أن الضحايا مصريون من محافظات أسيوط والمنيا وبني سويف وكفر الشيخ، وكانت جثثهم بالصحراء على شكل مجموعات في مناطق قريبة من بعضها».
وقال مصدر عسكري ليبي في تصريحات صحافية إن «سرايا عسكرية تابعة لكتيبتي 501 وعمر المختار تمشط المنطقة الصحراوية الممتدة جنوب غربي واحة الجغبوب، التي يتخذها المهربون ممراً لهم، لكن القوات المسلحة الليبية تحتاج دعماً متواصلاً للقيام بهذه المهمة، نظراً لأن الصحراء الليبية شاسعة جداً. أما الواقعة الثانية التي أعلن فيها العثور على جثث مهاجرين مصريين فتعود إلى يوم 10 سبتمبر الماضي، عندما تم الإعلان عن العثور على 13 جثة شبه متحللة في عمق صحراء ليبيا بنحو 160 كيلومتراً بالقرب من واحة الجغبوب الليبية».
ولم تصدر السلطات المصرية أرقاماً رسمية حول أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا في العامين الأخيرين، لكن آخر إحصائية رسمية صدرت من مديرية أمن مطروح في عام 2015، ونشرتها صحف مصرية، أفادت بأن عدد المصريين الذين عادوا من ليبيا عبر منفذ السلوم منذ 16 فبراير 2015 وحتى يوليو من العام نفسه، وصل إلى 76 ألف مصري، منهم 30 ألفاً دخلوا ليبيا بصورة غير شرعية. وكانت مديرية أمن مطروح قالت في عام 2014 إن أعدد المصريين العائدين من منفذ السلوم البري بلغوا 56 ألف عامل، منهم 22 ألفاً دخلوا بصورة غير شرعية إلى ليبيا، و34 ألف عامل دخلوا بصورة شرعية. كما أعلنت وزارة الداخلية المصرية في بيان عام 2014 أيضاً، عن إلقاء القبض على 55 ألف متسلل بين مصر وليبيا في مدة 6 شهور فقط.
ويقول محمد شومان، وهو من إحدى قرى محافظة البحيرة، لـ«الشرق الأوسط» إنه سافر إلى ليبيا مرتين «الأولى كانت بطريقة شرعية، والثانية كانت عن طريق التهريب. السفر إليها عن طريق التهريب فيه مخاطرة كبيرة جداً، وما يضطرنا إلى ذلك هو لقمة العيش فقط والبحث عن دخل أفضل». ويضيف شومان صاحب الثلاثين عاماً قائلاً: «بعد وصولنا إلى الأراضي الليبية تسلمنا مهرب ليبي على علاقة وثيقة بالمهربين المصريين بمحافظة مطروح، وهم عبارة عن شبكات عابرة للحدود يتفقون مع الشباب على مبالغ معينة قد يتم دفعها في مصر أو في ليبيا، بحسب رغبة كل مهاجر». ولفت قائلاً: «داخل ليبيا تم نقلنا في سيارة نصف نقل، غطى سائقها رؤوسنا بالكارتون والخبز الجاف، واخترق صفحة الصحراء الصفراء لمدة 4 ساعات كاملة، ثم غيّر مساره في اتجاه بيوت منفردة داخل الصحراء يطلقون عليها في ليبيا (براقة). كنا نستريح فيها قليلاً، قبل تغيير السيارات لاستكمال الرحلة الشاقة نحو منطقة التميمي، وهي تقع بالقرب من مدينة طبرق الليبية، وفي تلك المنطقة كان يتم توزيع العمال المصريين على مختلف المدن وفقاً لرغباتهم». ويوضح أن «أعداد الشبان المصريين كانت كبيرة، حيث كانت تتدفق السيارات التي تقل المهاجرين غير الشرعيين بصورة منتظمة كل ساعة، وكان عدد هؤلاء المهاجرين يقدّر بالمئات».
في المقابل، لا تبدو رحلة العودة من ليبيا إلى مصر صعبة، ولا تشغل بال المهاجرين غير الشرعيين. فالسلطات المصرية تسمح بدخول المصريين العائدين من ليبيا دون أي ملاحقات أمنية، رغم دخولهم وخروجهم من ليبيا دون أختام رسمية. ويستقبل منفذ السلوم أعداداً تتراوح ما بين 50 إلى 100 مصري عائدين من ليبيا يومياً، وفق تصريحات مصادر أمنية عند المنفذ الحدودي.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!