«ميوزيسيتي»... مشروع جديد يمنح المعالم اللندنية معاني موسيقية

متعة البحث عن الألحان في مباني العاصمة

«بورو ماركت» بوسط لندن
«بورو ماركت» بوسط لندن
TT

«ميوزيسيتي»... مشروع جديد يمنح المعالم اللندنية معاني موسيقية

«بورو ماركت» بوسط لندن
«بورو ماركت» بوسط لندن

في «بورو ماركت» الشهير بوسط لندن توقفنا مجموعة صغيرة من الإعلاميين، سارع كل منا بوضع السماعات على آذاننا لنسمع قطعة موسيقية كتبت خصيصا من وحي السوق، ليتغير معها الإحساس بالمكان وتلبس السوق حلة جديدة قوامها المكان وزحامه وبسطات البائعين ورائحة المأكولات المختلفة، كل ذلك مضاف إليه نغمات موسيقية مميزة تستحضر روح المكان. يبدو الأمر غريبا، وإن كان المارة والمتسوقون لم يتوقفوا كثيرا أمام مجموعة من الرجال والنساء يضعون سماعات على آذانهم ويتأملون تفاصيل المكان حولهم، ففي العصر التقني الذي نعيش فيه، أصبح كل شيء ممكنا.
ولكن لنعد قليلا للوراء وللتوضيح، فالموضوع برمته مشروع طموح أعده نيك لاسكومب وبول بافستر لخلق وسيلة جديدة للربط بين الموسيقى والمعمار.
فحسب ما يقول نيك في مقالة على موقع «ميوزيسيتي» الإلكتروني «فكل من التصميم المعماري والموسيقى له منهجية خاصة به»، ورغم أن نيك يستشهد بمقولة الفيلسوف الألماني غوته في وصف المعمار بأنه «موسيقى متجمدة»، فإنه يعترف بأنه كان كثير التفكير في ماهية المعمار أو الموسيقى بشكل مجرد، فالمباني جامدة وحاضره أمامنا، نراها ونلمسها بينما الموسيقى على العكس لا يمكن رؤيتها ولا لمسها؛ فهي تعمل في إطار مختلف تماما. ولكن نيك وجد الرابط بينهما، مشيرا إلى أن اختراع جهاز مشغل الموسيقى «والكمان» كان طريقة لسماع الموسيقى طوال الوقت، خلال المشي والتجول.
بول بافستر، وهو معماري مشارك في المشروع، يأخذ المجموعة معه لبعض الأماكن التي يمكننا فيها سماع الموسيقى، يقول: إن في منطقة «سوذارك» بوسط لندن يوجد أكثر من بقعة يمكننا التوقف فيها وتحميل قطعة الموسيقى التي كتبت خصيصا لهذا المكان: «الموسيقى هنا تربطك مع ما حولك تسمعين الموسيقى في هذا المكان بالتحديد، لست جالسة في مقعدك المريح بالمنزل بينما تشغلين قطعة الموسيقى على جهاز اللابتوب... لا... يجب أن تخرجي من بيتك لسماع المقطوعة في المكان الذي استوحيت منه، يجب أن تفكري بها وأن تشغل حواسك». يشير إلى أن مشروع «ميوزيسيتي» كان من تكليف نيك وبدعم من بلدية «سوذارك» فيما يبدو كطريقة مبتكرة لجذب السياح والزوار عامة للمنطقة العتيقة.
بافستر يشير إلى أنه كان دائما مأخوذا بالعلاقة ما بين المكان والموسيقى: «ليست فكرة جديدة، فموزارت على سبيل المثال كان يؤلف قطعه الموسيقية ويعزفها في مكانه»، بالنسبة لي كمعماري الجمع بين الموسيقى والمعمار هو وسيلة للربط بينهما: «ولمعايشة شوارع العاصمة بطريقة جديدة».
يرى أن المشروع قد يكون وسيلة لإخراج المارة من القواقع التي تحيطهم: «انظري حولك، كثيرون يضعون سماعات على آذانهم يسمعون من خلالها الأغاني والموسيقى التي يحبونها، لكنهم مفصولون عما يدور حولهم». يبدو تفسير بافستر منطقيا، فبدلا من أن يسمع المشاة الموسيقى الخاصة بهم والتي تفصلهم عن ما يدور حولهم والأماكن التي يمشون فيها، يمكنهم عبر تحميل قطع الموسيقى الخاصة بكل منطقة والموجودة على موقع «ميوزيسيتي»، من الجمع بين السماع وبين التعايش مع ما يدور من حولهم.
لكن يبدو أن المشروع لن يخرج المشاة من قوقعتهم بالكامل، فهم سيظلون مشدودين للسماعات على الآذان، وأيضا غير متعاملين مع البشر حولهم، يجيبني على اقتراح بأن الأمر قد يجذب المشاة أكثر إذا تمت إذاعة الموسيقى الخاصة بكل مبنى أو منطقة من خلال مكبرات الصوت، ويقول: «لن يكون هذا سهلا، وعموما نحن لا نزال في البداية».
في سوق «بورو ماركت» نتوقف لنسمع قطعة الموسيقى الخاصة بهذا المكان، يشير نيك إلى أنه لن يمكننا سماعها في مكان آخر، وذلك حسب البرمجة الخاصة بالتطبيق. أجدني أستمع للموسيقى التي تسري من السماعات بينما أحاول أن ألم بتفاصيل السوق حولي، إحساس غريب ينتابني وكأن الموسيقى تخرج من الأعمدة ومن السقف، وكأنها تروي لنا ما يجري في هذه السوق على مدار اليوم من ضجيج وحركة وأصوات متباينة، ولحظات هدوء نادرة. أنقل لبول ونيك إحساسي، يعلق نيك: يجب أن تأتي لهذه البقعة لتسمعي الموسيقى ولتكوني أقرب للفنان ومشاعره وإحساسه بالمكان نفسه».
من «بورو ماركت» نمشي لنصل إلى مبنى «ذا شارد» الزجاجي العملاق، هناك قطعة موسيقى أخرى يمكننا تحميلها هنا، قبلها يشير بول إلى أن المؤلف الموسيقي زار القاعة التي يتم فيها بيع التذاكر وقام بعمل مسح صوتي بتقدير الصدى وغيره من العناصر. يشير بول إلى أن القاعة أوحت للمؤلف ببناء الكنيسة، حيث تتردد أصوات المنشدين متداخلة ومستمرة بلا نهاية. وهو بالفعل ما تعكسه الموسيقى، إحساس المؤلف بالمكان ينقل للزائر مباشرة، يضيف نيك: «منذ أن سمعت القطعة أجدني أتذكرها في كل مرة أمر فيها بمبنى (الشارد)، فأصبحت جزءا من ذاكرتي الموسيقية».
«ميوزيسيتي» مشروع أطلق في عام 2010 حين قام نيك لاسكومب بدعوة موسيقيين ومغنين لتلحين قطع خاصة مستوحاة من زيارتهم لأحد المباني أو المواقع في عدد من المدن حول العالم. وتبقى القطع الموجودة على الموقع مرتبطة بنظام إلكتروني مرتبط بدوره بالمكان الجغرافي للموقع لفترة ما بحيث يمكن للزائر الاستماع لها عند زيارته للمكان. من أهداف المشروع، الترويج لأنواع جديدة من الموسيقى وتغيير تجربة الاستماع لها، ففي عصر يمكننا سماع الموسيقى أينما أردنا، يقدم هذا المشروع متعة البحث عن الموسيقى: «نريد من جمهورنا أن يخرج للشارع، وأن يصبح متلقيا نشطا للموسيقى، وأن يستكشف المدينة بطرق مختلفة».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».