الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

قراءة في كتاب «الجهاد والموت» لأوليفيه روا

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
TT

الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)

تقدم السجالات المتعلقة بظاهرة الإرهاب، التي يخوض فيها الإعلام الغربي والفرنسي منه على وجه الخصوص، زوايا للنظر في الموضوع، من حيث الأصول والأسباب وطرق محاربة تنامي الإرهاب، ومسه باستقرار الدول الأوروبية. ويبدو أن الحضور القوي لهذه الإشكالية التي تنتشر وسط الجيل الثاني من الشباب المسلم، أو المتحول للإسلام في الغرب، أصبح أولوية علمية؛ حيث لم يعد الاهتمام بهذه الإشكالية الجديدة مقتصراً على النخب السياسية المستغلة لها قصد ربح الأصوات. بل أصبح للنخب الأكاديمية صوتها العالي وسط سجال مطبوع بالرمزية الثقافية وتضارب المصالح الآيديولوجية خصوصاًَ مع صعود اليمين وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا.
ومن القامات الأكاديمية الكبيرة في فرنسا التي تثير أطروحاتها جدلاً واسعاً وسط مراكز البحث والجامعات ورجال السياسة، نجد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية أوليفيه روا. ذلك أن الباحث راكم خبرة تخصصية عالمية في الظاهرة الإرهابية وتنظيمات الإسلام السياسي، وصدرت له مؤلفات عدة، منها «الجهل المقدّس»، و«الإسلام والعلمانية»، و«تجربة الإسلام السياسي»، والكتاب المشهور «أوهام 11 سبتمبر»، و«عولمة الإسلام»، وكتابه الأخير «الجهاد والموت... النداء العالمي للدولة الإسلامية» الذي صدرت نسخته العربية «منتصف» سنة 2017 عن دار الساقي وترجمة صالح الأشمر.
وسيرا على عادته البحثية، قدم أوليفيه روا أطروحة متميزة خاصة، لتفسير ظاهرة تنامي الإرهاب في فرنسا والغرب، وسط الجيل الثاني المسلم والمتحول للإسلام. ومنذ البداية كشف أستاذ العلوم السياسية عما يعتبره الإشكالية الحقيقية للموضوع، معتبرا أن ربط قضية «الجهاد» بأحداث الشرق الأوسط والماضي الاستعماري، لا تصمد أمام الحقيقة الإمبريقية للبحث في سر التحول الواقع وسط الجيل الثاني من المسلمين المحبطين في الغرب. فالتغير الواقع هنا، ليس دينيا، ولا يرتكز أساسا على «العقيدة الدينية»، وإنما يتعلق بالسياسة، والتموقف من الواقع المعيش داخل المجتمعات الغربية، التي أصبح فيها الشباب المسلم مواطنا بالانتماء والولادة، ومغتربا في واقعها الذي يلفظه.
- إشكالية الموت والجهاد
علينا أن ندرك أولا، أن التحولات السوسيو - سياسية التي أفرزت الجيل الثاني من المسلمين ليست تطورا خطيا لارتباط شرطي بين الدين والإرهاب، وأن الربط بين الطرفين الذي تقوم به المقولات البحثية لبعض المختصين الغربيين في تنظيمات الإسلام السياسي هو مجرد تعبيرات جديدة عن الاستشراق القديم، وأن تقليديتها وعدم صلاحية هذه المقولات تتجلى في ارتكازها على كون السلفية، وتنامي التدين هو وراء الظاهرة الإرهابية في الغرب والشرق الأوسط.
بالنسبة لأوليفيه روا، فالأمر يحتاج إلى مقاربة تفسيرية عميقة، لمعرفة سر التحول نحو الراديكالية والعنف المثالي الذي يختزل الحياة في الموت الانتحاري. ولماذا يتحول أكثر من ألف و300 شاب فرنسي مراهق، ونحو 3 آلاف من المشتبه بهم، إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي، نافضين وراءهم الحياة الاجتماعية التي ولدوا فيه وتلقوا قيمها؟
ولبسط أطروحته يقول روا في هذا السياق: «يزعم أحد الباحثين أنني تجاهلت الأسباب السياسية للفوران، وأساسا الإرث الاستعماري والتدخّلات العسكريّة الغربية ضد شعوب الشرق الأوسط والإقصاء الاجتماعي للمهاجرين وأبنائهم. ومن الجهة المقابلة، تمّ اتّهامي بإهمال الرابط بين العنف الإرهابي وردكلة الإسلام من خلال السلفيّة بوصفها التأويل الأكثر محافظة للدّين. والحقّ أنني على وعي كامل بهذه الأبعاد، لكنني أقول ببساطة إنّها غير كافية لتفسير الظاهرة التي ندرسها، لافتقادها رابطا سببيا بالمعطيات الإمبريقية المتوفرة لدينا».
من الواضح كذلك أن الإرهاب الانتحاري، وإن كان يعبر عن راديكالية عدمية، فإنه لا يمنح تنظيم داعش خاصية التميز والتوحش. فمن زاوية التأريخ، فمقاتلو الحركة الانفصالية في سريلانكا «نمور التاميل» أول من استعمل الحزام الناسف منذ الثمانينات، قبل أن تتبناه «الجماعات الجهادية»؛ «القاعدة» و«داعش»، وتنقله «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية للتراب الفرنسي في عملية نفذها خالد كلكال سنة 1995.
من جهة أخرى، لا بد من تجاوز الخلط القائم بين التاريخ والواقع الحالي، وعلاقة التأثير والتأثر، بين أحداث الماضي وواقع الجيل الثاني المسلم أو المتحول للإسلام في الغرب اليوم. فأطروحة روا، ترى القول بأن «الراديكالية ناتجة عما مورس ضد المسلمين المستعمرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية أو أي شكل آخر من أشكال التمييز، أو القصف الأميركي، أو استعمال الطائرات من دون طيار، أو ظاهرة الاستشراق… إلخ، - ترى الأطروحة - أن كل ذلك يؤكد ضمنا أنّ الثورة يقودها الضحايا، لكن العلاقة القائمة بين الراديكاليين والضحايا خياليّة أكثر مما هي في حقيقة الواقع».
علينا أن نميز ثانيا، بين الإسلام وموقفه من القتال، وظاهرة «أسلمة الراديكالية»، فالربط هنا يبسط الأمور، ويمنحها طابعا آيديولوجيا يتهم الإسلام بالإرهاب، فيما يطلق عليه الغرب بـ«الإرهاب الإسلامي». وحتى ولو ربطنا الموضوع بالموجة الأصولية الحالية المتنامية منذ 40 سنة، فإن ذلك لا يقدم تفسيرا علميا لما نشهده من ردكلة للإسلام، واستدعائه بشكل جذري، ومسيس وسط الشباب المسلم بالغرب.
ما أطرحه يقول الخبير روا «هو أنّ الردكلة العنيفة ليست نتيجة الردكلة الدينية، حتى ولو سلكت في كثير من الأحيان الدروب نفسها أو استعارت النماذج نفسها. فالأصولية الدينية موجودة بالطبع، وهي تطرح مشكلات اجتماعيّة معتبرة، لأنّها ترفض القيم المؤسسة على الخيار الفردي والحرية الشخصية، لكنها لا تقود ضرورة إلى العنف السياسي».
هناك من يحاول تفسير ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، بمبررات اقتصادوية طبقية، ناتجة عن الثقافة العلمية للقرن التاسع عشر الميلادي، وهناك من يعطي للاغتراب والفشل الدراسي مكانة مركزية في التفسير. غير أن روا، ينتقد هذا الاختيار المنهجي، ويستند إلى مؤشرات رقمية وواقعية، حيث يعتبر أن «الذين ينفذون الهجمات في أوروبا ليسوا من قطاع غزة أو ليبيا أو أفغانستان، وليسوا بالضرورة الأكثر فقراً، والأكثر إهانة أو الأقل اندماجا اجتماعيا. فربع الجهاديين الذين تحولوا للإسلام حديثا وبعد ذلك أصبحوا جهاديين لا يمكننا الرابط بين راديكاليين و(شُعبهم) العلمية في الدراسة، بالعكس يعد ذلك الربط مجرد بناء خياليّ».
إن ما يجمع هؤلاء المتشددين في الحقيقة هو البحث عن قضية سياسية، تسهل استدعاء الدين، وممارسة الراديكالية والتمرّد باسمه على المجتمع وقيمه. فهؤلاء الإرهابيون لم يتخرجوا في المدارس الدينية الرسمية، ولا يعتبرون من مخرجات الخطاب الديني الرسمي، ولا هم نتاج تأطير للجماعات الإسلام السياسي المعروفة، ولجمعياتها المدنية في فرنسا والغرب. بل إن هذا الجيل الثاني، كيان مستقل عن ذلك كله، وعن «مؤسسة المسجد» وما يدور في فلكها، وهذه الاستقلالية في الحقيقة هي اختيار سياسي معزول عن السياق الديني الراسخ، والمعروف عند الأسرة والمجتمع والثقافة الإسلامية الأصيلة، التي انتقلت في الغرب من جيل إلى جيل، ونشهد اليوم نوعا من القطيعة المؤقتة بسبب «ردكلة الإسلام»، الذي يمثل «داعش» الحضن الرسمي له، من الناحية السياسية والدينية.
غير أنه يجب الإدراك أن هذه الموجة من الراديكالية الانتحارية هي مؤقتة، وأنها تستند إلى نمط من الإرهاب الانتحاري، الذي سيتغير مع تطور الزمن والواقع، وقد نشهد قريبا أشكالا أخرى من الممارسات «العنيفة»، أكثر «عقلانية» غير العمليات الانتحارية، بسبب تطور الأوضاع القائمة حاليا. ولو رجعنا للوراء لفهم هذا السلوك لوجدنا أن العقدين الأخيرين يمدان الباحث بنماذج كثيرة آخرها في منتصف غشت 2017، حيث شن 15 من الشباب هجوما إرهابيا بأسلوب الدهس بسيارة بمدينة برشلونة أسفرت عن مقتل 13 شخصا وإصابة أكثر من 100، وهجوم بلدة كامبريلس ومقتل شخص وإصابة 6 آخرين، كما سقط قتيل وأصيب 7 في الانفجار الذي وقع في مدينة الكانار.
وبالرجوع للتاريخ، نجد أن خالد كلكال في تفجير قطارات باريس عام 1995، وعملية محمد مراح، الذي قتل حاخاما وثلاثة أطفال في مدرسة يهوديّة بمدينة تولوز عام 2012، والشباب الذين قتلوا في هجوم مسرح الباتاكلان عام 2015، والهجوم المروع بباريس سنة 2016، أحداث كلها تؤكد أن جل الإرهابيين في فرنسا وأوروبا إما يفجرون أنفسهم وإما يقاومون إلى الموت، وهو ما يجعل من الموت مرجعية وغاية نهائية في «صفوف المتطرفين الملتحقين بتنظيم داعش، حيث ينظرون إلى الهجمات الانتحاريّة على أنّها الهدف النهائي لانخراطهم فيه».
- خلاصة
نشير في النهاية أن الخبير أوليفيه روا استفاد تحليليا من طرح المفكر الفرنسي الكبير أندريه مالرو، الذي سبق له وكتب عن البعد العدمي في فكر الشباب الأوروبي، حيث كتب مالرو يقول: «ما هو مصير هذا الشباب العنيف، الذي يحمل سلاحه ضد نفسه، والذي تحرر من كبرياء يجعله يسمى عظمة احتقاره لحياة لم يعد يعرف كيف يرتبط بها؟»
وربما هذه الاستفادة الفكرية هي التي دفعت بأستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية روا، إلى لخلاصة مهمة تختصر أطروحته، ورؤيته لتنامي ظاهرة شبابية انتحارية، تسعى بكل قوة لـ«أسلمة الراديكالية»، حيث يقول إن «تنظيم (داعش) لم يخلق الإرهاب بل هو ينهل من معين موجود بالفعل. وتكمن عبقريّة (داعش) في الطريقة التي يزود بها المتطوعين بإطار مخيالي سردي يمكّنهم من تحقيق تطلّعاتهم. ومن الأفضل للتنظيم أن يكون متطوّعوه للموت... من ذوي الارتباط الضعيف بالحركة، لكنّهم مستعدّون لإعلان ولائهم حتّى تغدو أعمالهم الانتحاريّة جزءا من سرديّة عالميّة».
- جامعة محمد الخامس - الرباط


مقالات ذات صلة

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».