سنوات السينما

هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس»
هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس»
TT

سنوات السينما

هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس»
هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس»

Paris‪,‬ Texas
(1984)
رحلة في الذات والماضي والغرب البعيد في الشمال الشرقي من ولاية تكساس الأميركية، هناك مدينة صحراوية صغيرة اسمها باريس. عدد سكانها اليوم يقل عن 30 ألف نسمة. في العام 1984 عندما صوّر الألماني فيم فندرز فيلمه «باريس، تكساس» كان عدد القاطنين في هذه المدينة لا يزيد، على الأرجح، عن خمسة عشر ألفاً.
كثيرون منا لم يسمعوا بباريس التكساسية قبل هذا الفيلم، ومثلهم من لم يسمع من قبل بالممثل هاري دين ستانتون، الذي توفي قبل أسبوعين عن 91 سنة، على الرغم من 201 ظهور له في السينما والتلفزيون من بينها 108 أفلام بدأت بأدوار صغيرة في أفلام وسترن أميركية سنة 1956.
الفصل الأول من هذا الفيلم (نحو ربع ساعة) مدهش: رجل (ستانتون) يمشي بخطى حثيثة في الصحراء. يمشي ولا يتوقف ليرتاح ولا ينظر حوله ليتأكد. يمشي كما لو خرج من منزله ليجتاز الشارع صوب الدكان المواجه لبيته على عجل. تتساءل: من هو؟ ولماذا هو؟ الإجابات تأتي لاحقاً من بعد أن يضع السيناريست (الممثل سام شيبرد) والمخرج فندرز هذه المقدّمة الحارة في المواجهة.
إنه رجل خسر ماضيه وحاضره هو تحديداً كما نراه: رحلة في صحراء الحياة. سيصل إلى ما يشبه البلدة الصغيرة ويعيش فيها لبعض سنين، ولن يعود لاحقاً إلا بإصرار من شقيقه وولتر (دين ستوكوَل) الذي وجده بعد عناء. مع عودته يبدأ بمحاولة لملمة نفسه وذكرياته وحياته من جديد، تلك التي هجرها مبعثرة.
رحلة هذا الرجل، واسمه ترافيز، كانت محاولته لنسيان كل شيء (رحلة ناجحة لأن الفيلم يقدمه كرجل نسي كل شيء فعلاً). أما عودته، فهي لكي يتذكر ما قرر أن ينساه: زوجته (ناستاسيا كينسكي) وابنه هنتر (هنتر كارسن). حين تفشل مهمّة النسيان يلتفت ترافيز إلى محاولة استعادة حياته المنهارة. ابنه يعيش مع أخيه وولت كما لو كان ابنه. زوجته اختفت ورحلته المقبلة هي البحث عنها، لأنه إذا ما وجدها استعاد ماضيه كله. وهو سينقب عنها ويجدها، لكنها في حال مختلفة تماماً كحال أي زوجة وهبت ذاتها للرجل الذي أحبّته لتكتشف أنه لا يستطع الحفاظ على هذا الحب.
في ذلك الحين كان المخرج فيم فندرز في أوج عطائه. كانت أميركا قد سحرته أدباً (حقق «هامِت» عن جزء من حياة الكاتب داشل هامِت) و«الصديق الأميركي» (عن رواية للكاتبة البوليسية باتريشا هايسمث) ومكاناً (في فيلمه الأول الذي تم تصويره فيها وهو «أليس في المدن»، 1974). وتستطيع، لو سنحت لك فرصة مشاهدة هذه الأفلام مجتمعة، كيف عمد إلى اختيار ممثليه الأميركيين للأدوار الأولى من غير طاقم النجوم: دنيس هوبر في «الصديق الأميركي» (1977) وفردريك فورست في «هامِت» (1982) ثم هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس» (1984).
كان هاري دين في الخامسة والثمانين من عمره. وكان أحد فيلمين فقط من بطولته المطلقة (الثاني هو فيلمه الأخير «محظوظ» الذي يفتتح بعد أسابيع قليلة). وهو دائماً ما شكا من أن الفرصة لم تتح له تمثيل أدوار أولى كثيرة كحال ممثلين آخرين تخصصوا في شخصيات غير نمطية (Character Actors) ونجحوا أكثر منه (كروبرت دوفال مثلاً).
لكن إذا ما كان «باريس، تكساس» نال نجاحاً وقيمة ماثلة إلى اليوم فإن بعض السبب يكمن في هذا الأداء المفعم بالثورة الداخلية وبذلك الشعور بأن الحياة قد تُهدر بسبب خطأ أو موقف غير محسوب.
أيضاً من دون إسهام الكاتب شيبرد الذي وضع التصوّر العام لهذه الشخصية انطلاقاً من أن رجلاً داوم الرحيل في الصحراء هرباً من دون اتجاه محدد لن يستطع استعادة ماضيه حتى ولو توقف عن الترحال.


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)
سينما «موعد مع بُل بوت» (سي د.ب)

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم.

محمد رُضا‬ (لندن)
يوميات الشرق فيلم «الحريفة 2» اعتمد على البطولة الشبابية (الشركة المنتجة)

«الحريفة 2» ينعش إيرادات السينما المصرية في موسم «رأس السنة»

شهدت دور العرض السينمائي في مصر انتعاشة ملحوظة عبر إيرادات فيلم «الحريفة 2... الريمونتادا»، الذي يعرض بالتزامن مع قرب موسم «رأس السنة».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق «صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

تعود أحداث فيلم «صيفي» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات.

أسماء الغابري (جدة)

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
TT

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)

RENDEZ‪-‬VOUS AVEC POL‪-‬POT ★★★

* إخراج: ريثي بَنه (فرنسا/ كمبوديا)

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم. ويُذكّر الفيلم أن الصحافة في تاريخها العريق، دائماً ما وجدت نفسها أمام مسؤوليات وتحديات عديدة. في هذا الفيلم الذي أخرجه ريثي بَنه عن الأحداث التي عصفت في بلاده سنة 1978 اقتباسات عن كتاب الصحافية إليزابيث بَكَر (Becker) وعن تجربتها بصفتها واحدة من 3 صحافيين دُعوا لمقابلة بُل بوت، رئيس وزراء كمبوديا وأحد قادة منظمة «الخمير الحمر» (Khmer Rouge) المتهمة بقتل ما لا يقل عن مليون و500 كمبودي خلال السبعينات. الصحافيان الآخران هما الأميركي ريتشارد دودمان، والأسكوتلندي مالكوم كالدويل.

لا يبدو أن المخرج اتّبع خُطى الكتاب كاملةً بل تدخّل بغايةِ ولوج الموضوع من جانب الحدث الذي وضع حياة الثلاثة في خطر بعدما جاءوا للتحقيق ومقابلة بُل بوت. في الواقع دفع الأميركي حياته ثمناً لخروجه عن جدول الأعمال الرسمي والتقاطه صوراً تكشف عن قتلٍ جماعي. وفي الفيلم لحظة مختصرة لكنها قاسية التأثير عندما يَلقى الصحافي حتفه غرقاً في نهر دُفع إليه.

الفرنسية إيرين جاكوب التي تؤدي شخصية الكاتبة بَكَر تُعايش بدورها الوضع بكل مأساته. تُفصل عن زميلها ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وتمر بدورها بتجربة مخيفة لم تكن تعلم إذا ما كانت ستخرج منها حية.

في باطن هذا الفيلم الجيد على تواضع إنتاجه، تُطرح أسئلة فيما إذا كان الصحافي يستطيع أن يقبل التحوّل إلى جزءٍ من البروباغاندا. وهل هو أداة لنقل الرأي الرسمي بغياب حرية التعبير؟ وماذا لو فعل ذلك وماذا لو لم يفعل؟

هو ليس بالفيلم السّهل متابعته من دون معرفة ذلك التاريخ ودلالاته حول العلاقة بين النُّظم الفاشية والإعلام. والحرية التي لا تُمنح لصحافيين محليين هي نفسها التي لا تُمنح كذلك للأجانب ما دام عليهم نقل ما يُقال لهم فقط.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

‪THE‬ WRESTLE‪R‬ ★★

* إخراج: إقبال حسين شودهوري (بنغلاديش).

يقترب الرجل المسن موجو (ناصر أودين خان) وسط أشجار ليست بعيدة عن شاطئ البحر وينتقل من واحدة لأخرى ماداً يديه إليها كما لو كان يريد أن يدفعها بعيداً أو أن يُزيحها من مكانها. ومن ثَمّ يتركها ويركض صوب أخرى ليقوم بالفعل نفسه قبل أن يعود إليها. يبعث هذا المشهد على تكراره سخرية غير مقصودة. قد تكون طريقة قديمة لممارسة تمارين المصارعة أو التدريب الوحيد المُتاح في تلك القرية، لكن موجو جادٌ في محاولته لدفع الأشجار إلى الخلف أو تغيير مواقعها، استعداداً لملاقاة مصارع أصغر منه سنّا وأكبر حجماً في المباراة المقبلة.

«المصارع» (أبلبوكس فيلمز)

هناك كثير مما يتأمله المخرج شودهوري بطيئاً قبل تلك المباراة وما بعدها. بعضُ المشاهد لديها نسبة معقولة من الشِّعر الناتج عن تصوير الطبيعة (ماء، أشجار، حياة... إلخ) وبعضها الآخر لا يفضي إلى تقدير خاص. في نصف الساعة الأولى يعكس المخرج شغفاً ما بتصوير شخصياته من الخلف. عندما يتخلى المخرج عن هذه العادة لاحقاً، يستبدل بتلك اللقطات سلسلة من المشاهد البعيدة عن شخصياته في الغالب. هنا يتحسّن تأطير اللقطات على نحوٍ نافع ولو أن شغله على الدراما يبقى غير ذي مكانة.

يطرح الفيلم مشكلة رجلٍ لا يريد الاعتراف بالواقع ويتحدى من هو أكثر قوّة منه. يحقّق طموحه بلقاء المصارع الآخر ويخفق في التغلب عليه. في الواقع يسقط أرضاً مغشياً ومن ثمّ نراه لاحقاً في بيت العائلة قبل أن يعود إلى تلك الأشجار ليصارعها. المخرج (ثاني فيلم له) طموح، لكن أدواته التّعبيرية وإمكانياته التي تفرض نفسها على السيناريو وحجم الفيلم بأسره، محدودة.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

ONE OF THOSE DAYS WHEN HEMME DIES ★★★

* إخراج: مراد فرات أوغلو (تركيا).

قرب نهاية الفيلم يبدأ الشاب أيوب مراجعة ما مرّ به طوال اليوم. لقد انطلق غاضباً من المُشرِف على العمل عندما شتم أمّه. يعمل أيوب في حقلٍ لتجفيف الطاطم. ويعرف المخرج كيف يوظّف المكان، درامياً (سهل منبطح تحت شمس حامية وصعوبة العمل)، وجمالياً (تلك الثمار المقطوعة إلى نصفين والملقاة فوق شراشف على مد النظر).

«أحد تلك الأيام التي مات فيها هيمي» (مهرجان مراكش)

نقطة الخلاف أن أيوب يُطالب بأتعابه، لكن المُشرف على العمل لم يتقاضَ المال بعد ليدفع له، مما يؤجّج غضب أيوب فينشب شجار بينهما. يركب دراجته النارية وينطلق صوب بلدته. في منزله مسدسٌ سيتسلّح به وفي البال أن يعود لينتقم. معظم الفيلم هو رحلة على الدراجة التي تتعطل مرّتين قبل إصلاحها عند المساء. الأحداث التي تقع على الطريق وفي القرية الصغيرة تُزيّن الموضوع بشخصيات تدخل وتخرج من الحدث الرئيسي الماثل. في أحد هذه الأحداث الثانوية يُساعد أيوب رجلاً عجوزاً اشترى بطيخة ولا يستطيع حملها، فيوصله والبطيخة إلى داره. وفي مشهد آخر يستمع لتوبيخ زوج شقيقته لأنه كان عرض عليه العمل في شركته ورفض. لا يقول لنا الفيلم لماذا رفض ما ينتقص من بنية الموضوع وأسباب عزوف أيوب على تنفيذ وعده لنفسه بالانتقام.

اعتمد المخرج هذين المشهدين وسواهما لملء الوقت الممتد بين عزم أيوب على الانتقام وعزوفه عن ذلك. لكنه هذه المشاهد ضرورية رغم أن الفيلم ينتهي من دون أن يبني حجة دامغة لقرار أيوب النهائي. هذا الفيلم دراما مصوّرة جيداً ومكتوبة بدراية، رغم الهفوات المذكورة.

* عروض حالياً في مهرجان «مراكش»

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز