عبد المقصود خوجه: ماذا تفعل الثقافة إزاء مجتمع يعشق الفن والرياضة؟

مؤسس «الاثنينية» يأمل احتضانها من الجامعة العربية بعيدا عن السياسة والطائفية والعنصرية

مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام  د. عبد المقصود خوجه
مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام د. عبد المقصود خوجه
TT

عبد المقصود خوجه: ماذا تفعل الثقافة إزاء مجتمع يعشق الفن والرياضة؟

مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام  د. عبد المقصود خوجه
مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام د. عبد المقصود خوجه

عند الثامنة من مساء الاثنين، في موسم ثقافي يتكرر كل عام، تصل الشخصية المكرمة لدارة الوجيه المكي الذي امتزج بالثقافة وحمل همّها؛ الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه بحي الروضة في جدة غرب السعودية، تستقبلها نخبة من أهل العلم والأدب والمجتمع في مجلس فسيح، قبل أن ينتقلوا عند التاسعة مساء، مسافة خطوات، إلى المنصة الرئيسة في ساحة تلتحف السماء مطلة على حديقة خضراء. يجلس المحتفى به على صدر المنصة وعن شماله خوجه وخلفهما لوحة الإهداء، مصنوعة من قماشة سوداء من الصوف الفاخر مشابهة لكسوة الكعبة ومطرزة بالقصب المذهب بعبارة «الحمد لله رب العالمين»، عليها اسم الضيف والمضيف.
ينظر خوجه أمامه في الطاولات المستديرة المصطفة تباعا أمام المنصة فلا يجد ذلك الجمهور الغفير الذي يتمناه، ما دفعه إلى وصف مرّ «نجد أنفسنا مهزومين خاصة عندما يأتينا الضيف من خارج الحدود ويرى أمامه حضورا باهتا» ثم يضيف مفسرا «ماذا تفعل (الاثنينية) والمنتديات والأندية الثقافية عموما إزاء مجتمع يعشق معظمه الفن والرياضة!»، ويأمل خوجه، كما يقول في هذا الحوار معه، في «غرس (الاثنينية) في مختلف الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية وتوأمتها مع نظيراتها أو إنشاء وحدات مستقلة في كل بلد تعمل على ذات النهج في إطار التكريم والاحتفاء والتوثيق الأدبي والثقافي والفكري، بعيدا عن السياسة والخلافات الدينية والمذهبية أو العنصرية أو تصفية الحسابات بين التيارات المختلفة». هنا نص الحوار:

* هل تشعر أنكم حققتم في «الاثنينية» ما تتمنون؟
- لا ندعي أننا وصلنا بـ«الاثنينية» إلى ما تصبو إليه من طموحات، إلا أن ما يقلقنا إحجام بعض الأوساط الثقافية عن حضور فعالياتها، فنجد أنفسنا مهزومين خاصة عندما يأتينا الضيف من خارج الحدود ويرى أمامه حضورا باهتا، بالإضافة إلى أن الإعلام لم يقم بدوره تجاهها كما هو مأمول منه، باستثناء بعض الصحف، رغم تواصلنا المكثف مع جميع ألوان الطيف الثقافي والأدبي عبر مختلف وسائط الاتصال الحديثة المتنوعة.
* بماذا تفسر «الإحجام» الإعلامي والثقافي، كما وصفته؟
- ماذا تفعل «الاثنينية» والمنتديات والأندية الثقافية عموما إزاء مجتمع يعشق معظمه الفن والرياضة! وتفرد الصحافة المحلية صفحات مقدرة، وتحجب فعاليات ثقافية مميزة، أو تنشرها على استحياء لرفع العتب أحيانا رغم أنها شرفت بتكريم الكثير من المبدعين في مختلف مجالات العطاء الإنساني داخل المملكة وخارجها!
* هل تنوي «الاثنينية» الامتداد إلى دول عربية كمحاولة لزيادة الانتشار؟
- وددت غرس «الاثنينية» في مختلف الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية بدعم ومؤازرة وزيارات متبادلة في البدء، ثم توأمة «الاثنينية» مع نظيراتها أو إنشاء وحدات مستقلة في كل بلد تعمل على ذات النهج في إطار التكريم والاحتفاء والتوثيق الأدبي والثقافي والفكري، بعيدا عن السياسة والخلافات الدينية والمذهبية أو العنصرية أو تصفية الحسابات بين التيارات المختلفة، ومن ثم نترك لمثقفيها إدارتها وتحريك فعالياتها وفق مرئياتهم ومكوناتهم الثقافية وعاداتهم وتقاليدهم، وبطبيعة الحال نسعى قدر الإمكان بمدهم بخبراتنا التراكمية وشيء من الدعم الأساسي، إلا أننا لا نزال نصطدم بكثير من العوائق التي تحتاج إلى تذليل، وبعزيمة كثير من الإخوان أعتقد سنتمكن من النجاح ولكن الدرب طويل.
* بتنا نلاحظ أخيرا انفتاح «الاثنينية» على تكريم شخصيات من خارج السعودية، هل هي استراتيجية جديدة؟
- هي ذات الاستراتيجية منذ اثنين وثلاثين عاما في تكريم المبدعين الذين بلغ عددهم حتى اليوم 483 شخصية محلية وإقليمية وعالمية منذ تأسيسها عام 1982. ففي العام 1985 كرمت «الاثنينية» زكي قنصل من الأرجنتين، ومن الهند الشيخ أبو الحسن الندوي، وفي 1988 الشيخ أحمد ديدات من جنوب أفريقيا، ووصلت شرقا حتى روسيا بتكريمها ألكسي فاسيليف في 2005. وأوليق بريسيسلين في 2008، والسفير بنيامين بوبوف في 2010. هذا على سبيل المثال لا الحصر.
* الاستمرار في ذلك يقتضي نوعا من «المأسسة»، ما هي الخطوات التي اتخذتموها للحفاظ على استمراريتها ثقافيا وماديا؟
- صحيح، وإيمانا منا بأن المنظومة المؤسساتية باتت من الضروريات لضمان الاستمرارية فقد سعيت منذ وقت مبكر للخروج بها من عباءة العمل الفردي إلى آفاق العمل المؤسسي في عالم اليوم الذي يعيش ثقافة المؤسسات التي تقدم الطرح المستدام وتضمن تواصل المسيرة. وللأسف لم أتمكن إلا من تشكيل مجلس رعاة ضم كوكبة من أصحاب الفضل توزعت مسؤولياتهم بين التخطيط قصير المدى وبعيد المدى، وخطت خطوات واسعة في هذا المجال، إلا أنها اصطدمت بعوائق لا بد من تذليلها والعمل عليها. ويتكون المجلس من الدكاترة: عبد الوهاب أبو سليمان، ومحمد عبده يماني، ومدني علاقي، ومحمود سفر، ورضا عبيد، وسهيل قاضي، وناصر الصالح، وعبد الله مناع، وعبد المحسن القحطاني، والأساتذة عبد الفتاح أبو مدين وأنور عشقي، ومحمد سعيد طيب.
* نشرتم الكثير من كتب الرواد.. ما هي الصعوبات التي تواجهها «الاثنينية» للحصول على النسخ القديمة أو موافقة أصحاب الحقوق؟
- استطاعت «الاثنينية» التغلب على كثير من الصعوبات والتحديات التي واجهتها، منها عدم تعاون بعض أبناء الأدباء، أو ضياع الإرث الثقافي الإبداعي بسبب عدم الاهتمام بقيمته العلمية، وأحيانا يصل الأمر ببعض الأبناء ببيع المكتبات الخاصة بآبائهم بثمن بخس! وبإصرارنا على النجاح، استطعنا التغلب عليها بالتواصل المستمر والإلحاح، لأن هدف «الاثنينية» جمع وتوثيق الأعمال الأدبية للرعيل الأول من الأدباء السعوديين الذين تناثرت أعمالهم مما صعب على المهتمين والباحثين الحصول عليها، وهو هاجس ظللنا نعاني منه بشدة ولكن كان التوفيق يحالفنا لأننا لا نبتغي من وراء ذلك منفعة مادية أو معنوية.
* لماذا لا يكون هناك توأمة بين «الاثنينية» ودور نشر محلية أو عربية تشرف على توزيع هذه الإصدارات؟
- من الأركان الثابتة التي قامت عليها «الاثنينية» أن إصداراتها غير مخصصة للبيع إنما تهدى مجانا «من الباب للباب» لكثير من المهتمين بها داخليا وخارجيا وعلى نطاق واسع. وبالتجربة فإن قنوات التوزيع المباشرة الملحقة بجهاز «الاثنينية» تظل أفضل طريقة لإيصال الإصدارات للمهتمين بها.
* ولكن ألا ترى أن التوزيع المجاني لإصدارات «الاثنينية»، يقلل من قيمتها؟
- أعتقد أن القارئ الحصيف لا يفرق بين كتاب مجاني وآخر، وتبقى الفائدة الثقافية سيدة الموقف، كما أن توزيع إصداراتها مجانا فيه تيسير وتبسيط للباحثين والدارسين الذين كثيرا ما يلجأون لـ«الاثنينية» لتزويدهم بالأعمال الكاملة للرعيل الأول.
* اعتادت «الاثنينية» تكريم الأدباء والشخصيات العامة البارزة، البعض يطالب أيضا بتكريم المنجز الثقافي ممثلا في «الكتاب» المهم والذائع؟
- المتتبع لفعاليات «الاثنينية» يجد اهتماما نوعيا بهذا الجانب منذ وقت مبكر وتحديدا منذ العام 1986. حين احتفت بكتاب الدكتور عبد الله الغذامي «الخطيئة والتكفير»، كما احتفت بكتاب الدكتور محمد عبده يماني وقراءة في كتابه «أبو هريرة الصحابي الجليل»، وأخيرا كتاب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان «باب السلام» وكتاب عبد الفتاح أبو مدين «حياتي في النادي» وكتاب الدكتور عبد الله مناع «بعض الأيام بعض الليالي» وكتاب الدكتور محمود سفر «أحداث سبتمبر» والقائمة تطول.
* وماذا عن الشباب المميز في المجال الثقافي والإبداعي، الذين يمثلون الشريحة الاجتماعية الأعظم من نسبة السكان؟
- لـ«الاثنينية» دورها المؤطر وأهدافها المعلنة. فهي لتكريم العلماء والأدباء والمفكرين والاحتفاء بأعمالهم وإنجازاتهم. لقد سعدنا خلالها بإقامة جسر يربط بين روادها الأفاضل والشباب المتطلعين للاستفادة من خبرات وتجارب الرعيل الأول الذين وهبوا شطرا من حياتهم لخدمة الثقافة والفكر والأدب والعلم، فكم جمع هذا المنتدى الأدبي الثقافي بين قامات سامقات أمثال أساتذتنا الكبار: عبد القدوس الأنصاري، طاهر زمخشري، عبد الله بلخير، محمد حسين زيدان، عزيز ضياء، عبد العزيز الرفاعي، عمر أبو ريشة، أحمد السباعي، أبو تراب الظاهري، وغيرهم من أساطين الكلمة، وما زال التيار قويا لجمع الشباب مع كوكبة من العلماء الأفذاذ الذين أثروا أمسياتنا بكل مفيد في مختلف حقول العطاء والإبداع. وتشجيعا لهؤلاء الشباب فقد كرمت بعضهم مثل الشاب عصام مرزا باعتباره أصغر شاعر عندما كان في المرحلة الثانوية، في العام 1995، والشاب وائل أمان الله لنبوغه في مجال الحاسب الآلي في 2005، وتظل «الاثنينية» على ذات المنهج بتكريم المبدعين بغض النظر عن الجنس واللون والعمر والنوع.

* عبد المقصود خوجه و«الاثنينية»: 32 عاما من العطاء الثقافي
* يطوي عبد المقصود محمد سعيد خوجه 32 عاما من عمر منتدى «الاثنينية» الأدبي الذي ولد على يده في جدة عام 1982، كتقليد استمد جذوره من حفلات التكريم التي كان يقيمها والده محمد سعيد خوجه على ضفاف مواسم الحج لكبار الأدباء والشعراء والعلماء الذين يأتون ضمن وفود بلادهم لأداء مناسك الحج، واستمر حتى اليوم. وبلغ عدد الشخصيات التي كرمتها «الاثنينية» من الجنسين حتى الآن 283 شخصية محلية وإقليمية وعالمية، كما أصدرت 62 عنوانا في 183 مجلدا، جمعت فيها نتاج الرواد من المفكرين والأدباء والشعراء في السعودية.
ولد عبد المقصود خوجه وتلقى تعليمه الأساسي في مكة المكرمة بمدارس الفلاح، ثم أكمل تعليمه بالمعهد العربي الإسلامي بدمشق. عمل بعدها مندوبا من الديوان الملكي إلى المفوضية السعودية ببيروت وبعدها بالمكتب الصحافي بالسفارة السعودية، ثم مديرا للإدارة العامة للصحافة والإذاعة والنشر بجدة قبل تأسيس وزارة الإعلام. استقال من العمل الحكومي عام 1964. واتجه إلى الأعمال الحرة حيث أسس عدة شركات في مجال أعمال البناء والمقاولات والصناعة، جعلته يغدق بسخاء كبير على المنتدى الثلاثيني.
في المقابل حصلت «الاثنينية» على نصيبها من التكريم، سواء على الصعيد الاجتماعي في منتديات ثقافية وأدبية مثل اثنينية الشيخ عثمان الصالح بالرياض، ومنتدى الشيخ علي حسن أبو العلا بمكة المكرمة، ومنتدى بوخمسين في الأحساء. وكذلك على المستوى الرسمي إذ حصلت «الاثنينية» على جائزة مكة للتميز، تسلمها خوجه في 2010 من الأمير خالد الفيصل وزير التربية والتعليم الحالي أمير منطقة مكة المكرمة آنذاك، ثم تقليده وسام الثقافة من الدكتور عبد العزيز خوجه وزير الثقافة والإعلام ضمن فعاليات معرض الكتاب بالرياض في 2010.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!