السريالية... فلسفة الحرية

أصبحت موضة دارجة لا يخلو منها أي عمل فني أو ديوان شعري

أندريه بريتون - سلفادور دالي
أندريه بريتون - سلفادور دالي
TT

السريالية... فلسفة الحرية

أندريه بريتون - سلفادور دالي
أندريه بريتون - سلفادور دالي

ليس من السهل تبسيط النظريات الفلسفية المعقدة كالدادائية والسوريالية، ولكننا سنحاول ذلك. ومعلوم أنهما ظهرتا وراء بعضهما البعض في بدايات القرن العشرين، بل كانت الثانية بنت الأولى وامتداداً لها. فلا سريالية من دون دادائية. ولكن ما معنى هذه المصطلحات الهجينة والغريبة على الأذن العربية؟
لقد ظهرت الحركة الدادائية عام 1916 في مدينة زيوريخ بسويسرا على يد الكاتب تريستان تزارا. وكانت في البداية عبارة حركة عبثية فوضوية في مجال الفن والأدب عموما. وقد تشكلت بشكل عفوي أو عشوائي كرد فعل على مجازر الحرب العالمية الأولى. ومعلوم أنه سقط فيها ملايين البشر بين قتلى وجرحى ومعطوبين ومقعدين. ولذلك شعر الكتاب الأوروبيون بالغضب العارم تجاه هذه المذبحة الكبرى وقرروا الخروج على المألوف ومعارضة كل التقاليد الشائعة في المجتمع الأوروبي للتعبير عن غضبهم وتمردهم. فهذه التقاليد هي التي أدت إلى الكارثة في نظرهم. وبالتالي فيحق الخروج عليها. وهنا نلتقي بمشكلة العلاقة بين السياسة والثقافة. فكما أن المثقفين العرب هاجوا وماجوا بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) فإن مثقفي أوروبا جن جنونهم أيضا بعد مجزرة الحرب العالمية الأولى.
ولذلك قرروا الخروج على العقلانية الكلاسيكية في الأدب والفن لأن العقل لم يستطع أن يمنع اندلاع الحرب وقتل ملايين الشباب الأوروبي في معارك طاحنة وعبثية في آن معا. هذا هو الباعث الأول لتشكيل الحركة. وقد سموها «دادا» بشكل عشوائي أيضا لأنهم عندما كانوا مجتمعين في مقهى «فولتير» بزيوريخ فتحوا القاموس هكذا لا على التعيين فوقعوا على كلمة «دادا» فسموا حركتهم بها. وبالتالي فالعملية كلها اعتباطية أو عبثية من أولها إلى آخرها. ولكن العبثية تحتوي أحياناً على شحنات تحريرية هائلة. العبثية هنا تعني الفوضى المبدعة الخلاقة. وهذا ما كانوا يبتغونه. فليس بالعقل الصارم وحده يحيا الإنسان. العقل أحيانا قد يعني الاعتقال. ولذا فإن شطحات الخيال الجنونية أكثر ملاءمة للإبداع الأدبي من العقل الناشف أو العقلانية الضيقة. إنها وقود الشعر والنثر على حد سواء. ويوميا قد تحتاج لأن تعيش، ولو لثوان، لحظات سريالية، مرتفعا فوق سطح هذا الواقع الكئيب الباهت. شكراً إذن للشطحات الخيالية، شكرا للحظات السريالية.
المهم أن هؤلاء القوم قالوا في بيانهم التأسيسي إن الحركة الدادائية تهدف إلى التحرر من كل القيود المرهقة والأعراف الاجتماعية الامتثالية. إنها دعوة للانطلاق والحرية في الكتابة الأدبية أو الرسم التشكيلي أو أي تعبير آخر عن الواقع والوجود. وقالوا إن عبثية الحرب العالمية الأولى ينبغي أن تقابلها عبثية أخرى على صعيد الأدب والفن. والواقع أن الحركة الدادائية كانت عبارة عن رد فعل على قيم الحضارة الغربية بمجملها.
وهي قيم ترتكز على أساس العمل في المصانع من الصباح إلى المساء، وعلى النظام الصارم بل وشبه العسكري لهذا العمل بالذات. وقال مؤسسو الحركة إنهم قرروا الإضراب عن العمل والعيش بشكل هامشي والتسكع في الطرقات والدروب والعيش في الحانات. وهكذا ثاروا على المجتمع البورجوازي بكل قيمه الراسخة وأصبحوا يجدون الجميل قبيحا والقبيح جميلا على طريقة بودلير أو رامبو. ألم يقل رامبو في ديوانه الشهير فصل في الجحيم: «لقد أجلست الجمال على ركبتي ووجدته مريرا وشتمته»؟ ألم يعبر بودلير عن «أزهار الشر» أفضل تعبير؟ ألم ينزل إلى الطبقات السفلى للجحيم؟
وبالتالي فالحركة العبثية أو الفوضوية في الفن والشعر ظهرت قبل الدادائية وتجد جذورها عند رامبو المشهور بأنه كان أكبر متمرد وأزعر في التاريخ (هذا إذا ما استثنينا لوتريامون الذي فاقه جنونا وعبثية). وبالتالي فالحركة الدادائية هي في الأصل حركة تبحث عن الانعتاق والحرية. إنها مفعمة بالتمرد على كل شيء. ولكن هذه الحركة لم تدم طويلا، والشاعر الفرنسي أراغون يعتبر أنها انتهت بعد خمس سنوات من تأسيسها أي عام 1921 - 1922. ثم أردف قائلا إن قصائد تريستان تزارا أسكرتني وأنعشتني طيلة حياتي كلها.
وبعد موت الدادائية جاء دور السريالية التي كانت استمرارية لها مع بعض التوسيع والتنويع والتعميم. والواقع أن السريالية كانت هي الأقوى والأكثر رسوخاً وانتشاراً في العالم. فلا يزال هناك أدب سوريالي أو فن تشكيلي سوريالي حتى الآن. في حين أنه لم يعد هناك أدب دادائي.
لقد انتهى عهد ترستان تزارا وجاء عهد أندريه بريتون الذي أسس الحركة السريالية في باريس عام 1924: أي بعد موت الحركة الدادائية بسنتين فقط. فقد نشر في ذلك العام البيان السريالي الشهير الذي لا يقل خطورة عن البيان الشيوعي. وفيه يقول ما معناه إن السريالية تعتقد بوجود واقع يتجاوز الواقع الحالي الذي نراه ويتفوق عليه. إنه واقع ما فوق الواقع (وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية باللغات الأجنبية). إنه واقع الحلم والشرود الذهني والتوترات النفسية اللاواعية بذاتها.
وهذا الواقع الذي يتجاوز الواقع هو ما كان السابقون قد تجاهلوه وأهملوه. وبالتالي فإننا نكتشفه من جديد ونعيد إليه الاعتبار. والكتابة ناتجة عن هذا الواقع العُلوي، واقع الحلم والهيجانات النفسية وليس الواقع العقلاني الذي نراه أو نصطدم به كل يوم. بمعنى آخر فإن السريالية تعبر عن الوعي الباطني العميق لا الوعي الظاهري السطحي.
لهذا السبب خلع أندريه بريتون المشروعية على الكتابة الأتوماتيكية التي تسرح وتمرح، لا رادع لها ولا وازع. وهي كتابة حرة، منفلشة، تسير على هواها من دون قيود أو حدود. إنها الكتابة التي تفلت من سيطرة العقل الواعي الذي يشبه الشرطي المسلط فوق رأسك من حيث المراقبة والقمع. والعقل الواعي الجمعي هو العقل الامتثالي السائد. إنه العقل الإرهابي للمجتمع الذي جنن فان غوخ ودفعه إلى الانتحار دفعا. انظروا لكتاب أنطونين آرتو: «فان غوخ، منحور المجتمع». ومعلوم أن آرتو ذاته جننه المجتمع أيضا. بل وجنن عباقرة آخرين عديدين. المجتمع أحيانا قاس لا يرحم.
على هذا النحو راحت الحركة السريالية تشق طريقها وتسيطر على الأجواء الأدبية والفنية الباريسية طيلة العشرينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي. بل وأصبحت موضة دارجة لا يخلو منها أي عمل فني أو ديوان شعري أو كتابة أدبية أيا تكن. فبيكاسو في مجال الفن التشكيلي كان سرياليا أيضا أو قل مر بالمرحلة السوريالية قبل أن يتجاوزها إلى مدارس أخرى. وقل الأمر نفسه عن سلفادور دالي الذي كان يجسد الجنون الكامل في الرسم والفن. وقد أطلق لمواهبه وبواعثه الدفينة العنان وأنتج لوحات سريالية رائعة لا تزال تدهشنا حتى الآن.
والواقع أن السريالية تعني في أحد معانيها تحرير الطاقات الدفينة الكامنة في أعماقنا والمقموعة من قبل المجتمع الذي نعيش فيه. وهذا هو أجمل معنى للسريالية. فالمجتمع يمنعنا من الانطلاق، من التعبير الحر عن كل ما يجول في خاطرنا بحجة أنه نجس أو شاذ أو مجنون أو غير طاهر أو لا أخلاقي، الخ. السريالية تقول لنا: تحرروا من كل ذلك، عبروا عن أنفسكم، انطلقوا، لا تترددوا في كتابة حتى الأشياء المخجلة التي قد تخطر على ذهنكم حتى ولو صدمت المجتمع. نعم إن الموقف السريالي هو موقف تحد تجاه المجتمع. نعم إنه يهدف إلى تحرير الطاقات المخزونة والتعبير عن أشياء ما كان أحد يتجرأ على البوح بها سابقا وفي طليعتها الأشياء الجنسية.
هذا وقد اعتمد السرياليون على مرجعيات أدبية وشعرية كبرى تعود إلى القرن التاسع عشر من أجل تدعيم حركتهم الفنية الجديدة. ومن أهم هذه المرجعيات الشاعر جيرار دونيرفال الذي مات مجنونا بل ومنتحرا في عز شبابه. شنق نفسه على عمود كهرباء في ساحة شاتليه وسط العاصمة الفرنسية. ومعلوم أنه خلّف وراءه كتابات رائعة يختلط فيها الحلم، بالذكرى الوهمية، بالجنون. وربما كان هو أول من اخترع مصطلح السريالية أو بالأحرى ما فوق الطبيعية. فقد كان يعتقد بوجود عالم آخر غير هذا العالم الطبيعي الواقعي الذي نعيش فيه. إنه عالم ما فوق طبيعي أو ما فوق واقعي. إنه عالم يقف وراء هذا العالم مباشرة. ثم تبنى السرياليون أيضا شاعرا منبوذا جدا هو: لوتريامون.
ومن مرجعيات السرياليين أيضا الشاعر الكبير آرثر رامبو الذي دعا إلى تغيير الحياة. ومعلوم أن ديوانه المدعو «بالإشراقات» مليء بالأشعار الغامضة والصور المتفككة التي تعبر عن اختلاجات الوعي الباطني والتي تخرج على منطق المعنى المتماسك كليا. بمعنى آخر فإنه ديوان لا معنى له أو يصعب أن تعثر فيه على معنى متماسك. من هنا جاذبيته التي لا تضاهى.
ومن مرجعياتهم أيضا فرويد بالطبع لأنه اكتشف منطقة اللاوعي: أي تلك القارة السحيقة والمظلمة من أعماق الإنسان. بل ومن مرجعياتهم كارل ماركس الذي قال: «من قديم الزمان والفلاسفة مشغولون بتفسير العالم، وقد آن الأوان لتغييره». وبالتالي فالحركة السريالية هي حركة ثورية راديكالية على كل الأصعدة والمستويات: أي على صعيد التعبير الشكلي، واللغة، والأسلوب، والفن التشكيلي.
كما أنها ثورية على مستوى الأفكار والمضامين. ولهذا السبب جذبت إليها شعراء كبارا ليس أقلهم رينيه شار، وأراغون، وبول ايلوار، وسواهم عديدين. بل وحتى السينما أصبحت سريالية.
ثم انتقلت الحركة الباريسية إلى شتى أنحاء العالم. فهناك سريالية فرنسية وألمانية وروسية بل وحتى عربية... الخ. هذا وقد عشنا لحظات سريالية كثيرة في باريس أيام زمان. وساعدنا ذلك على التحرر من القمع الشرقي الرهيب الذي كان يلاحقنا ويمنعنا من الانطلاق والانعتاق. تحررنا من تربية ذلك الشيخ المتزمت المظلم الذي كان عبقرياً في فن القمع والكبت والإرهاب. هل سنمضي عمرنا كله في محاولة التخلص منه؟



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).