تشهد الهند، التي كان اقتصادها هو الأسرع نمواً على مستوى العالم، حالياً تراجعاً اقتصادياً؛ وهو نبأ من المرجح أن يحبط المستثمرين الأجانب والحكومة الهندية على السواء، حيث تفوقت عليها الصين التي وصل ما حققته من نمو اقتصادي خلال الربع الأخير إلى 6.9 في المائة.
وأعلن المصرف الاحتياطي الهندي رسمياً تراجع النمو الاقتصادي الهندي على نحو مفاجئ خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي، حيث بلغ 5.7 في المائة فقط. ورغم أن هذا الرقم موضع حسد كثير من الدول، فإنه يعد الأضعف منذ بداية 2014، وأقل من المعدل البالغ 6.1 في المائة، الذي تم تحقيقه في مارس (آذار) الماضي، وأقل كثيراً من المعدل البالغ 7.6 في المائة الذي تم تحقيقه خلال العام الماضي. كذلك يعد معدل النمو الذي سجلته الهند أقل من المعدل الذي توقعه خبراء الاقتصاد البالغ 6.5 في المائة؛ ويشير هذا إلى تدهور الوضع الاقتصادي الهندي.
في كل الأحوال، اتفق أكثر الاقتصاديين على أن النمو سوف يتراجع بعد أشهر من القرار غير الموفق الذي أصدره رئيس الوزراء ناريندرا مودي بمنع تداول 86 في المائة من حجم العملة. مع ذلك، عندما أعلنت الحكومة الأرقام الرسمية الحقيقية خلال الأسبوع الماضي، التي أوضحت أن النمو الاقتصادي قد وصل إلى 5.7 في المائة مقارنة بالربع نفسه من العام الماضي، كان الرقم مفاجئاً بل وصادماً؛ حيث لم يكن أحد يتوقع تدني معدل النمو إلى هذا الحد.
وقال نيلكانث ميشرا، مخطط استراتيجي في مصرف «كريدي سويس» في الهند، في مقابلة إعلامية، إن الاقتصاد الهندي يمر بمرحلة ضبابية يخيم عليها الغموض في ظل احتمال عرقلة العوامل المتغيرة الاقتصاد الكلي للاستثمار، والنمو، مما يؤدي إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي، وكذلك العائدات المتوقعة خلال العام المالي المقبل.
أين الخطأ؟
رغم أن كل شيء يبدو سليماً، ما الذي أخطأت به الهند؟ بدأ خبراء الاقتصاد في إثارة مناقشات تحمّل سياسات الحكومة، مثل إلغاء تداول بعض العملات، والنظام الضريبي الجديد، مسؤولية التباطؤ الاقتصادي.
يذكر أن أكثر خبراء الاقتصاد قد توقعوا عدم تحقيق زيادة في إجمالي الدخل المحلي لمدة ربعين بعد نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، حين قررت الحكومة منع تداول بعض العملات الورقية بسحب 86 في المائة من حجم العملات من السوق، إلى جانب النظام الضريبي الجديد.
وقال أبهيك باورا، كبير خبراء الاقتصاد في مصرف «إتش دي إف سي» في نيودلهي: «يبدو أن الأرقام تشير إلى ازدياد التباطؤ منذ الربع الأخير بسبب حدوث تباطؤ طويل المدى، وعوامل صادمة مؤقتة مثل إلغاء تداول بعض العملات الورقية، وضريبة السلع والخدمات». كذلك صرح الخبير الاقتصادي أشوك غولاتي قائلا: «تباطؤ إجمالي الناتج المحلي إلى هذا الحد يثير القلق، لكنه لم يكن مفاجئاً تماماً، نظراً لاتخاذ قرار بمنع تداول بعض العملات، إلى جانب الضريبة المفروضة على السلع والخدمات».
وقد نتجت الأرقام الأخيرة الخاصة بإجمالي الناتج المحلي عن تباطؤ في مجالات البناء، والتصنيع، والخدمات التجارية، فقد تقلص النشاط في قطاع البناء بمقدار 3.7 في المائة في الربع الأخير، مقارنة بالربع نفسه من العام الماضي، بعدما حقق نمواً بمقدار 3.4 في المائة خلال الربع الذي يسبقه. وحقق قطاع التصنيع نمواً بمقدار 5.3 في المائة خلال الربع الأخير؛ أي أقل كثيراً من النمو البالغ 8.2 في المائة، الذي تم تحقيقه خلال الربع الذي انتهى في 31 ديسمبر (كانون الأول) الماضي. كذلك شهد قطاع الخدمات انخفاضا في النمو؛ حيث بلغ معدل النمو 2.2 في المائة مقارنة بالربع السابق.
وصرح كاوشيك باسو، كبير الخبراء الاقتصاديين، لوكالة أنباء «بلومبيرغ» خلال مقابلة بأن تباطؤ الاقتصاد الهندي نتج بشكل كبير عن إلغاء تداول بعض العملات الذي تمتد آثاره إلى العام المالي الجديد. ويعتقد باسو أن التراجع كان أكبر من المتوقع. ورداً على سؤال عن خطأ الحكومة في حساب حجم النقود السوداء في النظام المالي، وهو قرار خاطئ دفعت البلاد ثمنه غالياً في شكل تباطؤ النمو الاقتصادي، قال كبير المستشارين الاقتصاديين سابقاً: «الأمر الصادم هو أن 99 في المائة من العملات ذات فئة الـ500 والألف روبية، عادت إلى النظام المصرفي». وقد قال ذلك استناداً إلى البيانات الرسمية الصادرة عن المصرف الاحتياطي الهندي بشأن إلغاء تداول العملات. مع ذلك، يعتقد أن تأثير الصدمة سوف يتراجع بعد ربعين ما لم ترتكب الحكومة خطأ آخر مثل خطأ إلغاء تداول العملات. كذلك يتوقع أن يتعافى الاقتصاد بحلول عام 2018.
حدث هذا التباطؤ الاقتصادي نتيجة عوامل تتجاوز منع تداول بعض العملات أو أي ظاهرة أخرى مؤقتة؛ فهناك شيء ما خاطئ في سياسات الحكومة الهندية؛ ومن غير المرجح أن ينتعش الاقتصاد ما لم يتم إصلاح أوجه القصور والخلل. ربما تحدث طفرة حقاً على المدى المتوسط، فعلى سبيل المثال، قد يزيد المصنعون، الذين كانوا يتخلصون من المخزون لديهم تحسباً لنظام الضريبة غير المباشرة الجديد، أو الضريبة على السلع والخدمات، المخرج؛ وقد تنخفض الواردات قليلا نتيجة لتراجع الطلب المحلي.
الحكومة تشعر بالصدمة
أربكت البيانات الحكومة، وأثرت سلباً على الخطاب الخاص بالنمو الذي تتبناه حكومة مودي، التي تولت السلطة بتعهدها بتحقيق تنمية ومحاربة الفساد، وسيتعين عليها مواجهة الناخبين خلال أقل من عامين.
وصرح أرون جايتلي، وزير المالية الهندي قائلا: «إنه لمن المثير للقلق حقاً أن ينخفض إجمالي الناتج المحلي إلى هذا الحد، لذا من الواضح أن الأمر يمثل تحدياً بالنسبة للاقتصاد».
وأقرّ الوزير في معرض تعبيره عن قلقه من الزيادة التي تقل عن المتوقع، بأن التحدي الذي تواجهه الحكومة الآن هو وضع سياسات، واتخاذ إجراءات خاصة بالاستثمار، بغرض زيادة الزخم.
ومن الخيارات المطروحة تأجيل تنفيذ خريطة الطريق المالية من أجل دفع الاقتصاد للأمام بزيادة الإنفاق الحكومي. ومن المؤكد أن القيام بتوسع في السياسة المالية يتضمن مخاطر كبيرة، خصوصا في وقت أعلنت فيه كثير من حكومات الولايات، أو تفكر في إعلان، عجزها عن سداد قروض زراعية ضخمة، مما من شأنه زيادة سعر الفائدة، وتراكم مزيد من القروض الجديدة.
على الجانب الآخر، كان للاندفاع نحو التخلص من المخزون قبيل العمل بضريبة السلع والخدمات تأثير على التصنيع على حد قول جايتلي، الذي أضاف أن تراجع المخزون الكبير قد أدى إلى وصول القطاع إلى أدنى نقطة.
كذلك أحدث مصرف الاحتياطي الفيدرالي صدمة أخرى من خلال تقرير آخر أصدره بشكل متزامن ذكر فيه أنه تمت إعادة 99 في المائة من العملات التي تم وقف تداولها، مما يثير الشكوك والتساؤلات بشأن صحة القرار الصادم الذي تم اتخاذه في 8 نوفمبر (تشرين الثاني).
مع ذلك قال وزير المالية الهندي إن آثار القرار المذكور كانت «ضمن الحدود المتوقعة». وأوضح قائلا: «ليس معنى إيداع المال في المصارف أنها أموال مصدرها مشروع» في إشارة إلى 1.8 مليون حساب يقال إنها تخضع لفحص ضريبة الدخل. مع ذلك بعد الإعلان عن الأرقام الرسمية الخاصة بإجمالي الناتج المحلي، أقرّ بأن «البيانات تمثل تحديا بالنسبة للاقتصاد. نحن بحاجة للعمل بشكل أكبر على السياسات والاستثمار خلال الربع المقبل».
مبعث قلق... وإجراءات
يقول مسؤولون تنفيذيون في مجال الأعمال الهندي إنهم يشعرون بقلق أكبر إزاء تأثير القروض المتعثرة على ميزانيات المصارف، وهو ما يمنعهم من الاستفادة بالكامل من مزايا خفض معدل فائدة المصرف المركزي. وأوضحوا أن هذا الأمر يقضي على الحيوية الاقتصادية في الهند.
ويقول راغورام راجان، الرئيس السابق لمصرف الاحتياطي الفيدرالي، إن مشكلات الميزانية المزدوجة، والضريبة على السلع والخدمات، وإلغاء تداول بعض العملات، أسهمت في حدوث التباطؤ الاقتصادي. وأضاف قائلا إنه على الحكومة الهندية إصلاح ميزانية مصارفها، والشركات التي ترزح تحت عبء الديون، والعمل من أجل إعادة إحياء مشروعات البنية التحتية المتوقفة، خصوصا في مجال الطاقة، والتركيز على التصدير، إن كانت جادة حقاً في إعادة اقتصادها إلى المسار الصحيح.
وأوضح راجان، الذي عبر في وسائل الإعلام عن آرائه الخاصة بخصوص قرار إلغاء تداول بعض العملات، قائلا إن سمعة الهند بوصفها اقتصادا يتجه نحو الإصلاح لا تزال جيدة رغم ما شهدته مؤخراً من تباطؤ اقتصادي. وأضاف قائلا: «أنا أفكر في الجانب الإيجابي، فقد تم إجراء كثير من الإصلاحات، كان لبعضها، مثل الضريبة على السلع والخدمات، تأثير سلبي قصير المدى، لكن من المأمول أن يظهر تأثيرها الإيجابي على المدى الطويل. لقد تم إجراء إصلاحات، وأصبحت لنا سمعة جيدة في هذا الشأن».
مع ذلك، هناك مثار قلق آخر في الهند يتمثل في الترويج للصادرات. تحتاج الحكومة إلى التركيز بشكل أكبر على المبادرات السياسية القائمة على تدخل مالي ونقدي من أجل تعزيز الصادرات. يبدو أن قيمة الروبية الهندية تزداد بشكل مفتعل، وهو ما يضرّ بقدرة البلاد على التصدير، لذا تحتاج العملة إلى إجراء إصلاحي. كذلك ينبغي على الهند الاتجاه نحو خفض سعر الفائدة ليكون في مستوى سعر الفائدة في الدول الأخرى، حيث يساعد ذلك في دعم كثير من القطاعات.
وأخيراً يمكن القول إن البيانات الأخيرة الخاصة بإجمالي الناتج المحلي قد تسبب إزعاجاً كبيراً لرئيس الوزراء الهندي، الذي أتم لتوه 3 سنوات في الحكم.