سبب التعب الروحي للإنسان المعاصر

TT

سبب التعب الروحي للإنسان المعاصر

إن التصور العلمي للعالم، وهو التصور الحداثي نفسه، قد وضع البشرية في تناقض يزداد حدة يوماً بعد يوم، وذلك للسبب الآتي: إن مجتمعنا الذي تعد المجتمعات العلمية نموذجاً له، يزداد شكاً في مسألة الحقيقة، فمن جهة هناك تمسك شديد بالصدق، فلا أحد أصبح يريد أن يُخدع، فهناك رغبة ملحة في عدم تصديق الظواهر بشكل غفل وبطريقة عفوية، دون تمحيص أو تدقيق، وهو ما يخلق جواً من الحذر الذي أصبح معمماً في كل شؤون الحياة.
لكن بجانب هذه الرغبة الحثيثة في الصدق ورفض المرء أن يكون مغفلاً، يوجد أيضاً عدم اطمئنان في الحقيقة عينها المتحصل عليها؛ لأنها حقيقة قابلة للتكذيب دوماً، وهو أمر يشوش على الرؤية، خاصة عند العموم من الناس، أو الشعوب التي لم تتدرب بعد على التنازل عن اليقينيات.
إذن نحن أمام مفارقة غير متوقفة، والتي تتجلى في سيادة حالتين: الأولى مرتبطة بالتمسك المفرط بالصدق، إذ لا تقبل الفكرة إلا إذا كان الدليل الملموس الأرضي لها وليس المفارق، والثانية الشك في النتيجة نفسها المتحصل عليها. وهو الأمر الذي خلق اضطراباً لدى الإنسان المعاصر، الذي أصبح يعيش أجواء نقدية باستمرار، وقد يبدو الأمر إيجابياً؛ لكنه في الآن نفسه يفقد المرء السلامة والأمان الوجودي، ما دام أن الحقيقة المبحوث عنها مشكوك فيها ولا أمل في يقين ثابت يرتكن إليه.
إن العلم يسكن عالماً نسبياً باستمرار، ويقاوم أي التزام نهائي بحل قطعي، فهو في تركيبته ضد اليقين، ولا يراهن إلا على المردودية على أرض الواقع، والأجوبة الظرفية العابرة التي يمكن التنازل عنها بسهولة وبروح رياضية عالية. إنه يحتضن الاحتمالية والنسبية في أعلى مستوياتها، ويتقبل التغير والتقدم دون توقف، الأمر الذي أفرز لنا إنساناً عاجزاً عن خلق الصلابة لنفسه، وجعله يتهاوى إلى حالة من التعب الروحي، التي من أعراضها البارزة التشاؤم والشعور بالعذاب والريبة الدائمة، واليأس من إيجاد خلاص.
ولعل من أهم إفرازات هذه الرؤية العلمية، نجد فكرة الليبرالية الداعية إلى الحرية والإيمان بالتسامح، من منطلق أن لا أحد يمكنه الجزم والقطع في امتلاكه للحقيقة، فالمجتمعات التي حسمت الحقيقة دمر بعضها بعضاً. فالحداثة إذن ذات الجذور العلمية التي أفرزت الليبرالية تؤكد على أنه من الأفضل خلق فرد متحير وقلق ولكنه غني وحي، من أن يكون على يقين وهو ميت وفقير. أو لنقل إن الحداثة، أي التصور العلمي للعالم، قد خلق لنا عالماً فاتراً وجافاً وقاسياً ورياضياً؛ لكن مع عزة النفس والإحساس بالبطولة والقدرة على الفاعلية، والتحلي بسمة الاستقلال في مواجهة الوجود وبجرأة عالية، في مقابل التصورات القديمة التي كانت تضمن الدفء والسكينة والوثوق، وتربط الفرد بكل تفاصيل الكون، في علاقة حميمية ومتناغمة؛ لكن بثمن هو الانفعال والخضوع والاستسلام والرضوخ للحتميات. بحق، لقد وضعتنا الحداثة في مأزق لا نحسد عليه أبداً.
إن الحداثة هي زمن اللاثبات والدينامية والحركة الدائبة، وإزاحة المطلقات، زمن اللاوثوق في الجاهز، وتهميش كل ما ليس له دليل موضوعي، الأمر الذي دفع الكثير إلى ربط الحداثة بصفة «الدنيوي واللائكي».
إن العلم، وإن كان مغرياً وجذاباً، ومحققاً للنجاحات تلو النجاحات، فهو أحياناً من القسوة إلى درجة رفضه؛ لأنه يزعزع كل المألوف الذي استكانت له البشرية إلى درجة التخدير. فالعلم نظراً لعقلانيته المفرطة وبحثه عن الأدلة الملموسة وسعيه نحو التكميم وعدم قبوله بالأجوبة الماورائية، يسحق ويحرج ويهزم ويهدد الثوابت، ويقحم الإنسان في حركية الحقيقة، وهو ما لا يريده الإنسان.
إنك حينما تعلن أنك حداثي، فهذا يعني بالطبع أنك ستفكر علمياً، وثمن ذلك باهظ جداً، وهو ضرب الطمأنينة التي كانت توفرها أنساق التفكير ما قبل الحداثية، الهادئة والمريحة، والتي تفوض أمرها إلى قوى تتجاوزها، على خلاف الرؤية العلمية التي يتكلف فيها العلماء بالبحث عن الحقيقة بالإمكانات الإنسانية الخالصة، وبالمواجهة وجهاً لوجه مع العالم، دون الارتكان لأي قوى مفارقة. وهي في الحقيقة مغامرة وجرأة؛ بل ادعاء، فأن يتحمل الإنسان المسؤولية لأمر متعب جداً، أن يعلن الإنسان الحداثي، الذي يعد العالم هو نموذجه الأمثل، الاستقلال في السعي نحو الحقيقة. إنه كالسفر الطويل بمؤونة قليلة. ولكن كما نعلم لا يمكنك أن «تحصل على الجبن ونقود الجبن معاً». إن الانخراط في الحداثة، أي في الرؤية العلمية للعالم، ليس كله عسلاً وورداً، بل هو شوك وعلقم أحياناً.

- كاتب مغربي



«العلاقات المشوهة» تجلب الانتقادات لصناع «وتر حساس» في مصر

لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)
لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)
TT

«العلاقات المشوهة» تجلب الانتقادات لصناع «وتر حساس» في مصر

لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)
لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)

تعرَّضت بطلات المسلسل المصري «وتر حساس»، الذي يُعرَض حالياً، لانتقادات على «السوشيال ميديا»؛ بسبب ما وصفها البعض بـ«علاقات مشوهة»، ووصل الأمر إلى تقدم نائبة مصرية ببيان عاجل، طالبت خلاله بوقف عرض المسلسل.

وأثار العمل منذ بداية بثه على قنوات «ON» جدلاً واسعاً؛ بسبب تناوله قضايا اجتماعية عدّها مراقبون ومتابعون «شائكة»، مثل الخيانة الزوجية، والعلاقات العائلية المشوهة، وطالت التعليقات السلبية صناع العمل وأداء بطلاته.

وقالت النائبة مي رشدي، في البيان العاجل: «إن الدراما تعدّ إحدى أدوات القوة الناعمة في العصر الحديث، لما لها من دور كبير ومؤثر في رسم الصورة الذهنية للمجتمعات والشعوب سلباً أو إيجاباً لسرعة انتشارها، وهي انعكاس ومرآة للمجتمع».

وأضافت: «هناك عمل درامي (وتر حساس) يُعرَض هذه الأيام على شاشات القنوات التلفزيونية، يحتاج من المهمومين بالمجتمع المصري إلى تدخل عاجل بمنع عرض باقي حلقات هذا المسلسل؛ لما يتضمّنه من أحداث تسيء للمجتمع المصري بأسره؛ فهو حافل بالعلاقات غير المشروعة والأفكار غير السوية، ويخالف عاداتنا وتقاليدنا بوصفنا مجتمعاً شرقياً له قيمه الدينية».

وتدور أحداث المسلسل، المكون من 45 حلقة، حول 3 صديقات هن «كاميليا» إنجي المقدم، وابنة خالتها «سلمى» صبا مبارك، و«رغدة» هيدي كرم، وتقوم الأخيرة بإرسال صورة إلى كاميليا يظهر فيها زوجها «رشيد»، محمد علاء، وهو برفقة مجموعة فتيات في إحدى السهرات، في حين كانت «كاميليا» تشك في زوجها في ظل فتور العلاقة بينهما في الفترة الأخيرة.

صبا مبارك ومحمد علاء في مشهد من المسلسل (قناة ON)

بينما تغضب «سلمى» من تصرف «رغدة» وتؤكد أنها ستكون سبباً في «خراب بيت صديقتهما»، وعند مواجهة كاميليا لزوجها بالصورة ينكر خيانته لها، ويؤكد لها أنها سهرة عادية بين الأصدقاء.

وتتصاعد الأحداث حين يعترف رشيد بحبه لسلمى، ابنة خالة زوجته وصديقتها، وتتوالى الأحداث، ويتبدل موقف سلمى إلى النقيض، فتبلغه بحبها، وتوافق على الزواج منه؛ وذلك بعد أن تكتشف أن كاميليا كانت سبباً في تدبير مؤامرة ضدها في الماضي تسببت في موت زوجها الأول، الذي تزوجت بعده شخصاً مدمناً يدعى «علي»، وأنجبت منه ابنتها «غالية».

وتعرف كاميليا بزواج سلمى ورشيد، وتخوض الصديقتان حرباً شرسة للفوز به، بينما يتضح أن الزوج الثاني لسلمى لا يزال على قيد الحياة، لكنه كان قد سافر للخارج للعلاج من الإدمان، ويعود للمطالبة بابنته وأمواله.

ويتعمّق المسلسل، الذي يشارك في بطولته لطيفة فهمي، ومحمد على رزق، وأحمد طارق نور، ولبنى ونس، وتميم عبده، وإخراج وائل فرج، في خبايا النفس الإنسانية، وينتقل بالمشاهدين إلى قضايا اجتماعية مثل فكرة الانتقام، والتفريط في الشرف، وتدهور العلاقات بين الأقارب، وصراع امرأتين على رجل واحد.

وتعليقاً على التحرك البرلماني ضد المسلسل، عدّ الناقد المصري محمد كمال أن «الأمر لا يستدعي هذه الدرجة من التصعيد». وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن العمل بالفعل مليء بالعلاقات المشوهة، التي لا تقتصر على الخيانة الزوجية، وإنما تمتد إلى خيانة علاقة الأقارب والأصدقاء فيما بينهم؛ فيظهر معظم أبطال العمل غير أسوياء، فالشخصية الرئيسة الثالثة في العمل (رغدة) تخون أيضاً صديقتيها سلمى وكاميليا، وكل ما تسعى وراءه هو جني المال، والإساءة إليهما!».

ويتابع كمال: «فاجأتنا الأحداث كذلك بأن طليق سلمى، ووالد ابنتها كان ولا يزال مدمناً، وكان قد عقد اتفاقاً معها في الماضي بتزوير أوراق تفيد بوفاته؛ كي يثير شفقة والده، ويكتب ثروته بالكامل لابنته غالية، ويسافر هو للعلاج، مع وعدٍ بأنه لن يرجع، وهو جانب آخر من الأفعال المنحرفة».

كاميليا وسلمى... الخيانة داخل العائلة الواحدة (قناة ON)

ويتابع: «وهكذا كل شخوص المسلسل باستثناءات قليلة للغاية، فهناك مَن اغتصب، وسرق، وخان، وقتل، وانتحر، لكن على الرغم من ذلك فإني أرفض فكرة وقف عمل درامي؛ لأن المجتمعات كلها بها نماذج مشوهة، والمجتمع المصري أكبر مِن أن يمسه أي عمل فني، كما أن الجمهور بات على وعي بأن ما يراه عملٌ من خيال المؤلف».

ويرى مؤلف العمل أمين جمال أن «المسلسل انعكاس للواقع»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن قضية احتدام الصراع أصبحت سمة غالبة على علاقات البشر عموماً، وموجودة في العالم كله، ولا يمكن أن تنفصل الدراما عن الواقع».

وتابع: «المسلسل يأتي في إطار درامي اجتماعي مشوق، لذلك نجح في أن يجتذب الجمهور، الذي ينتظر بعد عرض كل حلقة، الحلقة الجديدة في شغف، ويظهر ذلك في تعليقات المشاهدين على (السوشيال ميديا)».

وأشار إلى أنه «بالإضافة لتقديم الدراما المشوقة، في الوقت نفسه أحرص على تقديم رسائل مهمة بين السطور، مثل عدم الانخداع بالمظهر الخارجي للعلاقات؛ فقد تكون في واقع الأمر علاقات زائفة، على الرغم من بريقها، مثل تلك العلاقات التي تجمع بين أفراد العائلة في المسلسل، أو العلاقة بين الصديقات».

من جهتها، هاجمت الناقدة الفنية المصرية ماجدة خير الله المسلسل، وتساءلت في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «لماذا هذا الحشد لذلك الكم الكبير من الخيانات بين الأزواج والأصدقاء والأقارب؟»، وقالت: «لست ضد أن تعرض الدراما أي موضوع أو قضية من قضايا المجتمع، على أن تقدم معالجة فنية بها قدر من التوازن بين الأبعاد المختلفة، لا أن تقتصر على جانب واحد فقط».

وعن القول إن العمل يقدم الواقع، تساءلت ماجدة: «هل هذا هو الواقع بالفعل؟ أم أن الواقع مليء بأشياء كثيرة بخلاف الخيانات وانهيار العلاقات بين الناس، التي تستحق مناقشتها في أعمالنا الدرامية، فلماذا يختار العمل تقديم زاوية واحدة فقط من الواقع؟».

وعدّت «التركيز على التشوهات في هذا العمل مزعجاً للغاية، وجعل منه مسلسلاً مظلماً».