سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

أضواء على شخصيته بمناسبة اليوم الوطني السعودي

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود
TT

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

من منظور هاوٍ للتاريخ لا متخصّص فيه، يُكتب هذا المقال بمناسبة اليوم الوطني السعودي، الذي تحل ذكراه في الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول)، للحديث عن هذا العَلَم المخضرم، الذي يجمع بين كونه أميراً ومؤلّفاً لكتاب لعله الوحيد في موضوعه التاريخي لأحد أفراد الأسرة المالكة صار يُطلق عليه «مؤرِخ آل سعود» واستمرّ المؤرّخون يقتبسون منه مما زاد من أهميّته مع مرور السنوات، وتمكّن مؤلّفه قُبيل وفاته عام 1983 من إعادة إصداره وإضافة الأحداث التي جدّت عليه منذ طبعته الأولى، كاعتداء جهيمان على المسجد الحرام (20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979)، والكتاب في 425 صفحة، من تقديم الموسوعي محمد ناصر العبودي.
فضلاً عمّا يُعرف عنه من البساطة في عرض محتوى كتابه، ومن رغبته كما ذكر في المقدمة بتسجيل التاريخ دون زيادة أو نقصان، فإنه لم يتبع المنهج التقليدي السردي الذي سار عليه المؤرّخون الأوائل، واعتمد على أبرز المراجع المتاحة في حينه، وعلى السماع من المعمِرين الذين أدركهم في حياته، وقد عاصر وشارك في بعض الأحداث المتأخّرة التي يُعدّ مرجعاً أوّليّاً فيها، وكان مما انفرد بإيراده مثلاً في طبعته الأولى تفاصيل حادثة اعتداء ثلاثة يمنيين في الحرم المكّي الشريف على الملك عبد العزيز، وولي العهد الأمير سعود (حج عام 1935) وكان المؤلّف شاهد عيان للحادثة.
أدرك من خلال الإطار الزمني الذي عاشه، معظم جيل التأسيس الأول الذي صنع الأحداث أو شارك فيها، أو روى أخبارها عن قرب، وزعماء القبائل وشخصيّات المجتمع، ورجالات الأسرة الحاكمة ومنهم الإمام عبد الرحمن والد الملك المؤسّس عبد العزيز وإخوانه وأنجالهم، وناصر بن سعود بن فرحان (ت 1930 تقريباً) وعبد الله بن جلوي (ت 1935) وعبد العزيز بن عبد الله بن تركي (ت 1936) وسعود بن عبد العزيز (الملقّب بسعود الكبير ت 1959) وسلمان بن محمد (ت 1974) وعبد العزيز بن مساعد بن جلوي (ت1977).
كان شخصيّة اجتماعيّة، ودوداً محبّاً لمجالسة الناس ومعرفة أحوالهم، ملمّاً بقبائل الجزيرة العربيّة وجغرافيّتها وتاريخها المعاصر، والتقى المؤرّخين السعوديين والأجانب الزائرين من جيله، ولم ينفرد بما كتب فاتّخذ من العارفين بالتاريخ الشفوي والمكتوب من استشارهم من أمثال محمد العبودي وعبد الرحمن الرويشد (ت 2016) ممن لهم إحاطة مشهودة بالتاريخ الوطني والاجتماعي السعودي الحديث، وهي جميعاً عوامل رغّبته مجتمعة بالاهتمام بكتابة التاريخ.
في تقديمه للكتاب، استعاد العبودي مقولة للعلّامة حمد الجاسر بأن «أكثر الذين كتبوا في تاريخ الجزيرة العربيّة وفِي التاريخ السعودي على وجه الخصوص، هم من الأجانب» ولذلك احتفى العبودي بتصدّي المؤلّف لمهمّة التأريخ لبلاده، مستفيداً من معرفته بمجريات الأمور وبظروف المجتمع وأسماء المواقع والقبائل والزعامات السياسيّة المجاورة، وأثنى على نهجه في رصد الحوادث وتحليل أسبابها ونتائجها وفق الأسلوب الحديث في تدوين التاريخ.
وَمما امتاز به جهده، الجمع بين ميدانين رئيسيين في دراسات التاريخ هما؛ سرد الأحداث وروايتها، وسيَر الشخصيّات التي صنعتها، حيث أرّخ لأبرز مفاصل الدولة منذ قيامها قبل ثلاثة قرون، في حين خصّ حكّامها كما يدلّ عليه عنوان الكتاب، بنُبذٍ مرجعيّة من تراجمهم.
كان فيلبي من المؤرخين الغربيين الذين التقوا به، واستفاد من وثائق يقتنيها، وأثنى عليه في كتابه (الذكرى العربيّة Arabian Jubilee 1951) وقال «إنه كنز ثمين للمعلومات النافعة، وبخاصة بالنسبة للغموض الذي يتعلق بفروع الأسرة التي ينتمي هو نفسه إلى أحدها» وكان العلّامة حمد الجاسر، ممن اطلع على الكتاب بعد صدور طبعتيه، واستشهد به في بعض قراءاته التاريخيّة ومطالعاته لكتب الباحثين، وكان مما قاله عنه «والأمير سعود (1906 - 1983) له مؤلَّف دعاه (تاريخ ملوك آل سعود) نُشر سنة 1960 في طبعته الأولى، انتهى فيها إلى ذِكْر وفاة الملك المؤسس عبد العزيز صباح يوم الاثنين، التاسع من نوفمبر 1953 وأشار إلى تولّي الملك سعود وانتهى، ثم أصدر طبعته الثانية عام 1982 بإضافاتٍ كثيرة، انتهى فيها إلى ذِكْر حوادث سنة 1980 ومع أن المؤلِّف اعتمد كثيراً على مَن تَقَدَّمَه، إلا أنَّ لإضافاته المتعلِّقة بحياة الملك المؤسس محلَّها لدى المعنيين بالتاريخ، لكونه من أسرته ولمعاصرته له ولأنه من مرافقيه ورجال دولته».
التقاه كاتب المقال مرّات عدة، كانت أولاها عام 1964 حينما كان أميراً لمنطقة القصيم، وسجل معه حديثاً إذاعياً عُرض
في حينه وتلقّى منه يومذاك الطبعة الأولى من كتابه، وأجرى معه عام 1977 لقاءً تلفزيونيّاً مطوّلاً (ما زال محفوظاً) وكان في تلك الأيام قد أنهى إضافات كتابه، وروى في اللقاء الكثير من الذكريات عن سيرة الملك عبد العزيز، وعن جملة من الحوادث التي شهدها أو شارك فيها، والتحدّيات التي واجهها تأسيس السعودية من القوى الإقليميّة المناوئة، وذكر أسماء عدد ممن أسهموا في تأسيس الدولة، وأثبت ما تأكّد لاحقاً من أن إجمالي من اعتلى سور الرياض مع الملك عبد العزيز أربعون فارساً، توفّي آخرهم وهو الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوي عام إجراء المقابلة (1977) ومعهم عشرون مرافقاً.
واستعرض جزءاً من سيرة الملوك الثلاثة سعود وفيصل، وخالد الذي حصل التسجيل في عهده، وكشف الحديث اطّلاعه على كتب المؤرخين، وبخاصة خير الدين الزركلي (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، أربعة أجزاء) ومنير العجلاني (تاريخ البلاد العربيّة السعودية، خمسة أجزاء) وعبد الله محمد البسّام (تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق) ومحمد أمين التميمي واضع نواة مشجّرة العائلة المالكة وتحدّث عن مخطوط التميمي في التاريخ، ربما قصد بها مذكّراته الشخصية التي دوّنها بعنوان (لماذا أحببت ابن سعود؟) وأهداها إلى الملك عبد العزيز أثناء زيارته لمصر (1946) ونشرتها دارة الملك عبد العزيز (1999) وتحدّث عن شاعريّة الإمام تركي بن عبد الله آل سعود مؤسّس الدولة السعودية الثانية (ت 1843) مُستشهداً بقصيدته المعروفة:
طار الكرى من موق عيني وفرا وفزيت من نومي، طرا لي طواري
كما أشاد بقريحة الشاعر الشعبي محمد عبد الله العوني (ت1923) صاحب الملحمة (المطوّلة) الشعريّة التي وثّق بها توحيد السعودية ووصفه بـ«متنبّي زمانه» بالنسبة للشعر النبطي، واستشهد بالأُهزوجة المشهورة التي نظمها قُبيل وقعة الشنانة (قرب الرسّ 1904) وما تزال تُستعاد في العرضات الوطنيّة:
منّي عليكم ياهل العوجا سلام واختصّ أبو تركي عمى عين الحريب
وتعبير «العوجا» يُقصد به الدرعيّة (العاصمة الأولى للدولة السعودية) يَرِد كثيراً في الشعر النبطي وفي بعض الفصيح، و«أبو تركي» كُنية الملك عبد العزيز، فتركي أكبر أبنائه (شقيق الملك سعود) ولد عام 1900 يسمى تركي الأول، ولّاه إمارة القصيم وعمره سبعة عشر عاماً، وهو أول حاكم إداري من أبناء الملك المؤسّس يتولّى إمارة إقليم، وتوفي سنة 1919 في وباء الحمّى الإسبانيّة التي أصابت شبه الجزيرة العربيّة، وسُميت «سنة الرحمة».
وقال إنه يتذكّر في طفولته زيارة الكابتن الإنجليزي ويليام شكسبير عام 1915 قادماً من مقر عمله السياسي في الكويت، في عام معركة «جراب» التي رغب أن يحضرها فقُتل فيها (وجراب موقع شمال العاصمة على مقربة من المجمعة والزلفي) وتطرّق في المقابلة إلى علاقة نجد مع الأتراك، وإلى تأسيس السعودية في مرحلتها الثالثة المعاصرة ورجالاتها، وقصة تجريد الأحساء والقطيف من الترك، واستخلاص شمال القصيم من موالاة أمير حائل ابن رشيد،
وأتى في حديثه على ذكر بعض من عمل في معيّة الملك من أمثال عبد الله السليمان الحمدان وأخيه حمد السليمان وعبد الله المحمد الحمدان (أبو عليوي) ومحمد بن دغيثر وعبد الرحمن بن زيد ومحمد بن شلهوب وعبد الله بن نفيسة (عمعوم) وعبد الرحمن الطبيشي وإبراهيم بن جميعة وفهد بن معمّر وفيصل بن حشر ومحمد بن سحمي بن حشر (وهما من آل عاصم من قحطان) ومشاري بن بصيّص (من برية من مطير) ومهدي بيك المصلح (أول مدير للأمن العام). ومن بين من خصَهم بالذكر والإشادة بتاريخهم من القادة؛ الشريف خالد بن منصور بن لؤي العبدلي أمير الخرمة قديماً (ت 1932) ومحمد بن هندي شيخ قبيلة عتيبة آنذاك (ت 1933) والمقابلة ثريّة بمعلومات ضيفها واطّلاعه، أُتيحت قبل أسابيع على قناة اليوتيوب بعد مرور أربعين عاماً على إجرائها وحظيت بكثافة المشاهدة.
شخصيّة المقال، هو سعود بن هذلول (من فرع آل الثنيان) يتّصل مع فروع الأسرة الحاكمة في جدّها الأول سعود بن محمد بن مقرن والد مؤسس إمارة الدرعيّة (الدولة السعودية الأولى) ووالده هو هذلول بن ناصر بن ثنيان، المقتول عام 1906 في «روضة مهنّا» في منطقة القصيم، وهي معركة مبكّرة فاصلة وقعت بين أمير نجد آنذاك (الملك) عبد العزيز وأمير حائل حينئذ عبد العزيز بن متعب بن رشيد الذي تُوفّي فيها.
وُلد عام 1906 (تاريخ ولادة الملك فيصل، شريكه في الرضاعة) بُعيد مقتل والده، حضر الأواخر من غزوات حقبة التأسيس، ومنها معركتا «السبلة والدبدبة 1929» والمناوشات مع اليمن عام 1934 في عهدي الملك عبد العزيز والإمام يحيى حميد الدين، وتولّى إمارة المنطقة الشماليّة الغربيّة (تبوك ثم ينبع) في عهد الملك عبد العزيز، وإمارة منطقة القصيم في عهد الملك سعود، وتوفي عن ثمانية وسبعين عاماً ميلادياً، مخلّفاً - بحسب المؤرّخ الرويشد - ثلاثة عشر ولداً من الأبناء وعشراً من البنات.
*إعلامي وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».